31-أكتوبر-2019

أمجد ناصر (ألترا صوت)

عندما غادر يحيى النميري النعيمات (1955-2019) بلدته، الطرّة، شمال الأردن؛ كان يعرف، على ما يبدو، أنّ البضاعة الوحيدة التي تُشبه الذهب هي الطريق، شأنه في ذلك شأن الشّاعر العراقيّ الراحل سركون بولص. الشّاعر الأردنيّ الذي سيصير اسمه فيما بعد أمجد ناصر، استجاب لرغبة أقدامه وشغفها بالمسير، فمشى طريقه كاملًا، إلى أن غادرنا يوم أمس، مُنهيًا رحلةً قصيرة وطويلة في آن معًا. طويلة لجهة المسافات التي قطعها. وقصيرة لأنّ الشّاعر الذي رحل في الـ 64 من عمره كان لا يزال قادرًا على العطاء، ولديه ما يودّ تقديمه إلى قرّاءٍ اقتفوا أثره لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن.

كتب أمجد ناصر شعرًا بدا كالبوصلة، يستدلّ به على مكانه الأول، ذلك الذي انشغل به في منفاه

رحل أمجد ناصر إذًا، بعد أن سرقه السرطان من الحياة والشِّعر معًا، تاركًا خلفه حياة عاشها كسردٍ مُتقطّع، بدأت منذ كان يصعد جبل جلعاد ورعى العزلة فيه، وخبر الحيرة بين شقائق النعمان، وخبّط بأجنحته أثناء سيره في دروب الترحال والمنافي. يتوقّف كلّما رأى علامة، ويواصل المشي إن تأخّر الغرباء في الوصول، قاصدًا مقهىً يكتب فيه مديحًا لمقهىً آخر، وحيدًا كذئب الفرزدق.

اقرأ/ي أيضًا: مختارات أمجد ناصر: لم أكن أعرف أن الأمل أزهق أرواحًا بهذه الكثرة

كتب أمجد ناصر شعرًا بدا كالبوصلة، يستدلّ به على مكانه الأول، ذلك الذي انشغل به في منفاه، يُعيد خلقه وتكوينه أكثر مما يستعيده، وكأنّ الاستعادة عندهُ نوع من المخاطرة التي قد تجرّه إلى مكانٍ يقف فيه وحيدًا، في مواجهة تلال مكدّسة من ذكرياتٍ سيسرًّ إن استعادها، غير أنّ فكرة أنّها مضت وانتهت ستعكّر صفوه. "خفت أن ألتفت ورائي فأجدني"، يقول أمجد ناصر، وفي قوله ما يكفي للإشارة إلى مسير مستمرّ لم ينتزع منه مكانه الأول، بقدر ما شدّه إليه، دون أن يكون الالتفات إلى الوراء أمرًا ممكنًا. والنتيجة أن جاءت مجموعاته الثلاث الأولى، أي: "مديح لمقهى آخر" (1979)، و"منذ جلعاد كان يصعد الجبل" (1981)، و"رعاة العزلة" (1986) لتروي سيرة اغتراب صاحبها، وتجول بالقارئ في ماضيه البدوي الذي بدأ يسحبه نحوه ما إن وصل إلى أمكنةٍ كبيرة: "تأخذنا الأقدام إلى حالاتٍ مُقتضبة في العتم لا نجرؤ على الابتعاد كثيرًا وغالبًا ما يحدث في العمارات الكبيرة، والمنافي" يقول.

يُمكن القول إنّ المجموعات المذكورة أعلاه تحديدًا، تملك خصوصية موازية لخصوصية أنّها سرد لاغتراب صاحبها ومنفاه. ذلك أنّ الشّاعر الأردنيّ ومن خلال تنقّلاته بين شكلٍ وآخر، أو ممارسة شعرية وأخرى؛ مثّل "على مدار الثلاثين عامًا الماضية مخبرًا نموذجيًا لتحوّلات القصيدة العربية في الفترة نفسها"، على حدّ قول الناقد الأردنيّ فخري صالح الذي أشار كذلك إلى احتفاظ قصيدة أمجد ناصر، وحتّى مرحلة ما معيّنة، بنفسٍ غنائيٍّ ضارب في أعماقها، على الرغم من أنّ مشروعه الشّعري كان مضادًا للغنائية.

