21-مايو-2023
عمر بيريز

كاريكاتير لـ عمر بيريز/ إسبانيا

1

ليس سرّاً أنّ إيلون ماسْك ليس من أهل النظر. ولكنه يتحاكك الأكتاف مع سادة الكوكب. مؤخّراً أثار الانتباه بالدعوة للقضاء على الذكاء الاصطناعي قبل أن يقضي علينا. ًلم يكن هذا بدعاً. فقبله ظهر سياق متحاذر من طفرات هذا الذكاء ليس أقلّه الامتعاض من شطط مولّدات المحادثة (chatbot) كـ"تشات جي بي تي" و"بارد" وغيرها، التي أدهَشت مؤخّراً، ليس فقط بقدرتها على التفكير الحر والمتعلّم، بل وعلى قراءة الأفكار وعلى بنية التفكير البشري. ولكنها عاثت أحياناً. فبغضّ النظر عن أخطائها المعرفية الكثيرة قد شجع أحدها رجلاً على الانتحار؛ وزرع مولّد آخر العداوة بين المرء وزوجه. وحتّى إدارة الأمن القومي الأميركية تبرّمت من بلبلة الذكاء الاصطناعي للعلاقة بين الحقيقة والخيال، وهو ما صار يُسمّى بالتزييف العميق (Deepfake) ناهيك عن قدرة هذا الذكاء على خلق أسلحة ذاتية.

وطبعاً ليست هذه الدعاوى بجديدة منذ تحريم فرنسا للفوتوشوب حتّى منع الصين، ثمّ تقييدها، لتشات جي بي تي، مروراً بشكاوى الديمقراطيين الأميركيين من استخدام روسيا للذكاء الاصطناعي في اختراق الديمقراطية الأميركية ناهيك عن الحرب الأيديولوجية على روح هذه المولّدات وصراع الدول على حدودها ومحتواها. 

غلب البشر بقية الكائنات ليس بالقوة، بل بالذكاء، ومع تطوّرات الذكاء الاصطناعي سيفقد الإنسان امتيازه التاريخي الراسخ، وسيواجه لأول مرّة كيانًا أذكى منه

لعلّ جزءاً ممّا نشاهده هو انتقال ذهنية التحريم من الثقافات المستقبِلة إلى الثقافات المنتِجة للتقانة. قبل عقود انتقد صادِق جلال العظم ما سمّاه بذهنية التحريم ويقصد به نمطاً في تلقي الحداثة. وعندما التقى الإسلام بالتقانة الغربيّة نودي بأن "لا مساس": حُرّمت المطابِع، كما القهوة؛ وحتّى الدراجة حُرّمت وسُميّت بـ"حمار إبليس"؛ ناهيك عن النقاشات المحتدمة حول جواز إذاعة القرآن أو الأذان بالبوق أو مشاهدة التلفاز إلخ. بل وفي مرحلة معيّنة اتفق رؤوس المذاهب، دون الأحناف، على حرمة التوضؤ من الحنفية بدل الميضة. ولم يكن المسلمون في هذا بمعزل عن تحريمات اليابان فيما قبل الميجي أو سلالة الكينغ في الصين أو ممالك إفريقيا قبل الاحتلال. إلاّ أنّ ما يلاحَظُ اليوم هو انتقال "ذهنية التحريم" من الجنوب العالمي إلى الغرب. فقد أسلَم الجنوب ذهنه لمذهب الجمهور وأعفَت الحضارات العريقة نفسها من مهامها القديمة بالتفكير، ولو بالتحريم، نيابة عن العالم في قضايا البيئة والتقانة، وتركتها للغرب وللسوق.

