في خضم الحروب والمعاناة، حيث تتحول الحياة إلى سلسلة لا تنتهي من القلق والخسارات، تتشابه التجارب الإنسانية رغم اختلاف الزمان والمكان. في عالم تتكاثر فيه الصراعات حتى التوحش، يبقى الأدب ملاذًا، والكتّاب شموعًا صغيرة تضيء العتمة لمن أثقلهم الألم.
من بين هؤلاء الكتّاب يبرز اسم الفرنسي ألبير كامو، الذي عاش زمنًا ملتهبًا بالحروب، وصاغ من تجربته رؤية عميقة للعبث والمقاومة. وهي تجربة بدت قريبة على نحو مدهش من حياة صديقتي إيمان، الفتاة الفلسطينية التي تعيش في غزة تحت وطأة الحرب. كانت إيمان تجد في نصوص كامو عزاءً خاصًا، كأنها تنقّب فيها عن صوتٍ يفهم ألمها، ويمنحها نوعًا من العلاج الروحي والهروب النفسي.
لكن، لماذا ألبير كامو تحديدًا؟ وكيف يمكننا أن نستمر في قراءته باعتباره ملاذًا روحيًا، دون أن نتوقف عند تناقضاته الفكرية، أو نتأمل مواقفه من قضايا الشعوب المقهورة التي تشبه ما تعيشه إيمان؟
كانت هذه التساؤلات تمثّل جوهر النقاشات والمسامرات الأدبية التي جمعتني بصديقتي إيمان الغزّية، عبر رسائلنا اليومية القادمة من تحت القصف — أنا، ابنة الجزائر، مسقط رأس الأديب ألبير كامو.
أصداء الحرب والأدب.. وحكاية الأمل بين السطور
مريرة هي الحياة تحت وطأة الحروب، حيث ينجم عنها واقع أليم يتطلب قوة ذهنية وصمودًا استثنائيًا. في قلب هذا الجحيم، تعيش إيمان تجربة قاسية تحت القصف المستمر وأصوات الانفجارات المدوية، في حرب إبادة ممنهجة تشنها إسرائيل الإرهابية بلا هوادة على غزة.
في ضوء هذه الأجواء القاتمة، لجأت الشابة الحالمة والطموحة إلى القراءة، فكان الأدب ملاذها الآمن، وكانت السطور منارات تهديها وسط العتمة. شغفت بكتابات ألبير كامو، لتطرح تساؤلات عميقة: كيف تتحول الكلمات إلى أداة للشفاء والتمكين في أوقات الشدة والصراع؟ إلى أي مدى تنسجم أفكار كامو مع واقع الفلسطينيين؟ وكيف تستطيع إيمان أن تستمر في استلهام الأمل من كاتب قدّم الحرية كأسمى غاية في الحياة، بينما أنكرها على الشعب الجزائري إبّان ثورة التحرير الكبرى؟
كانت كتابات كامو بالنسبة لها أشبه بـ"سدّ جوع عقلي ونفسي"، فتعزّزت علاقتها به كصديق، ومعالج داخلي، ورفيق وجودي في مواجهة عبث الحياة
مع تبنيها والتزامها بعادة القراءة، أدركت صديقتي دومًا أن الأدب مرآة للنفس البشرية، يسبر أغوارها، ويعكس تعقيداتها، مستكشفًا المشاعر والأفكار، ومعبرًا عن الآمال والأحلام، كما عن الآلام والصراعات التي يواجهها الإنسان.
فالأدب بما يحمله من قدرة على فهم العالم حولنا وانعكاسنا فيه، يسمو عن كونه مجرد تعبير فني، ويرتقي إلى كونه أداة تواصل بين الأجيال والثقافات، ووسيلة لتوثيق التجارب الإنسانية، وتحفيز التفكير النقدي، وتكريس قيم التعاطف والمشاعر الإنسانية المشتركة.
اللقاء الأول مع كامو في غزة
تبدأ القصة حين تعثّرت إيمان الغزّاوية بأول كتاب قرأته لكامو، "السقوط"، لتجد نفسها أمام مواقف وشخصيات تحاكي مشاعرها وأفكارها. توالت قراءاتها مع "أسطورة سيزيف" و"الموت السعيد"، وكانت تلك الكتب بالنسبة لها نوافذ تُفتح على عوالم أخرى وآفاق جديدة.
تتحدث إيمان بفخر عن قدرتها على الربط بين أفكار كامو وما تعيشه من واقع مرير تحت ويلات الحرب، معتبرةً أن كتبه تجسّد صراعات إنسانية أزلية.
