04-مارس-2016

أنسي الحاج 1937- 2014

في الذكرى الثانية لرحيل الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج (1937-2014)، تصدر "دار نوفل" مجموعة نصوص، تُنشَر لأول مرة، بعنوان "كان هذا سهواً". وللمناسبة، ستقوم دار "هاشيت أنطوان" و"مؤسسة أنسي الحاج" و"مسرح المدينة" بإطلاق الكتاب عبر حفل تمام الساعة السابعة من مساء الأربعاء 16 آذار/مارس 2016 في مسرح المدينة الحمرا - بيروت.

يتخلل الحفل قراءات على المسرح من نصوص كتاب "كان هذا سهواً" تلقيها ابنة الراحل الشاعرة ندى الحاج. كما تؤدّي المؤلفة الموسيقية والسوبرانو هبة القواس تأليفًا، صوتًا وعزفًا على البيانو، مقتطفات من الكتاب الجديد إلى جانب مقطوعات أخرى قديمة من كلمات صاحب "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع".

"كان هذا سهوا" شذرات تحوي آراء أنسي الحاج في مختلف مواضيع الحياة، مكتوبة بصيغة "خواتمه" الشهيرة. تلك المواضيع شكّلت فصول الكتاب، الذي يقع في 250 صفحة، كالتالي: ميتافيزيك ودين، فن وموسيقى، حب، سلوك، أدب، بالإضافة إلى قصيدة "غيوم".

"ألترا صوت" يخصّ قراءه بنصوص مختارة من أجواء الكتاب.
 


ميتافيزيك ودين

أقول إنّي ذاهب إلى العدم لكنّي أظلّ أعلّل النفس بأنّ أحدًا هناك لا يقبض يأسي، وسوف يُعدّ لي مفاجأة سارّة. 
الكون وحدة منظَّمة جزءٌ منها الفوضى. الكواكب، مثلما يقول كِبلر، تُصدر نوعًا من الموسيقى، ينقلها الأثير في شكل تَذَبْذبات، وأمّا الإنسان فهو "الأنتين" الذي يتلقّى هذه الموجات.
وجود الشرّ لا ينفي الاعتقاد بوحدة الكون. الشرّ في الإنسان أكثر ممّا هو في الكون. أو بأقلّ انفعالًا، هو هنا كما هو هناك، زائدٌ. 
"المَيل" فوق الخِلْقة، الذي هو دفينٌ في الإنسان، وقد يتطوّر، وقد لا يلتقي ظروفَ تطوّره فيظلّ دفينًا.

الاعتقاد بوحدة الكون ليس ديانة. إنّه نفي لعبثيّة الحياة التي ظنّها شكسبير صخبًا تمثيليًّا با معنى، ويظنّ الروحانيّون أنّ الجسد فيها سجنٌ أو عبء، والماديّون أنْ ليس "وراءها" شيء. الكون أوركسترا. وكلّ ما فيه يتماسك ويؤدّي دوره، ولو تجاوَزه.

وما نسمّيه القدَر هو فعلًا كذلك، وهو أيضًا في سياقه ضِمن هذا التناغم.
*

بين دُعاة الويل والثبور وعظائم الأمور وشخصيّة "متناقضة" وملتبسة مثل راسبوتين، القلبُ يَعطِف على راسبوتين. جمَعَ شبَق الإيمان إلى شبَق الغريزة الجنسيّة. كان وحشًا فيهما وذا اجتراحات. والأهمّ الأبلغ، فرَحُه. لم يكن بومةً إلّا أيامًا عندما تنبّأ بانهيار روسيا القيصريّة إذا قتله النبلاء. وهو ما تمّ. والحقيقة أنّه لم يكن بومةً بل كان بين سَكْرة وسَكْرة يقرأ الطالع منبِّهًا وقد زاده استبصارًا الخوف على مصيره الشخصيّ.

