23-يوليو-2019

ألكساندرا واليزويسكا/ بولندا

  • الأرق هو المؤنس الذي لا يخلف موعده قبل ضجيج الليل وبين ساعاته المسروقة

 

تربّعت بين غطاء الليل وغطاء سريرك بعد يومٍ طويلٍ قد أنهك نفسك وجئت أنت، بكل جهلٍ وسخرية، تعدها بنومٍ لذيذٍ مكافئةً لها على تحمل صفاقات الحياة وأعباء العمل، وعشوائيات حياتك الاجتماعية. وأغمضت عينيك موقنًا بأن أذرع النوم الدافئة ستحملك معها في أي لحظة، ولكن الدقيقة والدقيقتان صارتا عشرًا وعشرين، وانتصف الليل وهاتفك يقول لك بكل صفاقة بأن اليوم الجديد قد بدأ وتشعر بأنه يبتسم ابتسامةً تشمت بك بعد أن نال الأرق منك وقد فشلت أنت في تأدية أحد أبسط الوظائف البيولوجية التي يقوم بها أي إنسان، وليتها كانت المرة الأولى.

يغشى السواد عينيك، وجسمك مستلقٍ على جانبه، ويحسبك الناظر غارقاً في النوم من ساعاتٍ طويلة، ولكن خيوط ذهنك تسوقك من فكرةٍ عشوائيةٍ لأخرى لا معنى لها دونما أي طائلٍ أو نتيجة. ذكرى غريبة لا تدري ما الذي أعادها إلى ذهنك، أو ربما نسج لك عقلك مكيدةً رمت بك في متاهةٍ من دفق الأفكار تدرك سريعاً بأنها تدور بك في حلقةٍ مفرغة، أو ربما تقرّر نفسك بأن الآن هو الوقت الأمثل لإيجاد إجابةٍ وافيةٍ لجميع أسئلة الوجود الكبرى، ولكن السؤال الوحيد الذي تمنّي نفسك بالإجابة عنه هو أنك لا تدري متى بدأ الأرق ومتى ينتهي، أو ما هو أصلاً، وليس بك حيلةٌ تستطيع التخلص منه.

حسنًا، كان هذا الوصف الدرامي المبالغ عقيمًا وطويلًا دون أي جدوى، تمامًا مثل الأرق، ولكن سؤال النوم، ومعه الأرق، هو من الأسئلة التي "أرّقت" ذهن الإنسان، في أنساق العلم أو أنساق الفلسفة والأدب.

ولكن ربما ظلمنا الأرق أو لعلنا أسأنا فهمه، فهو يمنحنا في النهاية ساعاتٍ مسروقة نجد فيها خلوةً ثمينةً قلما نستطيع تحيّنها في ظلّ ساعات اليوم المتسارعة، وتراكم الالتزامات والأشغال. فهو ربما فرصةٌ لتذوق دفء الأنس مع النفس، فرصةٌ للخلو بجمال مكنوناتنا تحت غطاء الليل الذي تخفت فيه جميع الأصوات دوناً عن رنين الصمت ونجوى الذات.

تحدّثنا الروائية ميلاني مكجارث في هذه المقالة عن تجربتها مع الأرق والرواية، تحاول فيها، ربما، أن ترسم لنا صورةً لإشراق الأرق الذي ينبعث من بين زوايا ذواتنا المظلمة وقتامة الليل المعتم. فلا يجب أن يكون السؤال لماذا وكيف اختارتنا لعنة الأرق دوناً عن جميع الناس، بل أين عسانا أن نجد من دون هذا الضيف الجميل الفرصة لكي نختلي بذواتنا بعيداً عن أعين الناس بعد يومٍ طويل، ونتطيّب بها سحر الليل والقصة بعيداً عن رتابة النوم.

ميلاني مكجراث، "صاحبة الموهبة الشريرة" كما وصفتها النيويورك تايمز، هي روائيةٌ كتبت العديد من الروايات البوليسية منها سلسلة Edie Kiglatuk، وWhite Heat، وThe Boy in the Snow. وقد عنونت كلٌّ من التايمز والفاينينشال تايمز أعمالها كأفضل روايةٍ بوليسيةٍ للعام في مناسبتين مختلفتين. كتبت ميلاني أيضًا للغارديان، والتيليغراف، والأوبزيرفر، الوول ستريت جورنال. كما درّست في جامعتي آرفون وروهيامبتون في إنجلترا وجامعة نورث كارولينا في أمريكا.


