22-يناير-2021

أمجد ناصر وكتابه "حياة كسرد متقطع"

ألترا صوت - فريق التحرير

في مقال يحمل عنوان القصيدة المنشورة في ديوانه "حياة كسرد متقطّع"، نشره في العربي الجديد، في تاريخ 6 تشرين الأول/أكتوبر 2014، كتب الشاعر الراحل أمجد ناصر تداعيات شخصية وفكرية حول مدينة نيويورك قال فيه: "لو قدِّر لشاعر إسبانيا العظيم، غارسيا لوركا، أن يعيش في زمن المكارثية، لما دخل الولايات المتحدة الأمريكية، حتى قبل أن يكتب كتابه الشعري الشهير "شاعر في نيويورك"، والذي أصبح منصَّةً لازمةً لكل الشعراء الذين جاءوا بعده، كي يسددوا منها "قصائدهم المدببَّة" في اتجاه "التفاحة الكبيرة". لم يكن ممكنًا للشاعر "الجمهوري" صديق الشيوعيين، رفيق الغجر، المعادي لكتائب فرانكو، أن يدخل "جنَّة" العم سام، المسيَّجة بالتوجس من كل ما هو تقدمي، فقد بلغ الهوس اليميني الأمريكي، المعادي لليسار، حينها، حدود الفاشية. فمثل الفاشية كان "المكارثيون" يفتشون الصدور والأدمغة بحثًا عن فكرةٍ لا تتسق مع تصورهم اليميني المتشدد للعالم، تصورهم الذي قد يكون البذرة الأولى لما سيسمى لاحقًا "المحافظين الجدد"، الذين تحدَّر معظم كوادرهم، للعجب، من اليسار الأمريكي أو العالمي".

وبعد أن يحكي طويلًا عن الهوس الأمني الأمريكي الذي تفاقم بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، يقول: "كَتَبْتُ، بعد واقعة البرجين، قصيدة بعنوان "قصيدة مؤجلة إلى نيويورك"، مقتفيًا فيها "تقليد" لوركا في هجاء المدينة العمودية، غير أن القصيدة التي كُتِبَتْ، ونشرتْ فعلًا، ستظل مؤجلة، رمزيًا، إلى إشعار آخر".


  • إلى صبحي حديدي

 

I

 

قَبْلَ أن يحدثَ ما حدث.

أعني، قبلَ أن تصبحَ الأبراجُ أدراجًا للقيامةِ

وينقسمَ العالمُ "فسطاطينِ" من رملٍ وماء

كنتُ أُمنّي النفسَ بأن أكونَ في عدادِ الشعراءِ

الذين يلعنونَ نيويورك.

 

كانت القصيدةُ جاهزةً، تقريبًا، في ذهني.

فكتابةُ قصيدةٍ عن غابةِ القارِ والكونكريت

أضحتْ تقليدًا مُتّبعًا مذ أرسى لوركا

(بوحيٍ من ويتمان، على الأرجحِ، لا من جبران)

القاعدةَ الأولى للشعراءِ الذين سيسدّدونَ

للتفاحةِ الكبيرةِ،

كوبرا الجنسِ والمال،

برجِ بابلِ العصرِ والأوان،

قصائدَهم المدببة.

ليس ضروريًا أن يرموا في وحل "الهدسون"

أعقاب لفائفهم "الملغومة"،

أن يتطوحوا، سُكارى، بأرخص أنواع الكحول، على جسر "بروكلين"، أن يسمعوا ولولةَ الجاز في ليل "هارلم" الُمبقّع بوميض السكاكين، أن يعرفوا أن تمثالَ الحريةِ ذا الشعلةِ التي لم تعدْ تضيءُ جناحَ خُنفساءٍ كان، أصلًا، لقناة السويس، ولما أفلست الدولةُ المصريةُ على إيقاع "أوبرا عايدة" اشترته القوةُ الطالعةُ من وراءِ المحيطِ الذي سمّاه العربُ، تشاؤمًا، بحرَ الظلمات، ما همَّ إن نزلوا إلى "الصب وي" تاركينَ عيونَهم المستديرةَ تحمي ظهورَهم أم لم ينزلوا

