28-أغسطس-2022
فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

بينما كنا نشرب القهوة أنا وصديقتي، بالطبع ليس على ضوء شمعة خلقنا بها جوًا يليق بما نتداول، بل على ضوء شمعة فرضها علينا انقطاع الكهرباء، حينها جرى حديث مطول بيننا حول الحب، ذاك الكائن الوديع المفترس والجميل القاسي. ما هو المغزى منه؟ وهل هو تجربة جميلة تستحق أن تُعاش؟ أم أنه عاصفة تجتاح كيان الإنسان وعندما ترحل، تتركه خرابًا خاويًا؟

ولأن كلتينا لم تدركا بعد تعريفًا واضحًا لذاك الكائن، بقينا ندور ضمن دهاليز الحديث إلى أن وقف إطارها عند المخرج الأهم: هل تكمن الخطورة في فكرة الحب عينها، أم فيمن نختار؟

وبعد السؤال ذي الشقين والذي حرك نار عقولنا وشمعتنا أيضًا، توصّلنا إلى استنتاجٍ ربما توصّل إليه معظمكم عندما تطؤون بأقدامكم، بوعي أو من دونه، متاهة الحب.

الاختيار هو بيت القصيد، على الأقل بالنسبة لامرأتين تتقاسمان أنياب الفكرة لتعلّقانها تمائم على صدر وحدتهما الحالية وربما القادمة. ولعل كلمة "اختيار" هنا غير دقيقة، فعندما يلتقي شخصان وتطرق العاطفة باب قلبيهما ويفتحان لها من دون معرفة مسبقة بماهية الطارق، تدخل بلا استئذان، وتبني مستعمراتها بسرعة قياسية في كل خلية من خلاياهما.

كيوبيد في زيارتي:

كان ذلك عقب شهرين من زيارة "كيوبيد" لي والتي جاءت على شكل رسالة واتساب من رجل أقل ما يقال عنه أنه شاحنة من الإحساس المفرط، دهستْ قلبي مصادفةً أو ربما لم يكن عليّ أن أقطع شارع التجربة حينذاك، أو بحسب رأي صديقتي التي أكملتْ: الشعراء نرجسيون وغريبو الأطوار، قلقون، والعالم بالنسبة لهم مكان مقيت لا يصلح إلا لإنتاج قصائد تزخر بالحزن والبؤس والنقمة. يعشقون بسرعة، ويكرهون بسرعة أكبر، الأنثى بالنسبة إليهم ليست سوى "مُلهِمة"، وكلما كانت مؤذية وسادية كلما كان نتاجهم الشعري متدفقًا أكثر. مزاجيتهم لا تُطاق، ولكن لا يمكن لأحد أن يلومهم، فشيطان الشعر لا يزورهم في مواعيد محددة مسبقًا. إنهم شخصيات لامعة، تخطف الأبصار أينما حلّوا، لذا تنجذب كثير من النساء إليهم كالفراشات التي سرعان ما تحترق بنيران مجازاتهم اللغوية وألاعيبهم الدرامية، وهناك قلة من "العاقلات" اللواتي يدركن جميع ما ذُكر فيجنّبن أنفسهن مغبة الوقوع في شراك أحد هؤلاء.

وأنا - فيما سبق - كنت امرأة عاقلة.

كانت تلك الصورة النمطية التي يعلّقها معظم الناس ومن بينهم صديقتي على جدار الشاعر. أما اليوم، وبعد مرور ما يقارب السنة، سأجرؤ على القول بأنني التقطت صورة أكثر وضوحًا أو ربما هذا الوضوح اقتصر على عيني قلبي اللتين أحاطتهما غشاوة لذيذة.

صورة مغايرة:

داهمني اعترافه بالحب بطريقة غير عادية، أجل، هبطت رسالته من السماء الأولى عندما كان يتربع على عرشها إلهًا صغيرًا أو ربما مشروع شهيد، فقد كانت مرَّتَه الأولى في امتطاء السماء مسافرًا من مدينة كان يغفو فيها عند جذعي، إلى مدينة أبعد من أن تمتد إليها جذوري.

قال حينها:

رسالة من فوق الغيم؛

كانت المدة التي قضيتها برفقتكِ؛ نافذة إلى السعادة التي لم أعرفها من قبل. بالتأكيد لن تصل رسالتي الآن إلا إذا اتصل الهاتف بإنترنت رباني. وإلى أن تصل سأقول: أحبكِ.

مادت بي الأرض وتفجرت الينابيع لتروي روحي اليباب، حالٌ من الاتقاد الدائم يشعلها ذاك الراقص مع الكلمات، تجعل منه الذئب الوحيد القادر على حماية قطيع مشاعري، وتجعل مني الأنثى المتصوفة التي تدور حول نفسها.

ما يميّزه تركيزه على التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت إليها معظم الناس، وهذا ما يجعلني مدمنة على تذوق نظراته الحالمة، وأنا التي لا تحلق أبعد من شبر عني، فكما يقول بابلو نيرودا: "ما هو الشعر إن لم يساعد على الأحلام؟"

أجنحة مجانية نبتت بين كتفيّ، أجنحة تخولني الانطلاق إلى عالم قزحي من صنع أيدينا. هناك لا أشعر معه بوجود الزمان والمكان فقد صاغ كوكبه الخاص به والذي لا يخضع لقوانين الفيزياء ونصّبني حاكمة عليه، أطلق ساقيّ للغوص في مجرّة الحلم، وأطلق من عينيّ ألف شمس أذابت صقيع العوالم، وأنبت في أحشائي كائنات الحب الشقية.

أن تحبي شاعرًا يعني أن تمتطي صهوة حصان طائر وتحلقي في فضاءات روحك وتزوري عوالم أسطورية لم تتخيلي وجودها من قبل.

أن تحبي شاعرًا يعني أن تساهمي في ملء جرار القصيدة من خمر أيامك. أن تلمسي النجوم بعد أن يصطادها بشباك كلماته، ويرميها على أرضية قاربك. أن تضحكي وأنت تذرفين دموع الحزن في الوقت نفسه، أن تسمعي كلمة "أحبك" عند الاستيقاظ، و"أكرهك" قبل النوم، أن تحرقك نيران الغيرة وتطفئها كلمات الاشتياق، أن يدمر البعد روحك ويعيد بناءها الوصال، أن تعيدي توزيع مقطوعة كيانك لتتآلف مع سوناتا تأملاته.

أن تحبيه يعني أنك على بُعْد شهقة من الغرق، وعلى بُعْد شهقة أو أقل من النشوة.

هذا ما أردت قوله وهذه هي الصورة التي أردت تعليقها، ربما ستعارضني معظمكن على انهياري الكامل في وسط درب التجربة، وربما ستوافقني إحداكن وتربت على ظهر سعادتي التي تتجول واضحة بين سطور هذا النص، لعلها تتحرر إلى أبعد من ذلك وتمس وجدان أحد آخر.