19-يونيو-2019

الرصاص والدماء كانا عنوان الأيام الماضية في السودان (BBC)

مرت الأيام الماضية ثقيلة على السودانيين، وكانت كفيلة بأن تجعل كل واحد منهم قاصًا لا يُشقّ له غبار، وأصبح بمقدور الرواة شحذ أدواتهم من الواقع، بما لا قدرة للخيال مطاوعته، حين رأينا الموت والرصاص والعزلة والمتاريس والعصيان والانتهاكات والجثث طافحة في صباحات العيد، والكعك مُسوَد اللون بلا طعم، وخرجت الخرطوم مدماة، متعبة ومدمرة بالمرة.

مرت الأيام الماضية ثقيلة على السودانيين، حين رأوا الموت والرصاص والعزلة والمتاريس والعصيان والانتهاكات والجثث طافحة في صباحات العيد

في ليلة فض الاعتصام، وهي الليلة التي كانت واقعة لا محالة، ولم يتوقعها أحد خشية أن يكون القتل فيها أسهل من إلقاء تحية، وخشية أن تأكل الثورة ثُوّارها، أو يجتر التاريخ سلسلة الأحداث المريرة، إلى درجة يبسط ميدان رابعة بمصر الحبل إلى ميدان الاعتصام بالخرطوم، في وصلة غدر مُحزنة وتآمر على الإرادة الشعبية.

اقرأ/ي أيضًا: بعد تعليق العصيان المدني.. أي مصير ينتظر المسار السياسي في السودان؟

صباح الثالث من حزيران/يونيو، تم فض الاعتصام، بتلك البشاعة التي رآها العالم أجمع، وما خفي منها أعظم. ولم تستغرق العملية المباغِتة سوى ساعات قليلة، بالتزامن مع قطع خدمة الإنترنت بالكامل، إذ لا يزال. وفقدنا التواصل مع بعض جراء فجيعة وطنية، تحولت على إثرها الخرطوم بسبب انتهاكات الجنود، والمتاريس التي نصبها الثوار، إلى مدينة أشباح تنزلق في طرقاتها الوعرة عربات التاتشر. 

وكانت زخات الرصاص تقطع سكون الليل الطويل، والمساجد تؤذن باستباحة اللصوص وعصابات "النيقرز" لكل شيء. ولم يكن ثمة من هو آمن في سربه، ما أدخل في روعنا أننا لن نسلم بعد اليوم، حتى أن تكبيرة العيد، أضحت لفرط الخوف تنذر بالشهادة.

في الليلة التي أعقبت عيد الفطر، قُمتُ بجولة قصيرة في المدينة، كانت الشوارع خالية من المارة، غارقة في الرعب، وتحولت إلى ثكنة عسكرية، مع بداية إعلان العصيان المدني. وتسبب إغلاق الطرق والجسور في شل الحياة، وربما كان هذا تصرفًا غبيًا، أو على الأقل يصعب القول بنجاح العصيان، نسبة لإجازة العيد، فتم حبس الناس الذين تعاطفوا مع الثورة في بيوتهم، ونتج عن هذا نقص في المواد الغذائية وحليب الصغار، وفشل وصول المرضى إلى المشافي، ومعاودة الأسر، حتى الذين لم يطيقوا تصرفات المجلس العسكري، لم يطيقوا أيضًا تصرفات قوى الحرية والتغيير، وتبديد الطاقة الثورية فيما لا طائل من ورائه.

وهذه غالبًا هي الهفوة التي استغلها المجلس العسكري في رد الصاع لقوى التغيير، بنفض يده عن كل الاتفاق السابق، واتهامها بالتحريض على العنف والخروج عن السلمية، واحتجاز المارة بشكل تعسفي في مفارقة لحقوق الإنسان، وربما كانوا في حاجة للصواب تستوجب تعليق العصيان في هذا الظرف العصيب والتفكير في وسيلة أخرى يبدعها عقل الثورة الذي ظل متوهجًا، دون حاجة للسقوط في مراهقة سياسية.

في الأيام الأولى من التفاوض حصلت قوى الحرية والتغيير على امتياز تشكيل الحكومة واحتكار البرلمان، وفترة انتقالية طويلة نسبيًا: ثلاثة سنوات، ونسبة مقدرة في مجلس السيادة، لكنها لم تتقدم بتلك المكاسب إلى ممارسة سياسية رشيدة، تكون بمثابة العتبة الأولى للتأسيس، فأخذت تتمادى في المطالب، ومنحت المجلس شرعية الأخذ والعطاء، وأفسدت بهجة الحفل الثوري بالهياج ورفع قميص المدنية على أسنّة التصعيد، دون تداركٍ لمخاطر هشاشة الدولة وتهتك نسيج المجتمع، وتحفز الجيش للانقضاض على ما تم التوافق عليه، وهو ليس قليل على شرعية ثورية متنازع عليها، لأن الشرعية الدائمة هي الشرعية الانتخابية كما نرجوا، ولا مفر من استيفائها بالعمل الجماهيري والبناء الحزبي.

تبدو الحاجة الآن ماسّة لتوافق كبير يُعيد الناس من منتصف الطريق الملغوم، وينأى بنا عن التدخلات الخارجية والوصاية الدولية، كخطر ماثل يتحين سُبل الاختلاف ويسعى لصناعة حليف مستبد، يدخل علينا من باب الوساطة والمساعدات، وربما نتحول إلى مسرح لتصفية حسابات إقليمية، كما هو الحال في ليبيا، التي باتت نهبًا لسيناريوهات الفوضى وحروب الشركات العابرة وولاة العهد ممن لا عهد لهم، والساعين لإمبراطوريات تحت الجماجم وفوق آبار النفط الملوث بالدم.

أما الملاحظة الجديرة بالالتقاط، فهي أن القوة المنتجة للثروة غير مستصحبة في عملية التغيير وأي من ملفات التفاوض بين الجيش والنخبة السياسية، رغم أن تلك القوة تحديدًا رفدت الحراك بالقوة المالية والبشرية، وأعنى بهذه القوة المنتجين في الريف والنازحين جراء حروب البشير الطويلة. عطفًا على أن انفراد النادي السياسي القديم بمستقبل السودان مع تجمع المهنيين، نقابات الظل والأفندية الصغار، بدا كما لو أنه تكريسٌ للأزمة بصورة جديدة، وإعادة إنتاج للمعضلة التاريخية.

انفراد النادي السياسي القديم بمستقبل السودان مع تجمع المهنيين، بدا كما لو أنه تكريس للأزمة بصورة جديدة وإعادة إنتاج للمعضلة التاريخية

في الأيام الأخيرة بدا الوقت يمر ببطء كما لو أنه نهرٌ من الطمي؛ الزمن متجمد في لحظة غير مفهومة، حتى أنه يصعب وصفها بالمربع الأول، إنها أشبه بمفارقة الهبط إلى أعلى والصعود إلى أسفل، وبدلًا من التراضي على سردية سودانية تتجلى فيها فكرة الوطن، اختار الجميع شعار "الحل في البل"، ذلك التعبير الشعبي ذو الإيحاء الجنسي الصارخ، والذي يشبه إلى حد كبير سلوك فض عذرية الاعتصام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محاكمة البشير.. ملهاة فض الاعتصام وإخفاء وجه السلطة العسكرية

هل سحبت واشنطن الملف السوداني من الرياض وأبوظبي؟