01-سبتمبر-2020

ملف: دروس غرامشي.. استعادة مستمرة

"غرامشي الذي عرفهُ العرب، عمرهُ من عمر هزيمتهم، ففي سياقات الهزيمة ظهر فجأة وكأنّه أحد الناجين المنسيين، استدعتهُ آمال مُنهكة وتحليلات مكبوحة. وجد هذا المفكّر الكبير نفسه في عالم من التراجع المُعمم، تراجع فيه المدى التقدميّ والقوميّ العربيّ، وحدث تقاعس للمثقّف واحتواء له مصحوب بتصاعد النزعات الأصولية والمُحافظة، وتدعيم للنظم الشمولية وإعادة هيكلة لتبعية ذات طابع ليبراليّ". 

الطاهر لبيب: "غرامشي الذي عرفهُ العرب، عمرهُ من عمر هزيمتهم، ففي سياقات الهزيمة ظهر فجأة وكأنّه أحد الناجين المنسيين"

افتتح المفكّر التونسيّ الطاهر لبيب دراسته "غرامشي في خطاب المثقّفين العرب" (جزء من كتاب "غرامشي في العالم العربيّ" المشروع القومي للترجمة، 2002) بهذه الفقرة التي تُشير إلى السياقات والمسارات والظروف التي صعد فيها المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (1891-1937) في العالم العربيّ بصفته مُفكِّرًا قادرًا إن لم يكن على إيجاد مخارج للأزمات العربية القائمة، وهي كبيرة وممتدّة بطبيعة الحال، فعلى الأقلّ على بثّ الأمل والعزاء وسط مناخ مضطّرب وواقع متأزّم نتيجة الممارسات القمعية للأنظمة الأمنيّة، وأحوال الأحزاب الشيوعيّة العربيّة التي اعترتها وعموم اليسار العربيّ حالة من الإحباط في ذلك الوقت الذي أشار فيه لبيب إلى أزمة أفرزتها هذه الأزمات آنفة الذكر، وهي أزمة المثقّف العربيّ التي قلّما نُوقشت ما بعد وصول غرامشي إلى العربيّة دون الرجوع والاستناد إليه. 

اقرأ/ي أيضًا: تعويم كتلة غرامشي بمفردات التحالف السياسي

الغاية من عملية رصد وتتبّع المسارات التي ظهر وصعد فيها أنطونيو غرامشي هي التمهيد لأساس هذه الدراسة، وهي عملية رصد بدايات ظهوره في خطاب/كتابات المثقّفين العرب باعتبار دخوله في صلب هذا الخطاب من العوامل التي ساهمت في صعوده وجعل أفكاره متداولة لا داخل الدوائر الأكاديميّة الضيّقة فقط، وإنّما في المشهد الثقافيّ والفكريّ العربيّ عمومًا. 

يقول الطاهر لبيب إنّ غرامشي، في بدايات ظهوره وتداول أفكاره، وعلى الرغم من أنّ هذه الأفكار تُخاطب اليسار بالدرجة الأولى؛ كان مشبوهًا بسبب إيطاليّته، لا سيما وأنّ الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ لم يكن يتمتّع بسمعة أيديولوجيّة حسنة عند الستالينيين العرب، ممّا يعني أنّه لم يكن هناك أي تأثير لغرامشي وأفكاره على المثقّفين العرب المنتمين إلى الأحزاب الشيوعية ذات الاتّجاه السوفييتي، ولعلّ هذا ما يفسّر تأخّر وصول أعماله إلى اللغة العربية، ويُفسّر أيضًا سببًا من أسباب وصوله في الظروف المتأزّمة والمذكورة سابقًا. 

أعاد المفكّر التونسيّ بروز اسم غرامشي لأوّل مرّة في كتابات المثقّفين العرب إلى المفكّر المغربيّ عبد الله العروي الذي ذكره في هامش كتابه "الأيديولوجيّة العربيّة المعاصرة" من خلال استعارته لعبارة "التاريخيانيّة المُطلقة" الغرامشيّة. ويقول لبيب إنّ العروي عاد وأشار إلى غرامشي في كتابه "أزمة المثقّفين العرب" ولكن دون أن يستشهد به أو يقدّم الفكرة التي يعزوها إليه، أي الفكرة التي بنى عليها رؤيته بأنّ الأيديولوجيين العرب يُحافظون على مفهوم تبسيطي مشوّه للتاريخانيّة بالرغم من إسهامات غرامشي في هذا المجال. بالإضافة إلى ذكره باقتضابٍ شديد أيضًا في سياق حديثه عن مسألة الأنتلجنسيا العربيّة التي رأى أنّ عليها تفادي الجدليّة الزائفة بين الطبقة والنخبة من خلال الاستفادة من ملاحظات غرامشي حول المثقّفين، ولكن شريطة إعادة تفسيرها في ضوء التراث السياسيّ العربيّ. 