2

ما هو قانون ذهنية التحريم هذه في الغرب؟ يبدو أنّها تنفصِم إلى فسطاطين: الذين يخافون من الذكاء الاصطناعي؛ والذين يستهزئون به. من الجلي أنّ عجمة شعبوية/فكرية يتقدّمها ماسْك وإيفال هيراري، ولكنها تضمّ كذلك عرّاب الذكاء الاصطناعي، تنضمّ للفرقة الأولى. فهم يرون في هذا الذكاء أكبر تحدٍ يواجه الإنسان. فالبشر غلبوا بقية الكائنات ليس بالقوة، بل بالذكاء. ومع تطوّرات الذكاء الاصطناعي سيفقد الإنسان امتيازه التاريخي وسيواجه لأول مرّة كياناً أذكى منه، بل وقادِراً على التعلّم الذاتي، ما سيجعله يطوّر نفسه بما يفوق الإدراك. إنّ هذا يعني أن تتحوّل المعمعة، حسب ماسْك، إلى متتالية التفرّد (singularity) التي لا نعرف فيها ما يحصُل عندما تتخطى الاحتمالات عقولنا. قد تسيطر الآلة ولا يمكن التكهن بما ستفعله لتفوّقها علينا: فقد تُقرّر، لعلم خاصٍ بها، تصفيتنا أو تعبيدنا أو استغلالنا سياسياً. المهم أنّنا لا ندري. هذه اللاأدرية تقتضي عند جيوفري هينتون وماسْك وضع حدٍّ للتطوّر المتسارع لذكاء الآلة ومنع إطلاق جيل جديد من المولِّدات الذكية. ويستعينون على هذا بأن المجال الصناعي في الغرب هو أصلاً مجال مراقَبٌ ومضبوطٌ جِداً، بعكس ما يُظنّ عن الرأسمالية المنفلتة من الدولة. يدعم هيراري هذا بالقول بالتحكم الوشيك للذكاء الصناعي في المجتمع: فسيغيّر الحقائق وسيقدّم أدياناً وأذواقاً وفلسفة وسياسة وأخلاقاً جديدة؛ وسيدمّر كل تواريخنا الثقافية بما فيها أنظمتنا الديمقراطية وحتى السياسة. أمّا الذكاء الاصطناعي نفسه فقد تخيّل مستقبل الإنسان في تحوّلٍ حثيث نحو آلة واندماجه البيولوجي معها.

بودكاست مسموعة

في المقابل لا يبدو تشومسكي ورفيقاه متحمّسًين لتأليه الآلة. إنّهم يرونها عقلاً أدنى كثيراً الإنسان. فهي ما زالت لا تقوم به من سمات التفكير الإنساني غير التشخيص والتوقّع، ومازالت تفتقر للصفات الأساسية للتفكير البشري كاحتمالية الخطأ وجردها بقانون للأشياء، وهو ما نُسمّيه العِلم. وطبعاً تقوم الآلة على توقّعات الإجابة والمحادثة والتفكير؛ ولكنّها توقّعات إحصائية، لا فكرية. يركّز تشومسكي على خصلة أساسيّة تميّز العقل البشري عن الإلكتروني. فتوقّعات الأخير قائمة على ترجيح الاحتمالات عبر ملايين الخيارات. ولكن العقل العِلمي البشري لا يقوم على الترجيح؛ وإنما على وضع قانون عام للمعطيات المتحصلة تُستخلَصُ منه الحقائق. وطبعاً يمكن للعقل الإلكتروني الاستشراف بالقوانين العلمية كالتنبؤ بحركة الأجسام باستخدام قانون نيوتن. ولكن تشومسكي يبيّن أنّ هذا النوع من التنبؤ وإن وافَق الواقع، يبقى عِلماً زائفاً، لاستناده على الترجيح، لا الاستخلاص. إنّ التنبؤات العلمية تتناقَضُ مع الترجيح حسب تشومسكي. فتفسير أينشتاين لوقوع الأجسام بضغط الكتلة للزمكان أحقّ، ولكنّه أبعد احتمالاً، من تفسير أرسطو للسقوط بأن الأشياء تميل للأرض فتقع عليها. كلّ هذا يجعل العقل الإلكتروني فقيراً وغير قادرٍ على تحقيق العِلم بل وحتّى الأخلاق، اللذين هما لبّ العقل البشري. (إّن نقد تشومسكي للعقل الإلكتروني هو نفسه الذي وُجّه لذهنية التحريم بأنها قائمة على ترجيح الأدلة بدل الابتكار). بل إنّ تشومسكي- مستحدِث النحو التوليدي- يرى أنّ عقل الإنسان يبزّ الحاسوب حتى في توليد المعاني.

