02-مايو-2018

أمين الزاوي

رواية "حرّ بن يقظان" (منشورات ضفاف والاختلاف، 2017) هي الرواية الرابعة عشرة بلغة الضاد للكاتب الجزائري أمين الزاوي. لم يحدِ الكاتب عن دربه السردي الشائك والمثير للتساؤلات الإنسانية والاجتماعية. الأكاديمي أمين الزاوي يحرجُ ولا يجرحُ، يخوض تجارب ظلّت تشغله قلمه المتوهج منذ باكورة أعماله الروائية "صهيل الجسد" (1985)، لكن بناءً على معرفة عميقة بالمسألة التي يخوضها. يتساءل صاحب "الساق فوق الساق" (القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2018): "هل هنالك حياة بدون حرية؟". سبق له أن صرح في محاضراته الكثيرة أن الأدب يطرح الأسئلة، ولا يملي أجوبة ساذجة لمتلقٍ غير مكترث برهانات العصر وتحدياته على كل الأصعدة.

رواية "حرّ بن يقظان" تدور في جزائر ما بعد الاستقلال، في فلك يسير ضد عقارب الزمن

رواية "حرّ بن يقظان" تدور في جزائر ما بعد الاستقلال، في فلك يسير ضد عقارب الزمن. آكسل السنوسي، المكنى "حر بن يقظان"، يسرد حياته المتناقضة كما عاشها وعبث بها كيفما اشتهى، حتى مولده لم يكن عاديًا، إذ ولج قرية "التفاحة" من فجوة سلوانة، غازلة صوف أبيه إسحاق السنوسي. إسحاق كان قد جلب سلوانة الغامضة من تخوم الصحراء لتدعك الصوف ولتفرغ خصيتيه من أثقال اللهفة الجنسية. أهمل زوجته الشرعية أَسافُو، وافترس سلوانة إلى أن حبلت بآكسل. كان لا بد من التستر على الفضيحة، فتظاهرت زوجته أسافو بالحمل طيلة الأشهر التسعة.

اقرأ/ي أيضًا:
مكتبة لونيس بن علي

أسافو شغفها قمر الزمان حبًّا. كان يعتني بأحصنة زوجها إسحاق. غوت وثملت بعرق شاب مفتول العضلات يقطر شهوةً صاهلةً، ولكن اختفاءه المفاجئ "صَكَّ" رغبتها الدفينة وأطفأ ولعها به. لقد خطفته حرب "الستة أيام" بدون سابق إنذار. انطوت على نفسها وذبلت بتلة بتلة، وهي ترى بعلها إسحاق "يدكُّ" مفاتن سلوانة، كأنها انسلخت من إحدى لوحات "إتيان دينيه" لتسلب عقل إسحاق وجسده المشتعل على الدوام. دوام الحال من المحال! بعد بضع سنوات، اختفت سلوانة كلغزٍ، تاركةً وراءها إسحاق وآكسل. شرد ذهن عاشقها إسحاق، وتعكر مزاجه وخرَّ جسده. أضحت أيامه ولياليه كوابيس لا تنتهي، مدُّ بصره شوقٌ ملتوٍ وجَزْر فؤاده يأس بفقدان حبيبته النايلية. لم يعد يحسّ بجمال الحياة، ذهبتْ حواسه الخمس بهروب سلوانة، منحوتة الرمال التي أشبعت غريزته لسنين.    

تخيل أمين الزاوي قرية "التفاحة" والتي أسّسها رجل أندلسي حرص على توريث الجينات بدون الاختلاط بالأجانب. لكن مع تعاقب الأجيال كثرت الإناث على حساب الذكور، فتفشت ممارسة الجنس بين البنات الساخنات جسديًا وازدادت مواعدة الأجانب سرًّا، فقرر "التفاحيُّون" كسر التابو لمصاهرة الرجال الأجانب المتربصين بهن منذ أمد بعيد من وراء نباتات الصبار.