وإلى جانب العروي، جاء المفكّر المصريّ أنور عبد الملك على ذكر غرامشي بجملة واحدة في كتابه "الفكر السياسيّ العربيّ المعاصر" (1970) هي: "ربّما لم تجد أطروحات غرامشي عن المثقّفين تأكيدًا لها أكثر مما وجدت في العالم العربيّ". وخلال العام نفسه، استعاد المؤرّخ الفلسطينيّ هشام شرابي في كتابه "المثقّفون العرب والغرب" السؤال الذي سبق وأن طرحه غرامشي حول ما إذا كان المثقّفون يشكّلون طبقة اجتماعية مستقلّة أم لا، دون أن يذهب أبعد من ذلك، إذ إنّه لم يستعن به للإجابة عن هذا السؤال.

إلى جانب العروي، جاء المفكّر المصريّ أنور عبد الملك على ذكر غرامشي بجملة واحدة في كتابه "الفكر السياسيّ العربيّ المعاصر"

استنتج لبيب من هذه الإشارات الخجولة إنّ صحّ التعبير إلى غرامشي وفكره أنّ الأخير وصل قبل نصّه وفكره وأنّ حضوره خلال سنواته الأولى كان بصفته "علمًا" يُحال إليه دون الرجوع إليه فعلًا، ممّا يعني أنّ التعامل معه كان مقتصرًا على الرغبة في إظهار المعرفة به دون التعريف به، ممّا جعل ظهوره آنذاك عابرًا، بالإضافة إلى أنّ أعمال العروي وعبد الملك وشرابي التي ذُكر فيها غرامشي، لم تُكتب باللغة العربيّة، وإنّما بلغات أخرى، أي أنّها نُشرت بعيدًا عن الوطن العربيّ. 

اقرأ/ي أيضًا: غرامشي والثقافة الشعبية.. الدرس الغائب عن "المثقف" العربي

ورأى صاحب "سوسيولوجيا الثقافة" في هذه المسألة التي وصفها بـ "النفي داخل اللغة" دلالات مُختلفة منها عدم عودة الكتّاب العرب أثناء الكتابة عن غرامشي إلى النصوص العربية أو المُترجمة إلى العربية له وعنه، بالإضافة إلى دلالة أخرى تتمثّل في فكرة أنّ قدر غرامشي هو أن يظلّ رفيق المنفيين. 

الحديث عن النفي والمنفى سينتهي باستعادة المفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد، وهي استعادة متّصلة أساسًا برصد ظهور غرامشي في الخطاب الثقافيّ العربيّ في الفترة التي يغطّيها الطاهر لبيب، وهي وإن كانت بعيدة زمنيًا، إلّا أن العودة إليها مهمّة لاعتبارات مختلفة، منها أهميّتها لمن يُحاول فهم وتتبّع رحلة صعود غرامشي وصولًا إلى المكانة التي يشغلها اليوم عربيًا.

استعان سعيد بأنطونيو غرامشي لتفسير اعتبار البُعد الشخصي عنصرًا أساسيًّا في كتاباته، إذ إنّ الجوانب التي وجدها سعيد في وضعه كمنفيّ، نجدها حاضرة بصورة مكثّفة في حديثه عن مدى مواءمة فكره للواقع الحاليّ. ووفقًا للطاهر لبيب، فإنّ اهتمام إدوارد سعيد بالمفكّر الإيطاليّ وأفكاره دلّ عليه تأكيده في أحد ملّفات صحيفة Indico الإيطاليّة أنّ "أهمّ خصائص غرامشي تتمثّل في مفهومه عن المكان وإنّ جميع مقولاته التحليلية مبنية بصورة أساسيّة عليه".