يندر أن ينسى المرء متى كانت أول مرةٍ تسلّل فيها الأرق ليسرق منه ساعات نومه. فترافقت ولادة الأرق عند البعض، مثل الكاتبة مارجاريت درابل، مع ولادة طفلها، أما الآخرون فقد كان الأرق هو ما ورثوه من مرضٍ أعيا أجسادهم أو فاجعةٍ موت أحد أحبابهم. أما أنا فتلبّستني عباءة الأرق في بيت عمي في مدينة إيسكس. كنت وقتها في الرابعة أو الخامسة من العمر، وكان عمي يسرد لي تلك القصص الأخّاذة وأنا في الفراش عن مغامراتٍ ساحرةٍ تأخذني إلى أراضٍ بعيدةٍ، وبعضها كان مجرد رواياتٍ تلهيني، أو ربما يهديني طيباتٍ محبّبةً إلى قلبي، ولكن كان كل ذلك في النهاية حيلةً يكمّم بها فاهي عن الشكوى والسؤال عمّا كانت تفعله يداه تحت غطاء السرير. جافيت النوم، إذاً، لأنّ سحر القصص كان أجمل من أن أدعه عني لأخلد إلى الفراش، وليس فقط لأنني كنت محتارةً أو ربما خائفةً قليلًا.

باتت قصصي هي ما يحميني من أهوال الليل، فما دمت أحكي الحكايا، فسيبقى الظلام وهمًا سخيفاً أجوف

كنت، بخوفٍ يضمّ أضلعي، أبحث في كل زوايا الغرفة عن الوحوش، وكنت أحيانًا أمشي وأنا نائمة. ومن ثم بدأت أسرد قصصًا نسجتها أنا، وحدث هذا التحول التدريجي في النهاية. فباتت قصصي هي ما يحميني من أهوال الليل، فما دمت أحكي الحكايا، فسيبقى الظلام وهمًا سخيفاً أجوف معرّىً من أي هالات خوف، فلن تجد الوحوش طريقها إلي. وصارت السرديات هي حليفي عندما يحلّ ظلام الليل. وهكذا أمسى جفاء النوم ورواية القصص اليوم نسيجاً متشعّباً في ذهني يُخيّل لي بأنهما أصلاً شيءٌ واحدٌ لا يتجزّأ.

اقرأ/ي أيضًا: مقتل ألبير كامو.. سر المخابرات السوفييتية

يتحوّل النوم لمن هم مثلي، أي من توسّدوا الأرق، إلى شرٍّ لا بد منه. فنحن ندرك بأننا نسير على أرضٍ ناعمةٍ للغاية قد تلقي بنا في أي لحظة، نحن ندرك بأن عجزنا عن النوم قد يتحوّل في أي يومٍ إلى فشلٍ في التركيز والعمل. فالأرق، وهو أمرٌ نعرفه أيضاً، يزيد احتمال إصابة المرء بسكتةٍ قلبية، والجلطة، والأمراض الذهنية. ولكن الولع الباهظ لجلساء الأرق بسردية يومهم تمنعهم من التخلي عنها مقابل الحصول على النوم. فجمال اليقظة هو سحرٌ للقلوب، سلسلةٌ من الصور الأخّاذة الحية التي تنسج معاً روح الحادثة، والحبكة، والشخصية. فالسردية خالدةٌ ما دمت مستيقظاً، وخيوط الحياة تدور وتدور أنت معها في سيلٍ من الاحتمالات التي لا تنتهي.

الاستيقاظ في الليل يعطي من اختارهم الأرق القدرة على إعادة تخيل يومهم. ونستطيع أن نتجاهل مضايقات خواطر حتمية الفناء إذا ما تكرّم علينا النوم بعدم التطفل علينا بعد أفول نور الشمس. وصحيحٌ بأن عدم النوم قد يبعث أحاسيس مثل الإحباط، وأحياناً اليأس، ولكن الأرق، بطريقةٍ تستعصي على الفهم ربما، هو حالةٌ سخيةٌ بالأمل، تزخر باحتمالات النهايات البديلة. فلماذا نغلق الباب في وجه النور عندما تكون أيامنا ركيكةً ومعدودة؟