أنبياء التوراة، وإلى حدّ ما يوحنّا المعمدان، تهديديّون وروّاد رعب تَسمعهم فتقول لمَ الحياة. وأضحك ما يُضحك في ما يتعلّق بنا نحن سكّانَ أرض فينيقيا وجوارها، أنّنا نطرب لتقريعات شعراء التوراة وأنبيائها ومعظمها تجريح بـ"أجدادنا" وبآلهتهم التي ما كانت، في بداية الأمر كما في نهايته، وبعدهما، سوى آلهة للحريّات وسعة الصدر والخيال والسلوك، وقد ضاق بها ذرعًا إله إسرائيل المتملّك الغيور وكهنتُه المتعصّبون الدمويّون العنصريّون.

اقرأ/ي أيضًا: حسن بلاسم.. معاينة الإنسان القابع في دواخلنا

ذات

أوّل نَعْرة غَيرة أذكرها هي يوم رأيتُ، طفلًا، أنّ الكبار يكذبون، وأنّهم يكذبون أفضل منّي.
*

تغادر طفولتكَ من باب المواجهة لتعود إليها، بعد قليل، من شبّاك الوعي.

***

البحث عن الحقيقة، نقول. مَن يتحمَّل الحقيقة؟ لماذا البحث عنها، لماذا الحقيقة ولا أحد – ابتداءً من الطفل و"حقائق" الحياة، وانتهاءً بالمريض وحكْم موته، مرورًا بالعاشق وحقائق محبوبه بين العيوب الجسديّة والخيانة – لا أحد، يتحمّل الحقيقة.

إنّ الجمْع الأفلاطوني بين الحقّ والخير والجمال يجافي الخير ويكذِّب الحقّ ويهاجم الجمال. الجمال هو المَهْرب من الحقّ. الخير لا ينجم إلا عن الطيبة – وما أدراك ما في الطيبة من رحمة ونقاء بعيدًا جدًّا عن صرامة الحقّ – لا ينجم إلا عن الطيبة أو عن نقاء الجهل.

وحتى لو أخذنا الحقّ بغير معنى الحقيقة فهو فظّ لا يحتمله الحيّ الذي سيموت. الحقيقة للشرطة. للتجريد المتوحّش وللشرطة المتوحّشة. الحقيقة عدوّة أو عاجزة. عدوّة للقلب الضعيف وهو حتمًا أجمل منها، وعاجزة عن إغاثة المظلوم لأنّها منذ الأزل تأتي بعد فوات الأوان.

الحقيقة برهان الباطل.
***

كان هذا سهوًا.
لم أكتب هذه الرسائل ولا تلك المقالات، ولم أكن إلا قليلًا في الأيّام حيث كنت.
للمرء الحقّ في إنكار حياته إنْ هي لم تشبه مُناه، وأن لا يعترف في عُباب هذا البحر المترامي وراءه إلا بحبّات من الملح وبضع نقاط من البخار.

سلوك

الطريدة أجمل في كلّ حين من الصيّاد لأنّ عليها ظلال البراءة التي ستُغدَر، وانخطاف الوهلة الأخيرة.
*

لا يعدو الشرّ كونه عند بعض الأشخاص حزنًا متراكمًا. ولا يلطّفه ضحكهم إذا ضحكوا. إنّه الضحك رفقًا بالذات، وهو أشبَه ما يكون بمعطفٍ ورديّ للنحس.
*

أجمل ما في الحضارة صنَعه سُذّج أو مثاليّون واستعمله انتهازيّون. لم ينتقل خير الحضارة إلى البشريّة بدَفقه الكامل المجّاني ولا مرّة. إنّه ينتقل، كما في الفنون والطبّ والتكنولوجيا، عبْر الدول والشركات، أي السلطة والسرقة.

اقرأ/ي أيضًا: أوبير حداد.. ماذا لو عشنا في جسد غريب؟

أدب

ليتنا ندَع لغير الشعراء أن يتحدّثوا عن الشعر، إذ يرتدي على ألسنتهم معاني الأقداس ويبقى لهم لغزًا يستسلمون إليه برغبة.
أمّا على ألسنة الشعراء فغالبًا ما يرتدي الحديث عن الشعر طابع النرجسيّة الهستيريّة أو التعصّب الحزبيّ.
***

ما لا نقوله ضدّ الدين والحكّام والتقاليد، نقول بعضه ضدّ كبريائنا وسلطويّتنا الذكريّة في بوْح الحبّ، وتحت حمّى الرغبة. إنّ الشعراء يعوِّضون بانكسارهم للمرأة عن المفكّرين والأدباء في تقصير بحثهم عن الحقيقة السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة أو عدم قولهم لها.
***