ويستند سعيد في رؤيته هذه إلى موضوعات مثل المكان والموقع وكسب الساحة الاجتماعية والمجتمع المدنيّ التي أوضح غرامشي أيضًا من خلالها "دور الجغرافيا في بناء الحقيقة الاجتماعية"، عدا عن أنّ سعيد أبرز أيضًا قدرة المناضل الإيطاليّ على "تفجير تحليلاته وبنائها بصورة تقوم على التجربة وليس على عقائدية شكلية، وهذه الواقعية الإنسانيّة التي جعلت أعماله لصيقة بحياة البشر، غير منفصلة عن الخبرات التاريخيّة للطبقات والأفراد". 

إدوارد سعيد: "أهمّ خصائص غرامشي تتمثّل في مفهومه عن المكان وإنّ جميع مقولاته التحليلية مبنية بصورة أساسيّة عليه"

إنّ رجوع سعيد إلى غرامشي لا يعود إلى بُعد شخصي أو ملامح وجودية فقط، وإنّما إلى أسباب ابستيمولوجيّة ومنهجية أيضًا. ويُشير الطاهر لبيب في هذا السياق إلى مسألة  الشعور بوجود غرامشي في خطاب المثقّفين العرب دون رغبة في إثبات هذا أو قدرة عليه، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى الشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللعبي وكتابه "حرقة الأسئلة" التي وضع فيه نصوصًا متعلّقة بفترة اعتقاله، تستعيد غرامشي تلقائيًّا، قبل أن تبدو فرضية وجود لقاء بينه وبين مؤلّف "قضايا المادية التاريخيّة" أكثر واقعيّة بعد إصدار كتابه "المثقّف العربيّ وإشكالية السلطة" الذي استدعى فيه بعض المصطلحات الغرامشية مثّل: المثقّف العضويّ، المثقّف التقليدي، المثقّف الجماعيّ، كبار المثقّفين، حرب المواقع، وغيرها. 

اقرأ/ي أيضًا: النجاة بالكتابة.. هكذا فعل ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي في العزل القسري

وينطبق توصيف لبيب هذا عن وجود غرامشي في كتابات بعض المثقّفين العرب دون الرغبة في إثبات ذلك على المفكّر اللبنانيّ الراحل حسن حمدان المعروف بـ"مهدي عامل"، الذي رأى في عالمه الثقافي والنضالي ملامح غرامشيّة غير مُعلنة، ذلك أنّه لا وجود لأيّ أثر فعليّ لغرامشي إلّا من خلال هامشين: الأوّل سنة 1970 أثناء عمله عن "التناقض الأساسي"، والثاني في عمل لم يكتمل، وكان هذا لمجرّد نسب مصطلح المثقّف العضويّ إليه بحسب لبيب الذي يفترض وجود لقاء بين غرامشي وعامل في كتابه المشار إليه "مقدّمات نظرية لدراسة آثار الفكر الاشتراكيّ على حركة التحرّر الوطنيّ: في التناقض".

إنّ الأسباب التي حملت لبيب على افتراض وجود هذا اللقاء متعلّقة بتأمّلات مهدي عامل حول أزمة الحركات الثوريّة العربيّة التي يعزي في دراسته له للعنصر الأيديولوجيّ أهميّة كبرى لم تعهدها الماركسيّة العربيّة، تلك التي لم تكن في نظره أكثر من فلسفة أخلاقيّة تهدف إلى التعبئة العامّة، أي أنّها غير قادرة على إفراز برنامجها النظريّ السياسيّ، ومتّصلة على نحو أشدّ بالإصلاحات التي وضعها في كتابه هذا، وهي إصلاحات تحمل بعضًا من ملامح غرامشي لخّصها لبيب على هذا النحو: 

"إنّ الصراع الحقيقيّ بين أيديولوجيات الطبقات لا يقوم بين الأيديولوجيّات في حدّ ذاتها وإنّما بين الممارسات الأيديولوجيّة لصراع الطبقات، وأن أي استقلال للأيديولوجيا عن الجانب الاجتماعيّ ليس إلّا نتاج وهمي للممارسة الأيديولوجية للطبقة المسيطرة، أمّا الطبقة الثورية فتقوم بعملية تسييس الصراع الاجتماعيّ من خلال عملية تنظير، أي إنتاج معرفة نظرية، أو من خلال كشف النقاب عن معرفة علمية تتمكّن الأيديولوجيّة المسيطرة من إخفائها، وعدم الربط بين هاتين الضرورتين سيؤدي إمّا إلى السقوط في هزليّة التجريبيّة السياسيّة، أو في اللغو اليساريّ، والأمر في الحالتين يعني السقوط في شرك الانتهازيّة". ومن هذا المنظور رأى الناقد الفلسطينيّ فيصل درّاج أنّ لدى مهدي عامل "بعض أفكار غرامشي عن الحزب الثوريّ الذي يقيم علاقة جديدة تجمع بين النظريّة والممارسة". 