يتوجّه العلماء، لو كان لنا أن نتطرّق إلى العلم، الذين يدرسون النوم إلى أن النوم ليس ظلّاً أو ضدّاً للاستيقاظ، وإنما حالةٌ مستقلة تضجّ هي الأخرى بأحداثٍ جسديةٍ وذهنية. فيستهلك الدماغ، كما تبيّن لنا اليوم، نفس العدد من السعرات الحرارية لمعالجة الأنشطة سواءً في النهار أو الليل، حتى لو ذهبت هذه السعرات لاستخداماتٍ مختلفة. ولكن أحداث النوم تتماهى وراء وعي الإنسان، ليُخيّل لك بأنها ليست موجودةً على الإطلاق. فربما تحسب بأنك تملك القدرة على إيقاف الزمن عندما تنهي سردية يومك. فهي إذاً، مثل النوم نفسه، ميتةٌ صغيرة. وهنا تكمن فظاظة كل ذلك. فتشعر بأن النوم، بغض النظر عن ماهيته، هي حالةٌ تخلص إلى اللاوجود. وهذا أمرٌ يترفّع عنه كثيرٌ ممن عرفوا طعم الأرق.

اقترحت عليّ صديقةٌ بأن أحمّل تطبيقًا على هاتفي يزعم بأنه يتتبّع أنماط الدماغ خلال النوم. ويميل جلساء الأرق (غالباً بدون قصد) إلى تهويل طول فترات استيقاظهم، وظنّت هذه الصديقة بأن ذلك سيكون مفيدًا لكي أعرف تمامًا عدد ساعات نومي وقربها من تصوراتي لمدى زهدي في النوم. وطبعاً أقدّر اهتمام صديقتي، ولكن اقتراحاً كهذا لا يعطيك إياه سوى نائمٌ متمرّس. فإلى جانب التفكير كثيراً بالنوم، وهو أصلاً ما سيجعل النوم يستعصي عليك أكثر، أنت فعلياً تحاول أن ترسم خريطة نومٍ في محاولةٍ بائسةٍ وسطحيةٍ لاسترشاد طريقك في أرضٍ غامضةٍ، وربما يكون أساس خريطتك العظيمة هذه هو العلم، ولكن لن يكون سوى أن تبقى هذه الأرض ومعالمها المخفية عصيةً على الإدراك حتى نهاية الزمان. فإن كنت في حالةٍ من الوعي الكافي لحبس هذه الأفكار، فأنت إذاً، بالعودة إلى نفس المفهوم، لست نائماً بالكلية.

لن يجد الباحث قصةً وهو نائم، ولكن ربما تنطوي الأحلام على ذلك، ولو أنها، مع ذلك، قبساتٌ روائيةٌ خجولة، شظايا سرديةٍ تشعر بأنها، حتى خلال وقت الحلم نفسه، عشوائيةٌ أو ببساطة مجرد تجربة. فالأحلام مفيدةٌ وفيها شيءٌ من الاسترشاد لي ككاتبة إذا ما أدركنا بأنها كل ما نملكه من إشاراتٌ تدلّنا داخل مملكة اللاوعي التي لا يُعرف عنها شيء، ولكن الأحلام لا تملك ذرةً، حتى مع ذلك، من سحر إغواء اليقظة. حتى الأحلام الحميمية، بكلّ ما فيها من متعةٍ، أبعد ما تكون عن التجربة الحقيقية.

الأحلام لا تملك ذرةً، حتى مع ذلك، من سحر إغواء اليقظة. حتى الأحلام الحميمية، بكلّ ما فيها من متعةٍ، أبعد ما تكون عن التجربة الحقيقية

ولكن لا بدّ لي من الاعتراف بأنني تعلّمت تعلماً كيف أتلمّس التنعم بجفاء النوم، وفي كثيرٍ من الأوقات أعجز عن النظر إليه على أنه كذلك. وبالعودة بالزمن إلى الوراء، أستطيع أن أرى بأن الأرق قد رسم لي طريق حياتي، بل وقيّدها في بعض النواحي. فجلّ ذكريات حياة بلوغي المبكّرة هي ألفةٌ كريهةٌ بأطباء النوم وتوجيهاتهم، التي تلمس بها شموليةٌ مستترة، بعادات النوم الصحية، فضلاً عن زيارات العيادات النفسية وغرف التأمل والأطباء المتساهلين في إعطاء الوصفات الطبية.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الندبة" للأمريكي بروس لاوري.. مأساة أن تكون مختلفًا

وبالتأكيد لا تساعد أبداً المواجهة القاسية لحقيقة عدم قدرتك على التحكم بجسدك، والتي تتكرّر كل يوم، على تلطيف إحباطات عجزك عن القيام بشيءٍ بسيطٍ للغاية. فالنوم هو وظيفةٌ بشريةٌ أساسية أستطيع القول بأنني غير خبيرةٍ فيها على الأقل. ومما ساعد كان أنني أعمل بصورةٍ حرة، وهو ما سمح لي بالهروب من كابوس المنبّه اليومي، ولكن طبعاً يعني هذا في نفس الوقت عدم وجود أمنٍ مالي. وقد أعفاني عدم رزقي بأطفال، في وقتٍ كنت أفكّر فيه بالإنجاب، من التفكير بأمرٍ مخيفٍ يتمثّل باضطراري إلى خوض معارك ليالي الأرق فوق معارك أرقي أنا.