قصيدة الشّاعر الراحل المُشيّدة على جمل صلبة، تتداخل فيها المفردة اليومية بالقاموسية، خضعت لانقلاباتٍ عديدة غيّرت الشكل دون الوصول إلى الممارسة والمتن، لا سيما في مجموعاته المذكورة قبلًا. هكذا، بدا مؤلّف "هنا الوردة" وكأنّه يكتب كل مجموعةٍ بشاعرٍ يختلف عن ذلك الذي سبقه. فبداياته، أي "مديح لمقهى آخر"، ليست كـ"منذ جلعاد كان يصعد الجبل" التي رأت النور بعد عامين فقط من تاريخ صدور الأولى. ناهيك عن أن الأخيرة ليست كـ"رعاة العزلة". وأنّ كل ما سبق، ليس كـ"حياة كسرد متقطّع" التي كانت نثرًا خالصًا، ومُكتملًا. وبالتالي، لن تكون ملاحظة ذلك النوع من الترحال إلى ممارسات جديدة وأشكال مختلفة في قصيدة أمجد ناصر، أمرًا صعبًا. وعند هذا الحد، يبدو أن الترحال تمكّن من التسلّل من عالمه الشخصي إلى عالمه الشّعري.

أكّدت مجموعة "حياة كسرد متقطّع" أنّ في مسيرة أمجد ناصر أكثر من شاعر، وأكثر من تجربة شعرية

بإصداره "حياة كسرد متقطّع" (2004)، كان أمجد ناصر قد تخلّص من البداية، أي من الإيقاع الذي لم يحمّله الغناء والوزن الصارم. المجموعة بأكملها كانت تأكيدًا على صحّة مقولة أنّ في مسيرته الشعرية أكثر من شاعر، وأكثر من تجربة شعرية. ولربّما كان الثابت الوحيد هو الموضوع الذي اختاره لنفسه بعد أن اختار شعره. إن كان اختياره أن يبدأ الشِّعر من سيرته وترحاله ومنافيه وما تركه خلفه في أرضه الأولى. أو أن يجعل من الصحراء، بشكلها الأسطوري، والنسب المكسور، وكذا المهد الضائع تجاوره الهوية المفقودة، والنفس التي عافت ما وصلت إليه من أمكنةٍ ضخمة وكبيرة؛ موضوعًا لشعره. نقول اختار، ونستعيد ما كتبه الشّاعر اللبنانيّ عبّاس بيضون: "أمجد ناصر شاعر يختار من البداية وأقول يختار مع التشديد عليها، إذ لم يكن سهلًا أن نختار مع كل ذلك الإغداق الشعري القائم آنذاك، ومع كل ذلك الطموح البعيد المدى للشعر والأوهام حول الذات والمشاريع الكبرى الشعرية. لم يكن سهلاً الاختيار حين يرفع الشعر مراهناته ومضارباته إلى حدٍ يستحيل معه تمييز حدوده".

اقرأ/ي أيضًا: رحيل أمجد ناصر.. مرتقى أنفاس الشاعر

غادرنا أمجد ناصر إذًا. قبل ذلك، لم يكن الشّاعر الأردنيّ الذي جاب عواصم عدّة بحثًا عن المعنى لشعره المسكون بالقلق؛ قد تغيّر كثيرًا. لا تزال "الألفاظ المشبعة/ النبرة البدوية/ العناق الطويل/ السؤال عن الأهل والمواشي/ الضحكة المجلجلة/ رائحة الحطب القديم/ ما تزال تعبق في ثيابنا". غادرنا، تاركًا خلفه أعمالًا روائية وشعرية تصلح لتكون سيرًا ذاتية له، وليس سيرة واحدة فقط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"مملكة آدم" لأمجد ناصر.. رسالة اللّاغفران

أمجد ناصر في "هنا الوردة".. مساءلة التغيير