01-سبتمبر-2021

تجهيز لـ بيثان باركر/ أمريكا

زمن مستعمل

أثار فوز سفيتلانا اليكسفيتش بنوبل للأدب عام 2015 الكثير من الجدل. احتج نقاد روس قائلين إن الأكاديمية السويدية "تتابع تقليدًا سنّته أيام الحرب الباردة عندما كانت تلتفت إلى روسيا وأوروبا الشرقية فقط لتمنح جائزتها لمنشقين"، وبالتالي فهي "لم تكرم الكاتبة البيلاروسية إلا لأن هذه قد أتقنت التشفي بانهيار الاتحاد السوفييتي". وكعادتهم، احتج أدباء ونقاد من دول آسيوية وأفريقية، مكررين الاتهام للأكاديمية بأنها "تصر على تجاهل دول الجنوب في سياق تأكيدها على مركزية الغرب الثقافية". غير أن الاعتراض الأعلى صوتًا جاء من مصدر آخر ولسبب مختلف، إذ ردد كثيرون عبارة جريدة "تسايت" الألمانية: "جائزة نوبل للآداب يجب أن تمنح للآداب الكبرى وليس للصحافة".

حين نالت سفيتلانا الكسيفيتش جائزة نوبل ردد كثيرون عبارة جريدة "تسايت" الألمانية: "جائزة نوبل للآداب يجب أن تمنح للآداب الكبرى وليس للصحافة"

في كتبها التي أوصلتها إلى مجد نوبل، ظلت سفيتلانا الكسيفيتش أمينة للصحافة، مهنتها الأصلية، فهنا ثمة كاميرا ترصد الحدث وتلاحق تفاصيله وأصداءه، وثمة مسجلة توثق أصوات المشاركين وانفعالاتهم، وثمة "ميكرفون" يتيح للراغبين أن يقولوا ويفسروا ويبرزوا وجهات نظرهم. وبواسطة هذه العدة الصحفية الافتراضية تنسج الكاتبة عالمًا خاصًا تتعدد فيه الأصوات وتتقاطع التجارب الإنسانية، لنحصل على صورة معمقة ومكثفة لعصر بأكمله.

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. حارسة الذاكرة

في "زمن مستعمل" (دار ممدوح عدوان 2018، ترجمة نزار عيون السود) تتوقف اليكسيفيتش عند لحظتين في تاريخ الشعوب التي جمعتها يومًا الإمبراطورية السوفيتية: الأولى بين عامي 1991 و2001 والثانية بين عامي 2002 و2012، وبين اللحظتين، بين السقوط المدوي للإمبراطورية وبين استيقاظ الحنين إليها، ثمة حكاية مثيرة، حزينة ومشحونة بالدلالة، يرويها عشرات الأشخاص من مختلف الأعمار والمهن والانتماءات.. أما الكاتبة فتكتفي بدور الصحفية، تحمل أسئلتها وتجوب بها الأمكنة المتباعدة، ثم تنقل الإجابات، وتزعم أنها تعيد صياغتها وحسب.

هل يستطيع الكاتب أن يجعل من حادثة تاريخية مادة روائية، وأن يحول الأشخاص الحقيقيين الذين من لحم ودم إلى شخوص أدب من حبر وورق، وأن يركّب للتوثيق أجنحة من خيال، أن يقطف الذرى الدرامية من الوقائع، ويقطّر الأعمار والتجارب والمآسي الشخصية في لوحات فنية.. هل ينجح أسلوب الصحافة، تقنياتها وروحها، في إنتاج أدب؟.

سفيتلانا اليكسيفيتش في "زمن مستعمل" تقدم إجابة حاسمة: نعم.

المئذنة البيضاء

كتب الروائي الأمريكي جوناثان فرانزن: "هناك جملة من الأسباب لكي لا نقرأ رواية (الرجل الذي كان يحب الأطفال)" في هذا الصيف. فهي أولًا رواية، وألم نتوصل جميعًا إلى نوع من الاتفاق السري، خلال السنتين أو الثلاثة الماضية، على أن الروايات تنتمي إلى عصر الصحافة وستذهب بذهابها أو أسرع؟". هكذا فهو يميت عصفورين بعبارة واحدة، ولكن بما أن كلامه جاء في سياق مراجعته لرواية زميله كرستيان ستيد، فربما كان مازحًا. ومع ذلك فهنا ثمة ترديد لنغمة شائعة، وكثر هم الذين يستعدون لتشييع الرواية، معددين الإشارات الدالة على أن حضارتنا في طريقها إلى مغادرة أرض الخيال الأدبي.

الصحافة بدورها تنال نصيبًا مماثلًا من النعي المسبق، دون أن تجد العدد نفسه من المتحمسين للتشييع. هكذا فالرواية والصحافة، معًا ويدًا بيد، يسيران بانصياع المحكوم بالإعدام إلى حتفهما الوشيك.

في رواية "المئذنة البيضاء" ليعرب العيسى يوجد الكثير من الصحافة. ريبورتاجات صحفية عن قصص واقعية تتناثر على امتداد الرواية، بل إن العمل برمته مصاغ على هيئة ريبورتاج صحفي طويل، فيه الكثير من البحث والتقصي ومطاردة الفاعلين والتنقيب في الوثائق.. لغة أدب مضبوطة على إيقاع زاوية صحفية رشيقة.

في رواية "المئذنة البيضاء"، الرواية والصحافة معًا ويدًا بيد، ولا شيء يوحي بأنهما ذاهبتان إلى موت قريب

إذًا، الرواية والصحافة هنا أيضًا معًا ويدًا بيد، ولكن لا شيء يوحي بأنهما ذاهبتان إلى موت قريب. لا أثر فيهما للوهن أو للشيخوخة. على العكس تشي مشيتهما الحبورة والمنطلقة بأنهما سعيدتان بشبابهما وبتجديد العلاقة بينهما، والتي عبرت عقودًا طويلة من الحساسية المتبادلة وسوء التفاهم والتنابذ بالألقاب.

حرفة ورسالة

في كتابه "الصحافة حرفة ورسالة"، يحكي سلامة موسى هذه الواقعة: كتب ناقد ذات مرة أن صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"، كبرى الصحف الأمريكية وقتئذ، قد انحط شأنها لأنها لم تعد تبالي بالآداب والعلوم، وأنها "كانت تعنى قبلًا بتثقيف قرائها أكثر مما تعنى الآن". لم ترد الصحيفة على النقد مباشرة، بل عمدت إلى جمع كل المقالات الأدبية المنشورة في عدد اليوم الذي نشر فيه هذا النقد، فكانت الحصيلة كتابًا من مئة صفحة "كتابًا رائعًا لا يزال يباع إلى الآن".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "المئذنة البيضاء".. سيرتنا المجدولة مع سيرة مدينة

منذ زمن ليس بالقصير، خرجت الصحافة من عباءة الأدب، بلغت وصارت كائنًا راشدًا ومستقلًا، ولكن لا يحتاج البالغ، كي يثبت أنه بالغ، إلى أن يقطع شرايينه أو يدمر جيناته أو يذبح أباه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

4 وقفات في أرشيف الصحافة

الأكثرية على حق هذه المرة