وهكذا إذاً بقيت بلا أطفال. ويمدّ الأرق أذرعه الطويلة ليؤثّر في بعض الأحيان على علاقاتي الحميمية التي تتحوّل إلى شقاء، على الأقل في مراحلها المبكّرة، فأستغرق شهوراً لكي أعتاد على وجود شخصٍ ما إلى جانبي في السرير. ويُضاف إلى ذلك رأسك المنهك والأزيز الذي يتربّص بك، بكل شوق، فور بداية يومك بعد ليلةٍ جافاك فيها النوم، ويتصادف ذلك في معظم الأحيان مع رحلةٍ طويلة، أو مقابلةٍ مهمة، أو موعد تسليم أمرٍ طُلِب منك، ويسوقك كل هذا إلى ذاك الشعور بأنك لن تكون أبداً في أفضل حالاتك في الوقت الذي يُطلَب منك ذلك.

ولكنني تصالحت مع هذا الاضطراب... في جملته. فالتقبل، أو ربما فقط أحكام العمر، قد غيّرت علاقاتنا. فمعركة الدمار المشترك الحتمي، التي كانت تتجدّد في كل ليلةٍ فيما مضى، قد أصبحت أسهل مع الخبرة. فكلانا، أنا والليل والأرق، قد سلّمنا بأننا لن نغيّر بعضنا البعض، ومثل كل زيجةٍ طويلةٍ، فقد تكيّفنا بصورةٍ تامةٍ مع حياتنا معاً، ولو أن ذلك قد يخلو من الراحة في بعض المناسبات. وهو أمرٌ ممتازٌ، فقد زوّجتنا، طوعاً منا أو بالإكراه، خيوط القدر في علاقةٍ قائمةٍ حتى نهاية العمر.

أعظم هديةٍ يأتيك بها الأرق، كما أرى، هو الوقت والمساحة الذهنية التي لا يعكّرهما شيء، والتي تسمح لك بالقراءة والتفكير. فخفتات الليل تنطوي على راحةٍ، على بشاشةٍ خفيةٍ، فيمكن أن يحدث أي شيء تحت غطاء الظلمة. فالاستيقاظ في الليل يُشعِرك بأنك تسرق من نهر الزمن. فتقوى حواسك وذاكرتك، وتنام الرياح، وكأنك قد وجدت طريقك إلى بعدٍ آخر أكثر سحراً لا تسري فيه القواعد الدنيوية. فيُنعِم عليك الليل بشعورٍ من الفضول، سحرٌ خاص، كما يعرف كل من يبقى مستيقظاً طوال الليل. شدا الليل، نفحاته ومناظره تتبدّى بوجوده، أي الليل، وتزول بذهابه. والهدوء يتجسّد أفكاراً، أو ربما إدراكاتٍ فارقة، أو على الأقل تركيزاً حاداً. فما أسماه شيمس هيني "الغشية" هو شيءٌ فاتن، ومثمرٌ جداً للباحث بين مشارب الإبداع.

أعظم هديةٍ يأتيك بها الأرق، كما أرى، هو الوقت والمساحة الذهنية التي لا يعكّرهما شيء، والتي تسمح لك بالقراءة والتفكير

ووقتها، إذاً، يكون تفكيري وقراءتي. ربما أقوم أحياناً بصناعةٍ وجبةٍ خفيفة، ولكنني أجد، بصورةٍ عامة، أقصى متعتي وإنتاجي بالتماهي والتهادي على المياه الهادئة بين الاستيقاظ والنوم، فلست متيقظّةً تماماً، ولست غائبةً تماماً. أجد بأن القصة التي أبحث عنها، متخيّلةً كانت أم غير متخيّلة، تحمل بين أكنافها وعد النوم. فالانتصار الأدبي الحاسم يمكن أن يحاكي انفراجاً سردياً أجد نفسي متردّدةً في إقراره في الحياة الحقيقية. فأعود بذهني إلى نهاية اليوم لكي أعيد تشكيل أحداث الـ12 ساعةً الماضية لتنسج معاً سرديةً واحدة. ويتحوّل اليوم إلى شكلٍ واضح المعالم بمجرد ما خلدت إلى الفراش، وهو أمرٌ أفتقده خلال اليوم نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: الكلاسيكيات "العالمية" في الغرب.. نسخة عن عالم واحد