فليس شاعرًا من لم ُيجرّبْ حظَه مع نيويورك

وصْفَها،

هجائَها،

تَوعّدَها بمصيرٍ سادوميٍّ،

حتى قبلَ أن يرى نرْدَ القسوةِ،

دموعَ الملونينَ السوداءَ،

البهجاتِ العابرةَ،

الريشَ الموحلَ للحمامِ الأغْبرِ الذي يَصْلُحُ لأيِّ شيٍء

سوى أن يكون رمزًا للسلام

تهطلُ من مُقْلَتِها الحَجَرية.

 

II

 

لم أذهبْ إلى أمريكا قط.

عَرَفْتُها مثل غيري من الأفلامِ والأحلام ِوالحروبِ

التي ولّدتْ لدينا، نحنُ الذين تنحني جُذُوعُنا، تحت عَجِيجِها المعدنيّ،

على سواقي الدمِ والجفافِ شعورين أصيلين: الحبَّ والكرهَ.

وعندما وجدتُ نفسي ذاتَ مرةٍ في بلادِ القيقبِ لم ألبِ نداءَ أخي أحمد الذي ظلتْ تتخاطُفه ندّاهةُ التِبْرِ والتُرابِ من الشاطئ الغربي إلى الشاطئ الشرقي حتى انتهى به الأمرُ يجاهدُ للبقاء حيًّا وراءَ قضبانِ محطةِ بنزينٍ قُتِلَ فيها زميلُه الذي يعملُ بجانبهِ على الآلةِ الحاسبةِ برصاصةٍ واحدة،

فقد ِخفْتُ أن يُفْسِدَ مروريَ العابرُ في "منهاتن العليا" قصيدتيَ العتيدةَ التي تُطْبَخُ على نار ضغائني الهادئة.

....................................................

لكن بعدَ أن حَدَثَ ما حدث.

أعني، بعد 11 أيلول من عامِ النبّيين الدجالينِ وآياتِهما الشيطانيةِ لما اكتشفَ الإنسانُ، بهلعٍ ميتافيزيقيٍّ مفاجئ، أن يديه اللتين دربهما على الطيرانِ طويلًا لتحطا به على وجه الغمرِ عندما تتفجرُ الأبراجُ ليستا جناحينِ وإنما عَتَلَتَانِ تهويان به إلى الارض، لم أعدْ قادرًا على كتابةِ هذي القصيدة.

 

هكذا ستنجو نيويورك، مؤقتًا في الأقلِ، من قصيدةِ هجاءٍ أخرى لصلفها العموديّ.

....................................................

هذه ضربةُ ختامٍ متوقعة.

أودُ أن أقترحَ نهايةً أخرى للقصيدة:

لكي يعرفَ الذين طاروا في سديمِ القيامةِ معتقدينَ أن لهم أجنحة

لماذا جرى ما جرى،

فكّري يا نيويورك بالزمن الدائريِّ للأمثالِ،

بالدم والهروين يسيلان من "الغرافيتي"،

بقبعاتٍ الفطرِ السّامِ على رؤوسِ نسلٍ جديدٍ من التماثيل،

بالعامل البرتقاليِّ في ثيابِ الحداد،

بزعانف "التوما هوك" وهي تتركُ عينيّ طفلٍ مفتوحتين إلى الأبد.

 

فكّري

فكّري

لعل رسائل الغرقى،

الدائخينَ على عشبةٍ وقطرةِ ماءٍ،

المجذومينَ في الأرحام،

المُسمّرينَ على قمرٍ يابسٍ يسمّى الرّغيفَ

ما تزال تئنُ في زجاجاتٍ تتقاذفُها أمواجُ المحيطِين.

 

  • لندن – نيسان/ابريل 2002

 

اقرأ/ي أيضًا:

سليم بركات: التنين

بدر شاكر السياب: غريب على الخليج