كلُّ كتابة لا تنبع من جرْح، لا تدخل. قد ينحني لها الذكاء، أو قارئ مثلها بلا توجّع كيانيّ، قارئ مرتَّب غير "محتاج"، ومثلها لا يقول شيئاً، ومثلها يدوِّم، يدوِّم، وفي الشجرة روحٌ أكثر ممّا في حروفها وعلى وجهه.
الجرح العميق لا يُبرِّر أشدّ الكتابات جنوحًا، فحسب، بل يبارك قارئها.
***

أشدّ المنتظرين إيلامًا كتابٌ موعود بقارئ ولم يحظَ به.

فنّ

أكره مسرح الأقنعة. إنّه يُخفي ما لا جواز لإخفائه وهو الوجه. كلّ الضرر هو في إخفاء الوجه. عندما نُخفيه نلغي القناة العظمى لإيصال كهرباء الممثّل، وهي العينان والهالة منهما وحولهما. بل وكلّ الوجه هو القناع. أعمق الأقنعة. ألا نحبّ، نشتهي الجسد ابتداءً من الوجه؟ ألا يخدعنا الوجه؟ ألا يُخفي الباقي؟

"انحياز" الوجه هو ما نتذكّره عندما يَصدمنا ويبلْبلنا "حياد" الجسد.
***

نموذج لسوء الفهم: لا يُحكى عن صوت فيروز إلا مصحوبًا بوصف "ملائكي". روتْ فيروز أنّها كثيرًا ما رأت أولادًا، يزورونها مع أهلهم أو تزور هي أهلهم أو في أيّ مناسبة أخرى، يجهشون بالبكاء ويلوذون بأحضان أمّهاتهم ما إن تُطلّ عليهم فيروز! تروي ذلك مقتنعة بأنّ سبب بكائهم هو خوفهم منها (ومن هالتها) لا انفعالهم أو غيره من أنواع الإعجاب.

مَن يعرف فيروز يعرف شخصيّتها الكاسرة لا الآسرة فحسب. ضعفها حقيقيّ وقوّتها أيضًا. رقّتها وجبروتها. واللواتي يَحسبن مِن المغنيّات أنّهنّ يتشبّهن بها عندما "ينحّفن" أصواتهنّ دليل آخر على سوء الفهم. صوت فيروز الأصليّ فيه خشونة تُوهِم أحيانًا المستمع إليها عبر الهاتف أنّه يتحدّث الى رجل. عن ذلك قصص لا تُصدَّق. النعومة في غنائها هي رهافة روحها، طبعًا، ولكنّها أيضًا إرادة الفنانة.
*

في يوم من عام 2000 قالت فيروز لمحدّثها: "أمس كنتُ أسمع أغنيات لي عن فلسطين. كُتبَ مرّة عن التحريض في صوتي: سأقول لك ما اكتشفته أمس: تحريض حنون. كيف تفسّر لي هذا التناقض؟ تحريض وحنون؟!".
لو فكّت فيروز أسرار ذلك – وغيره – منذ البداية فهل كانت ستظلّ فيروز؟ لو اكتشفت فيروزُ فيروزَ منذ البداية لاستيقظت حسناء الغابة النائمة وطار سحر صوتها من قمقم البراءة الساهرة على المنام.

حبّ

حكاية مُبتذَلة والمرارات مُبتَذلة. حصل ما كان لا بدّ أن يحصل.
والذكريات خيرُ العمر.
أتُراني تلبَّستُ دَور الضحيّة وما دريت أنّي رابح؟
بالتأكيد. وما زلتُ رابحًا.
يُعشَقُ الرجل، أيضًا، آلام ذكرياته.
*

تَحكمنا مرّتين: مرّةً لأنّها جاءت بنا إلى هنا، ومرّةً لأنّها تُنسينا أنّنا هنا.

اقرأ/ي أيضًا:

جاك دريدا.. مراثي النقّاد

الأخوان رحباني.. حفريات المجد والألم

كيف تكتب تراجيديا متقنة؟