يعتقد الطاهر لبيب أنّ مثال مهدي عامل هنا لا يدلّ على الحضور أو التأثير أو تحديد موقف، وإنّما لضرب المثل عما يمكن اعتباره في الفكر العربيّ "استيحاء" أو اقتراب خجول من غرامشي. ويرى بناءً على اعتقاده هذا أنّ غرامشي مهدي عامل غير المُعلن عنه يبدو في هذه الحالة أكثر عمقًا وتأثيرًا من غرامشي آخر يكثر الإعلان عنه ويزيد الاستشهاد به دون استيعاب. 

غرامشي مهدي عامل غير المُعلن عنه يبدو في هذه الحالة أكثر عمقًا وتأثيرًا من غرامشي آخر يكثر الإعلان عنه ويزيد الاستشهاد به دون استيعاب

والحال أنّ هذه النماذج، بدءًا من العروي وعبد الملك وشرابي الذين استعادوا غرامشي وأشاروا إليه بشكلٍ مُقتضب، وصولًا إلى إدوارد سعيد الذي تعامل مع أفكار غرامشي من منظور مُختلف قلّما التفت إليه الآخرون، وأخيرًا مهدي عامل ومسألة الحضور غير المًعلن؛ بيّنت طبيعة تلقّي المثقّفين العرب لأفكار غرامشي، إضافةً إلى الكيفية التي دخل من خلالها، وسط هذه الاستشهادات الخجولة والحضور غير المُعلن والحضور المُقتضب أيضًا آنذاك، إلى الخطاب الثقافيّ العربيّ وكتابات مثقّفيه. 

اقرأ/ي أيضًا: 3 كتب عن المثقف.. الأدوار والمواقع

ويتّضح ممّا قدّمه لبيب أنّ أكثر القضايا والتساؤلات التي استعان المثقّفون العرب بأفكار غرامشي أثناء تناولها ومناقشتها: قضيّة المثقّف وأدواره وعلاقته بالسلطة والجماهير، وقضيّة المجتمع المدنيّ أيضًا. فبينما شغلت القضيّة الأولى مركزًا متقدّمًا في النقاشات الثقافيّة العربيّة خلال الثمانينات التي أصبح فيها أنطونيو المثقّف موضوع عرض مُباشر يسعى إلى الاستقلال بذاته كموضوع، لا سيما وأنّ "أفكاره حول المثقّفين تُعتبر المُساهمة الوحيدة التي يعترف بها الجميع من اليمين إلى اليسار دون استثناء"؛ عنونت مسألة المجتمع المدنيّ بأسئلتها النقاشات الثقافيّة خلال التسعينات التي تحوّل فيها غرامشي إلى مستشار تلجأ إليه مُختلف المجتمعات المدنيّة العربيّة باعتباره مرجعًا نظريًّا أساسيًّا لجميع المُداخلات المتعلّقة بهذه الموضوعات. 

تكرّس أنطونيو غرامشي إذًا داخل كتابات المثقّفين العرب ضمن دائرة هاتين المسألتين تحديدًا، لا سيما بعد احتجاجات الربيع العربيّ ومآلاتها، بالإضافة إلى الاحتجاجات الشعبيّة الأخيرة في دول العراق والجزائر ولبنان أيضًا، وهي الفترة التي تحتاج إلى دراسة موسّعة لتغطيّة ورصد طبيعة استعادة وتلقّي غرامشي ضمن هذه الظروف التي قدّمت قراءة جديدة لأعماله تختلف عن القراءات السابقة بأنّ مفاهيمه لم تعد تستعاد هنا كمصطلحات فقط دون تحليلاتها. أمّا بشأن الثابت بين اليوم والأمس بشأنه هو غياب أي مأخذ عليه تمامًا بالإضافة إلى اللجوء المستمرّ والمكثّف إليه خلال الأزمات التي تُفرز واقعًا بحاجة لمُخلِّص أو مُنقذ لطالما جسدّه أنطونيو غرامشي. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

شهادة في فكر أنطونيو غرامشي

شذرات غرامشي: لكي نتمكن من اللقاء