علّمتني التجربة أنني سأكون عاجزةً أكثر عن ترك سردية يومي متى ما كان يومي يومًا غير مُرضٍ. فيُكرهِني جسدي على إبقاء عيناي مفتوحة حتى ينسج ذهني شيئاً ذا مغزىً من هذا اليوم، أو حتى أستطيع أن أخدعه بإلهائه بسرديةٍ أكثر إغراءٍ من صفحات كتابٍ ما. لقد انتهت صحوة ساعات اليقظة ولكن انتهت معها السحر المنبثق من مشكاة حدثٍ ما. فمهما بلغت سعادتي بالانسلاخ من الأرق والسقوط في مملكة اللاوعي، أجد نفسي أشعر بأنني أنا من خسرت. وانظر إلى الأطفال، الذين تملأهم الحياة بعبقٍ خفت في داخلنا نحن، فروح الطفولة فيهم تعي ذلك. فلا أظنّ بأن تجد طفلاً، إلا فيما ندر، يخلد إلى النوم عن طيب نفسٍ منه، فهم يحتاجون أيضاً إلى قصصهم، السرديات المستعارة التي تقتلعهم من مغامرات يومهم وألغازه.

أجريت العديد من التجارب على فئرانٍ حُرِموا من النوم. وفي البداية يدفعهم ذلك إلى الأكل أكثر، ولكنهم يبدئون بالذبول والاحتضار خلال بضعة أيام. ولا تزال هذه الظاهرة لغزاً استعصى على العلماء، ولكن ربما يعرف من يقاسون وحشة الأرق سبب ذلك. فحتى أبسط درجات اليقظة تفرض نفسها ضيفاً ثقيلاً عليك. فالبقاء مستيقظاً طوال الليل، وهو أمرٌ أقل حدوثاً في حياتي الآن مما كان عليه في السابق، هي وحدةٌ قاتلةٌ تنقش ألم اليأس على جدران قلبك في ساعات الليل الميتة التي تشعر بأن لا نهاية لها. وفي ذاك الوقت، يكون صوت أول طائرة أو صوت أول قطارٍ يرتعش معه سريرك كله أشبه بضحكات أجراسٍ احتفالية.

ولكن تبقى ساعات النوم السبع أو الثماني، التي يدرك متمّرسو النوم بصورةٍ متزايدة بأن تحصيلها بالكامل هو أمرٌ غير ممكن، ليست سوى أحد مخترعات الثورة الصناعية. فكنا ننام على نحوٍ مختلفٍ في الماضي قبل 200 أو 300 عام، حيث كان الناس وقتها يخلدون إلى فراشهم مباشرةً بعد غروب الشمس وينامون أربع ساعات، ومن ثم يستيقظون لساعتين أو ثلاث لكي يكتبوا، أو يقرأوا، أو يصلّوا، أو يعاشروا أزواجهم، ومن ثم يعودون إلى نومهم فيما عُرِف باسم "النومة الثانية" (Second Sleep).

وجد المؤرّخ الأمريكي روجر إيكريتش في بحثه عن النوم، الذي نُشِرَ تحت اسم At Day’s Close (2005)، أكثر من 500 إشارةٍ أدبيةٍ للنومة الثانية من مصادر تنوعّت بين هومر، وسيرفانتس، وديكينز وغيرهم. ويظهر أن هذه الطريقة الإبداعية والإنسانية بدأت بالأفول في نهايات القرن السابع عشر بحكم حياة العمل وضرورات الحياة الحديثة. والعودة إليها، بكل تأكيد، لن يكون عملياً لمعظم الناس، ولا هو أصلاً أمرٌ سيرغبون به.

وحتى لو كان ذلك، لا أزال أشعر بأننا نفوّت الكثير. بضع ساعات نوم تتبعها بضع ساعات يقظة، وليلةٌ كاملةٌ من الأحلام المتذكّرة والأسحار المضيئة، والوقت والمساحة الذهنية بين هذا وذاك لتسجيل كل ذلك. ولك أن تتخيّل فقط القصص التي سيكون لنا أن نرويها في الصباح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأمير الصغير في سوريا.. لوحة ورواية

الدورة الشهرية.. المادة الأقدس في ثقافة القدماء