رواية حر بن يقظان

كبر حر بن يقظان ثم انتقل إلى الجزائر العاصمة لمتابعة الدراسة في الثانوية وبعدها في الجامعة. سكن في منزل ابن عم أبيه: سيدي مولاي. كان له ابنتان توأم، جميلة وجُنينة. جمع حر بن يقظان بين رونق المنزل بحي تيلملي المطل على خليج الجزائر الذي يشبه حدوة حصان وقسامة الشابتين المتشابهتين. لم يلتف النزيل الجديد، ابن سلوانة، ليرتدي ثوب الذئب اللهوف لافتراس الغزالتين الأنيقتين. بينما كان سيدي مولاي منغمسًا في دروس الشيخ محمود مرسي القنادسي، داعية أخذ "إجازته العلمية" من مشايخ جامع الأزهر، كانت عينا زوجته لالة بتول لا تنامان، حرصًا على جسدَيْ ابنتيها الفاتنتين. هل تغيب عن الذئب الجائع مضاجع الغزلان في البراري المكشوفة؟ لالة بتول نفسها استهواها صوت الفقيه وهو يلقن سيدي مولاي أصول الدين وأغواره، حلاله وحرامه، ظاهره وباطنه. أحبَّت الشيخ الأزهري من بحة صوته الذي أوقد رغبتها الجامحة وهذه "الغفلة" كانت كافية لحر بن يقظان ليرتاد سريرَيْ جميلة وجنينة، مشكلًا قطعة كوريغرافية ثلاثية الأبعاد جنسيًّا. التهمهما على نهم، ولم تمانعَا دلو ماء جاء هبةً لإخماد نيران ما فتئت تلهبهما صباحَ مساءَ، صيفَ شتاءَ.     

تتسارع الأحداث، فتجبر جنينة على الزواج من شاب مازوشي باقتراح من الشيخ القنادسي، ولم يدم الزواج سوى بضعة أشهر قبل أن تُطلق، وتصبح نزيلة مستشفى الأمراض العقلية "فرانس فانون" بالبليدة. لحقت بها أختها التوأم، جميلة، كأن التشابه الخلقي ينطبق أيضا على الحالة العقلية للإنسان. كانتا روحًا واحدة في جسدين بضين متناغمين. للجنون شبه.

رواية "حر بن يقظان" ملغمة بالألغاز ومفعمة بالتساؤلات الوجودية في ظل مجتمعات تجيد غلق مساحات الحرية

في الجامعة، يتقاسم حر بن يقظان غرفته مع طالب فلسطيني من غزة، يدعى ياسر البرغوثي. في البداية، ابتهج من مصاحبة رجل يرمز إلى "قضية أرض" أرقت العرب قبل العجم. عاقر البرغوثي الخمور الرفيعة وتلاشت شخصيته بين أحضان النساء وبذل النفس والنفيس للهجرة إلى أمريكا، ذهل حر بن يقظان فزال من عينيه زيف قدسية القضية الفلسطينية التي تربى عليها، شأنه شأن كل العرب.

حر بن يقظان يتخرّج من الجامعة طبيبًا نفسانيًّا، وأول وظيفة له كانت في "مصلحة النظافة ومحاربة الجرذان"! وضعيّته تجاه الخدمة العسكرية أجَّلت ترسيمه في المنصب، فعرض عليه سيدي مولاي حيلة تغنيه عن اجتيازها: قاده إلى "مصحة فرانس فانون" مدة أسبوع، للتظاهر بالجنون وافتكاك بطاقة الإعفاء. اعتقد أنه رأى شبحَي جنينة وجميلة!

شخصية أخرى محيرة أثثت الرواية، الهواري ابن سيدي مولاي، والذي اختزل معضلة التطرف الديني الذي غذى الإرهاب لاحقًا. كان الهواري شابًا متهورًا، يساريًا، لا يعبد إلا لينين وماركس وإنجلز. عشق النبيذ والنساء على حد سواء. فجأة، مع سقوط نظام الشاه بإيران ووفاة الرئيس بومدين (نهاية السبعينيات)، تدفقت إلى عقله مذاهب دخيلة انتشلته من عالم الإلحاد والمجون، ليعتنق الدين الإسلامي المتطرف. حتى أنه اختبأ ستة أشهر في الحدود المغربية الجزائرية وادعى بعد ظهوره مجدّدًا أنه كان في أفغانستان يبيد عساكر الاتحاد السوفياتي! لم يستشهد!

كما في رواية "قبل الحب بقليل"، لم يفوت أمين الزواي الفرصة ليقذف بشخصية حر بن يقظان إلى مدينة وهران، الحيوية نهارًا والصاخبة ليلًا بسهراتها الآسرة لرواد ملذاتها. آكسل اغتنم حريته بين النبيذ والجنس، على أنغام بياف والشيخى رميتي وأم كلثوم.

رواية "حر بن يقظان" كتبت بلغة غير متكلفة، خالية من الدسم، ملغمة بالألغاز ومفعمة بالتساؤلات الوجودية في ظل مجتمعات تجيد غلق مساحات الحرية وتسييجها دينيًا.

الروائي أمين الزاوي يأبى أن يكتب شيئًا يعرفه القارئ مسبقًا. ميدان السرد لدى ابن باب العسة (1956) ليس مستويًا، بل فسيفساء على منحدر يجمع بين كل التجاذبات العربية، فرديًّا وجماعيًّا، فلسفيًّا ودينيًّا. معادلة الصراع الفكري بين الشرق المنزوي في ركنه المقدس والغرب المنفتح على الغير. جديرة أن تقرأ.