لم تكن تجربة الفتاة الغزّاوية مع القراءة مجرد هواية، بل تحوّلت إلى رحلة لاكتشاف الذات والنجاة. تعترف بأنها كانت لتفقد توازنها لولا هذه الفضاءات الأدبية التي منحتها ملاذًا نفسيًا وروحيًا. كانت كتابات كامو بالنسبة لها أشبه بـ"سدّ جوع عقلي ونفسي"، فتعزّزت علاقتها به كصديق، ومعالج داخلي، ورفيق وجودي في مواجهة عبث الحياة.
تلخّص إيمان فلسفة كامو من خلال تناوله لمفهوم اليأس، حيث استطاع أن ينسج خيوطًا متشابكة بين العبثية كصفة للحياة، والتمرّد كوسيلة لمواجهتها والسعي إلى خلق المعنى عبر الأفعال، التجارب، والعلاقات. فهو لا يقدّم اليأس كفكرة نهائية، بل يستكشف علاقته بالمعنى، ويرى فيه بدايةً لفهم أعمق للحياة. فلسفة كامو، من هذا المنظور، ليست متشائمة، بل دعوة للعيش بشجاعة رغم الألم، وتشجيع على التمرّد والإبداع كوسيلة لصنع معنى في عالم لا ضمانات فيه.
تُصرّ إيمان على أن قراءتها لكامو نابعة من تجربتها الشخصية واختبارها لشعور اليأس والبحث عن الذات في خضمّ الحرب والمعاناة اليومية. وتؤكد أن تعلّقها بكتاباته لا يعني تسليمًا كاملًا يخلو من النقد، بل هو محاولة لاستكشاف رؤى جديدة لفهم الواقع المأساوي في غزة، واستعادة الحكاية الفلسطينية من خلال عدسة فلسفية عميقة تتجاوز الزمن.
عوالم كامو بعيون جزائرية
كامو، الجزائري المولد، الفرنسي الجنسية والمناخ، عايش الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي لفرنسا، إضافة إلى حرب الجزائر، فكان شاهدًا على أهوال الحروب وأثرها العميق على النفس البشرية. ولطالما شكّل مجمعًا للتناقضات.
فهو الأديب والمفكر الذي ينحدر من مجتمع "الأقدام السوداء" — المستوطنين الفرنسيين في الجزائر — وتربطه علاقة معقدة للغاية بوطنه الأم. ناضل، قبل اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، من أجل تحسين أوضاع الجزائريين، مطالبًا بمنح خرّيجي المدارس الابتدائية من الجزائريين الجنسية الفرنسية.
غير أن موقفه من مذابح 8 أيار/ماي 1945 اتّسم بالاحتشام والبرود، مما أثار تحفظات كثيرة حول مدى التزامه الحقيقي بقضايا العدالة.
في المقابل، كان كامو يطمح إلى أن يكون "راعيًا للسلام" بين الجزائريين والمستعمرين. وإدراكًا منه لتنامي الحسّ القومي الجزائري، دعا عبر الصحافة إلى ما سمّاه "غزوًا ثقافيًا"، أي استمالة قلوب وعقول الجزائريين للحفاظ على "الجزائر الفرنسية". هذا الطرح جعله يبدو للبعض أقرب إلى اليسار وأكثر انحيازًا للإنسان "بغض النظر عن أصوله وخلفياته".
غير أن الواقع أظهر خلاف ذلك، إذ ظلّ انحيازه الفعلي لمجتمع المستوطنين الفرنسيين، وظلّ ولاؤه الأوحد لفرنسا الكولونيالية.
ومع تصاعد التوترات في أواخر الخمسينيات، واندلاع الثورة الجزائرية الكبرى، انفضحت نزعة كامو الاستعلائية، النابعة من عقدة تفوّق العرق الأبيض، كما انعكست بوضوح في أعماله التي كُتبت خلال تلك المرحلة.
من "المنفى والملكوت"... إلى "الرجل الأول"
في مجموعته القصصية "المنفى والملكوت"، عبّر ألبير كامو عن قلقٍ متزايد تجاه تصاعد الحس القومي لدى الجزائريين. من بين القصص اللافتة في المجموعة، تبرز "المرأة الزانية"، التي تسرد رحلة الفرنسية جانين إلى عمق الصحراء برفقة زوجها بائع الأقمشة.
تُسجّل القصة انطباعات كامو الذاتية عن العرب، عبر لسان جانين، التي تشعر بالغربة وسطهم، وتعلّق على لغتهم التي اعتادت سماعها طيلة حياتها دون أن تفهمها. وفي المشهد الأخير، تستيقظ جانين ليلًا، تحدّق في الأفق، وفجأة تتوقف الأصوات القادمة من البلدة العربية. يقول كامو في عبارة دالّة: "كانت العقدة التي عقدتها العادة والملل والسنون تنحلّ رويدًا رويدًا". تحمل هذه الجملة رمزية توحي باختفاء العرب، وكأنها تعكس رغبة دفينة في محوهم من المشهد، ورفضًا ضمنيًا لتاريخهم على هذه الأرض.