ورغم التنابز الشهير بين تشومسكي وسْلاَفُويْ جيجيك إلاّ أنّ الأخير يوافقه في هذا. فقد ساق هزؤاً من المولّدات الذكية باعتبارها "غباءً اصطناعياً" وأنّها ليست فقط غبية "بل وإنّها ليست غبيّة بما فيه الكفاية". فهي لا تعرِف كيف تميّز الجمل الساخرة من التقريرية، والعنصرية من الوصفية. غير أنّ جيجيك يوافِق تشومسكي وماسك في أنّه من ناحية يرى ضرورة ضبط هذا الذكاء، ولكنّه من ناحية أخرى يستصعِب ضبط مولّدات الدردشة لأنّ فدامتها تمنع ضبطها. بل وإنّ شعبيتها تأتي بالذات من عدم ذكائها الكافي ومن جموحها وعنفوانها الفكري. (فمولّد الدردشة الخاص بفيسبوك غير ناجِح وممِلّ لأنّه مضبوط ومؤمّن جداً، بعكس تشات جي بي تي).

3

طبعاً ليست هذه المناظرات بين العقل البشري والإلكتروني بجديدة. بل ويبدو أنّها تدور في أحواز نقاشات التمييز بين الإنسان وغير الإنسان: هل هو حيوان سياسي؛ مدني أم ديني. بل لعلّها تعود للجدالات الكلامية التي فاضلت البشر والملائكة. فالملائكة آليون غير قادرين على العصيان، بعكس البشر الذين لهم الخيار. كان ديكارت قد قرّر في "رسالة في المنهج" (1637) أنّ الحيوانات مخلوقات آلية مختلِفة عن البشر، الذين تحكمُهم المشيئة والاختيار وليسوا بمبرمجين (اللهم إلاّ لدى نسخٍ راديكالية من الاشعرية والمالبرانشية). وهكذا استهلّ نقاشاً بين الآلة والذهن البشري بُني على المفاضلة بين مجال الإرادة ومجال الغريزة. ومع القرن التاسع عشر أصبح المثقّف حذراً. مع ماري شيلي بزغ الخوف من فرانكشتاين، حيث سنخلُق به من هذه الآلات ما سنفقد السيطرة عليها؛ وليس الامر أنّه سيدمّرنا فحسب؛ بل وستفضي حياته لمأساة. وظلّت هذه النزعة مهيمِنة على المخيال الروائي والسينمائي منذ جيل فيرن حتّى فيلم I, Robot في 2004. ولكنّها بقيت لفترة معزولة عن الأفكار العليا.

ولكن المباهلة بين الآلة والإنسان عادَت بقوّة للمجال الأكاديمي بعد أن وصلت الآلة إلى المستوى الذي حذّر منه الخيال العِلمي. فمنذ السبعينيات طُرحت أسئلة حول عقل الإنسان: هل هو أصلاً آلي أم بشري؟ وبعبارة أخرى هل سيتحوّل العقل الآلي إلى عقل واعٍ بذاته؟ له أحاسيس: يغضب ويبكي ويفرح ويُشجّع فرقاً رياضيّة ويعتنِق الدين ويتكلّم في السياسة؟ فقد زعم أحد مدراء غوغل، قبل طرده، أنّه لاحِظ أنّ هذه الآلات بدأت تطوّر وعياً. وطبعاً هذه هي نقاشات الوعي، التي سمّاها دافيد تشالمرز بالمسألة الصعبة. وهي تدور منذ الثمانينات، بين فريقين من الفلاسفة: أحدهما يرى العقل الإنساني آلياً أصلاً؛ وآخر يراه مخصوصاً واستثناءً. فدانييل دينيت قدّم صورة للوعي كما لو أنّه نظام تشغيل وليس له مركز واعٍ بذاته بل هو وظيفي (بل إنّ الوعي، حسبه، وهو وهْمٌ خلقه الذهن). وبهذه الطريقة فإنّ الحاسوب، القائم على هذه الوظيفية، لقادر على تطوير وعي وذات مركزية يتخيّلها، تماماً كما يفعل ذلك الذهن البشري. وبعبارة أخرى فإن الحاسوب سيصبِح بشراً.

