01-ديسمبر-2016

علي آل تاجر/ العراق

كانت أم عليا الدائزلي، تربي شعرها في تربة حديقتهم، في سوق حراج.
تزرع خصلاته المقصوصة. أو الشعرات المتساقطة بعد تمشيطه. تمسك الشعرات الطويلة السوداء بيديها، تمسدها بحنّو، كأنها جلد طفل. وتدفنها جثثًا مستفة. تنتظر في الشتاء أن تنمو شجرًا باسقًا. تعلو بها إلى السماء. 
لم تكن والدة عليا الدائزلي، تعرف شيئًا عن آرفو بارت، ولا ساتي، لكنها مثلهما، تحلم بأظافر قاسية تخنقها. 
*

كانت أم عليا الدائزلي، تصلي من دون وضوء. 
تقول لمدحات زوجها إنها تيممت. تقترب من لحاء جدران بيتها. تحك جلدتها حكًا فيه. تلتصق بالحجارة الصلدة النافرة. وتختلي بصوتها. تخرج أنينًا حارقًا. تركض خلفه. 
هكذا تصلي. ولا تنام. تشرب ركوتي قهوة من محمصة "الأندلس". وتمضغ حبات تمر عراقي. وتشم إبطيها. ثم تضع قدمًا في الشرفة، وقدمًا خارج درابزينها. 
كانت أم عليا، حالمة، لم تعرف دونكيشوت يومًا ولا سرفانتس، لكنها كانت ترقص وحدها مع الله.
*

كانت أم عليا الدائزلي تكره أولادها. تطعمهم زهرًا وياسمينًا يطل فارعًا من طرف الشرفة. يتدلى إلى مقهى بيت السكلاكي. فيقطفون زهراتها البيضاء الشفيفة. 
تنّيم أم عليا أولادها عند الظهيرة، في غرفة واحدة. تكدسهم كأغراض ستستخدم في وقت لاحق. 
لم ترسل أحدًا منهم إلى المدارس، ولا الكتاتيب. تلبسهم ثيابًا منشاة ومعطرة. كأنهم يتهيؤون للخروج. 
تضع صحون "العوامات" أمامهم، ليشمّوا رائحة السكر المحروق، وترش عليها "كمشات" من القرفة، فيناموا. تشتريها لدى بائع عجوز من بيت النابلسي. كان والده شيخ طريقة، تناديه بـ"جمّو". لا تعرف متى صنعت له اسمًا. ولمَ. 
لم تكن أم عليا الدائزلي، تعرف عمة مارسيل بروست ولا كعكة المادلين، ولم تنبهر يومًا بـ"البحث عن الزمن الضائع". كانت تحب صناعة الموت. نوم بطيء لأطفال تمنت أن لا تنجبهم. 
*

كانت أم عليا الدائزلي وحيدة. تجلس مع جاراتها كل يوم، يأكلن مناقيش الصعتر، تملحس قطتها بيدين متشققتين. كانت تظن نفسها رجلًا في حياتها السابقة. وإلا كيف لها هاتان اليدان القاسيتان، تنفر منهما العروق، ويغزوها السواد؟ 
تغادر أم عليا جلسات جاراتها حيث تجلس، يرونها فقط ساهية. تطير إلى السقف، تلونه، ثم تعود إليهم شاردة، تغلي ركوة قهوة، لنفسها. 
يقلن إنها ممسوسة. لكنها تعرف إعداد ورق العنب بمهارة وصحون المهلبية وتشعل أعواد البخور بعد صلاة الظهر، ولا تنتظر أحدًا أن يأتي. 
لم تكتشف أم عليا الدائزلي، "الأمير الصغير"، ولا حكايات "الطيران" لدى أنطوان دي سانت أكزوبيري، لكنها روضت خيالاتها كلها كي تبدو طفلة بين نساء يبست قلوبهن.
*

أم عليا الدائزلي، تملك يدًا واحدة. تنظف بها بدن ابنتها، وتمسك بها المشط العظم، وتمرره بخفة في شعرها. وتكمش بباطنها لقيمات البطاطا المحمرة. تسقطها في أفواه شرهة. وتشحلّ بها أعشابًا تغزو ياسمينتها ونبتة القرطاسيا و"المحكمة". وترش بها كولونيا مصنوعة في معمل عطارة آل الشهال.
لم تقبل أن تنفق المال لشراء طرف ليدها المقطوعة. اشترت بالمال مدفأتين وحصيرة ملونة، وغازًا بعينيتين. لونته باليد الواحدة، بألوان العصافير الحالمة. 
ليد أم عليا سحر غامر. تمررها سريعًا على رأس سعاد فتنام. تضعها على قلب ابنة جارتهم، المصابة بالربو فيزهر قلبها. لكنها لا تسعفها اليد على أن تغفو. يؤلمها الأرق.
لم تتعرف أم عليا الدائزلي إلى إيفان كليما، ولم تقرأ له "لا قديسون لا ملائكة"، لكنها تعرف ماذا تصنع يد واحدة في حياة الآخرين.
*

كانت أم عليا الدائزلي عتمة في حياتها السابقة. تنزل عند العصر لتلهو في الغرف الظليلة. وحيدة، تراوغ الشمس، وتلاحق ذنوبها. 

لا تنام أم عليا في حياتين متتاليتين. تكفيها إغفاءة شاردة فوق الكنبة، أو تمدد سريع على كرسي المطبخ. لكنها سرعان ما تفتح عينيها لعالم غائب. كأن تحلم في طفولتها. تعود إلى سطحهم في حي البحصة. لتطلق صفارة لسرب حمام، سعيد ابن جارهم. أو تنزل الدرج لاهثة خلف قطط بهيجة. تمسك "البسس" الصغيرة بيد واحدة. تضعها في كيلوتها. تخرمشها البسّة. فينمو التراب من فجوتها مرارة وألمًا. يشبه ألم الأصابع الفجة. حين أدخلها عزات الجبنخجي فيها.

تحلم بطفولتها، في شرود باسق، يعلو مثل قماش العروس، يسدل عتمتها. فترتب في حلمها شعر دمية محشوة بالقش، أو تعيد زهرة الغاردينيا إلى جرن الكبة الطافح بالماء. أو تزّم فمها للمارة قرب مسجد البرطاسي. كي تنسى أصابع عزات، والتراب المتسرب من بين فخذيها المضائين. هناك أخفت شمسًا كاملة، فنامت المدينة.

كان لأم عليا عين ثالثة. تراقب بها الداخلين إلى خان الخياطين والنازلين من طلعة الحديد. تدق ظهورهم بأصابعها، تثقب الغيم، تمطر. فيعودون أدراجهم، تلقي بالعتمة على أحياء الدبابسة والعوينات ونزلة نوح وسيدي عبد الواحد. وتنزل لتلهو.

لم تعرف أم عليا "لوليتا" ولا فلاديمير ناباكوف، ولا آذار نفيسي، وكتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران"، لكنها وحدها تعرف أية عتمة تضيء فجوة الرأس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

راعني ما رأيت

ندب زرق للذكرى