لاحقًا، بدأ كامو يُظهر دعمه العلني لأفكار المستوطنين الفرنسيين، وبلغ هذا التوجه ذروته في روايته الأخيرة "الرجل الأول"، التي كتبها قبل وفاته، وتُعد تجسيدًا لصراع المستوطنين الوجودي، إذ تعكس مشاعر الخوف والإحباط التي تملّكتهم مع تصاعد ثورة الجزائريين الساعين لاسترداد أرضهم.
تؤمن إيمان أن قراءة كامو، خصوصًا في زمن الحرب، تتحوّل إلى تجربة غنية بالرموز والتأملات الوجودية، تبحث عن بصيص أمل وسط الألم
في فقرة ذات دلالة، يصوّر كامو أحد المستوطنين وهو يقتلع الكروم من أرضه كي لا يستفيد منها العرب لاحقًا. وعندما يُسأل عن فعله هذا، يجيب ساخرًا: "أيها الشباب، بما أننا ارتكبنا جريمة، فيجب أن نمحوها". وهنا، يصوّر كامو المستوطن في موقف مأساوي يستجلب تعاطف القارئ، لكنه في المقابل يتجاهل ذكر الجريمة الأصلية: قرار الجنرال دي لامورسيير والحاكم العام بيجو عام 1830، الذي قضى بإتلاف المحاصيل، واقتلاع أشجار الزيتون، وتدمير الحقول، والاستيلاء عليها، لمنع الأهالي من الاستفادة منها، وهي لحظة حالكة ومفصلية في تاريخ الغزو الاستيطاني الفرنسي للجزائر.
أما بالنسبة للجزائريين، فالأمر محسوم: لا غفران لكامو على مواقفه المناهضة لاستقلالهم، وعلى وصفه لثورتهم بأنها عبثية وتخريبية.
بين كامو وإيمان الغزّاوية: انتصار مختلف على اليأس
إن الخيط الرفيع الذي يربط بين تجربتي كامو وإيمان الغزاوية هو الانتصار على اليأس. فالقراءة، في هذا السياق، ليست مجرد هروب من الواقع، بل رحلة لاكتشاف المعنى والذات.
تؤمن إيمان أن قراءة كامو، خصوصًا في زمن الحرب، تتحوّل إلى تجربة غنية بالرموز والتأملات الوجودية، تبحث عن بصيص أمل وسط الألم. وهي تحاول فهم مفهوم الألم عند كامو كصيغة مجرّدة لا تعترف بالخصوصيات الثقافية والسياسية. لكنها، بين التقدير والانتقاد، تجد نفسها عابرة بين أدبه والواقع الفلسطيني، باحثة عن إمكانية لبلورة إجابات وجودية كبرى، تُكمّل صورة إنسانية أشمل تتّسع لكل الشعوب.
وهنا يكمن موضع الاختلاف بيني وبين صديقتي العزيزة إيمان. فمن موقعي كجزائرية، لا يمكنني أن أقدّر أديبًا أنكر على القومية الجزائرية حقّها في الوجود، تمامًا كما حرم شخصياته العربية من الأسماء، مكتفيًا بلفظ "العربي" (L’Arabe) في رواياته: الطاعون، المنفى والملكوت، الرجل الأول، والغريب.
لعلّ النقاش حول أعمال كامو في سياق القضية الفلسطينية يمثّل تحديًا كبيرًا؛ فهو كاتب يُجسّد صوتًا إنسانيًا مليئًا بالقلق والتساؤلات الوجودية، لكنه في الوقت نفسه يُظهر عجزًا في إدراك السياقات السياسية والحضارية.
مأساة كامو لا تقتصر على الاغتراب المكاني والزماني، بل تشمل الاغتراب الحضاري أيضًا، حين عجز عن التوفيق بين القومية والإنسانية. فرغم كونه أديبًا وفيلسوفًا عايش ذروة المدّ الكولونيالي، لم يُسعفه وعيه الثقافي لاستيعاب التغيرات الدراماتيكية على المشهد العالمي، من صعود المد التحرري إلى تراجع الاستعمار التقليدي.
بل تحوّل، في نهاية المطاف، إلى مُرافع عن شرعية الاحتلال، متنكرًا لمبادئه المعلنة عن الحرية والتمرد. وقد بدا، كما وصفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، مثقفًا مُدّعيًا.
تُظهر تناقضات كامو المستمرة الحاجة إلى فتح تساؤلات أعمق حول انتقائية المثقفين، وحدود مفاهيمهم بشأن الحرية والحقوق والعدالة، ومتى تكون شاملة، ومتى تُمارَس بانتقائية خاضعة للهوية والانتماء.