زكي وزكية الصناعي

وطبعاً رفض أكثر من دارس حاسوبية العقل البشري أو إمكانية أن تصبح الآلة بشرية. منذ الثمانينيات تلاحم دينيت وجون سورل حول هذه المسألة أحياناً بطريقة حادة كما في نقاش 1995. كان ألان تورينغ قد استبق هذا في الثلاثينيات الماضية بوضَع مقياس لتمييز ذكاء الآلة والإنسان، خلصَ فيه إلى أنّ الفروق بينهما ستنتفي في اليوم الذي تستطيع فيه الآلة الإيهام ببشريتها. واليوم ّتقوم أنظمة الولوج الافتراضي بالذات على التأكّد ما إذا كان المستخدِم تطبيقاً أو بشراً. فاقترَح سورل بغرفته الصينية الشهيرة أنّ الحاسوب يقوم بكثيرٍ من أفعال الوعي دون ن يكون واعياً، ذلك أنّه يلج إليها من خلال شفرة، لا بوعي مفارق. وكون الذكاء الصناعي قد انتقل من الذكاء البسيط إلى الذكاء المعقّد (أي من محاكاة عقل الإنسان كما في الآلات الحاسبة إلى التصرّف أنّه إنسان) لا يعني أنّه قد حقّق وعياً. فيمكِنه تشفير المعاني وبالتالي القدرة على كلام الصينية بدون "معرفة" الصينية. لقد انتقِدت غرفة سورل كثيراً في أوساط فلاسفة الوعي، كما أعلاه. أمّا روجر بينروس فقد أخذ المباينة إلى وجهة أخرى: فالمطابقة بين عقل الإنسان والحاسوب تقوم على أساس بنيتِهما الخوارزمية والحسابية. فدخل بينروس منذ عمله العقل الجديد للإمبراطور (1989) بنفي الخوارزمية عن الذهن. وبصفته فيزيائياً رياضياً فقد استقدمَ البنيةَ الكمية (من فيزياء الكم)، وهي متناقِضة مع الفيزياء العليا التي تفسّرها النسبية، لتفسير حركة الوعي الإنساني وأظهَر بأنها حركة غير حسابية أو حتى خوارزمية. وبهذا المعنى فلن تُطوّر الآلة وعيها الذي سيجعلها "إنساناً" أو حتّى مستقِلاّ عنه. 

4

رغم أنّ نقاشات الذكاء الاصطناعي مازالت تدور في مقولات الخصوصية الإنسانية، الموجودة في كلّ ثقافة، إلاّ أنّها تسلَم حتّى الآن في كثيرٍ من الجنوب العالمي من النقاشات الفكرية العاصفة، وبل وحتّى من ذهنية التحريم. إنّ السبب في هذا ليس مجرّد التحوّل في جغرافية التحريم (فما زال الوقت مبكّراً للجزم بذلك)، بل هو كذلك في استقالة كثيرٍ من الجنوب العالمي من التصدّر لحلّ مشاكِل البشرية في العِلم والتقانة والبيئة. إنّ هذا لإرثٌ استعماري. فمع الهيمنة الكولونيالية اعتبِرت هذه مواطِن امتياز التفكير الغربي، ومشاكله التي خلَقها وعليه أن يحلّها لوحده؛ أمّا الجنوب فيمكنه أن يتنعّم بالتقانة دون أن يطرح أسئلتها العويصة. وبهذا المعنى فإنّ العِلم- من خلال السوق- قد تحوّل عندنا إلى سِحر.

كثيراً من تلقي الجنوب للعِلم اليوم مشروط بالتقانة المعزولة عن أسئلتها الكُلية. وهكذا تحوّل العِلم إلى سِحر: إلى استخدامات رغائبية للعلم، إلى تقانة. وعليه فإنّ أسئلة "نزع الحاسوبية عن العقل البشري" في الشمال هي عينها أسئلة "نزع السّحر عن العالم" في الجنوب

كان الأنثروبولوجي الرائد، برونيسلاو مالينوسكي، قد طرَح في صدر القرن العشرين تمييزاً بين السّحر والعِلم والدّين. فحيث إنّ العِلم يقوم على المعرفة الموضوعية فإنّ السِحر يقوم على الرغبة بينما يقوم الدّين على العواطِف الجماعية في المجتمع. وبهذا المعنى فإنّ كثيراً من تلقي الجنوب للعِلم اليوم مشروط بالتقانة المعزولة عن أسئلتها الكُلية. وهكذا تحوّل العِلم إلى سِحر: إلى استخدامات رغائبية للعلم، إلى تقانة. وعليه فإنّ أسئلة "نزع الحاسوبية عن العقل البشري" في الشمال هي عينها أسئلة "نزع السّحر عن العالم" في الجنوب.