31-مايو-2021

من مظاهرة تطالب بمحاكمة قتلة نييتو (MissionLoca)

بعد مرور حوالي سنة كاملة على مقتل الأمريكي جورج فلويد على أيدي أفراد من الشرطة، تعود إلى الأذهان قصة شاب آخر من أصول مكسيكية يُدعى أليخاندرو نييتو، والذي لقي حتفه هو الآخر برصاص الشرطة في عام 2014.

تماماً مثل فلويد، كان ذنب نييتو الوحيد أنه أثار شكوك الناس من حوله، وهم في حالته من السكان الجدد في الحي الذي أقام فيه طيلة حياته في "سان فرانسيسكو". في مقال بعنوان "الموت بفعل الاستطباق: حادثة القتل التي جلبت العار لـسان فرانسيسكو"، تروي الكاتبة والمؤلفة الأميركية ريبيكا سولنيت قصة نييتو، وتحاول توضيح أثر "الاستطباق" الذي حدث في منطقته على المصير الذي واجهه. كما تتأمل في المحاكمة التي اعتبر مجتمعه مجرد انعقادها، بغض النظر عن نتيجتها، بمثابة "الانتصار" لهم.


كانت عالمة الاجتماع روث غلاس هي أول من استخدم مصطلح "الاستطباق" في الستينيات من القرن الماضي، وذلك لوصف ما حدث في أحياء الطبقة العاملة في لندن، عندما أصبحت طاردة للمنتمين لهذه الطبقات وجاذبة للطبقات الأعلى دخلاً.

بحسب الأدبيات التي تُناقش هذه السياسة، فإن المصطلح ذاته يشمل طيفاً واسعاً من التغيرات الإيجابية والسلبية التي تطرأ على المناطق الحضرية، ولكن واحداً من الأمثلة الكلاسيكية على "الاستطباق" يتجسّد في التغيير الكبير في الحالة الاقتصادية لحي ما، بحيث يتحوّل من مسكن لأفراد من ذوي الدخل المحدود بشكلٍ رئيس، والذين ينحدرون في معظم الأحيان من الأقليات العرقية والإثنية، إلى مسكن للأفراد من الطبقتين الوسطى والعليا، الذين يأتون في معظم الأحيان من خلفيات أخرى مختلفة.

تؤثر ظاهرة الاستطباق على السكان الفقراء، فيضطرون إلى مغادرة أحيائهم بعد ارتفاع قيمة الإيجارات  أو زيادة الضرائب على العقارات لتحل فيها طبقة اجتماعية جديدة من خلفيات أخرى مختلفة، 

وفي مثل هذه الحالات، يضطر السكان الفقراء في العادة إلى مغادرة هذه الأحياء لأسباب متعددة، فإما يصبحون غير قادرين على دفع الإيجارات بعد ارتفاع قيمتها أو غير قادرين على دفع الضرائب المفروضة على عقاراتهم بعد تغيّر قيمتها السوقية. كما قد يتدنى مستوى معيشتهم نتيجة ارتفاع الإيجار أيضاً.

وبحسب مقال الكاتبة سولنيت، المنشور في عام 2016، والذي أعيد نشره بتغييرات طفيفة في كتاب بعنوان "Tales of Two Americas"، فقد شهدت مدينة "سان فرانسيسكو" سياسةً مشابهة، على الرغم من أنها لم تكُن يوماً "معادية للقادمين الجدد"، بل إنها ظلت حتى "وقت قريب المكان الذي يأتي إليه الناس الجدد لإعادة تشكيل ذواتهم". إذا ما وصلوا بأعداد صغيرة، كان من السهل على هؤلاء الناس الاندماج والمساهمة في التحول المستمر في المدينة، ولكنهم عندما يفدون إليها بأعداد هائلة، كما حدث في أواخر التسعينيات وفي موجة "التكنولوجيا" الجارفة الحالية، فإنهم يمسحون أي أثر لما وُجد في المدينة قبل مجيئهم إليها.

اقرأ/ي أيضًا: ضلالة تجاوز العنصرية

بحلول عام 2012، وبالتزامن مع وصول أفواج من العاملين في قطاع التكنولوجيا، تم إخلاء أعداد متزايدة من المساكن والمؤسسات، بما فيها متاجر الكتب، والكنائس، والخدمات الاجتماعية والحانات ومؤسسات الأعمال الصغيرة، ومثّل ذلك تغيراً كبيراً في طبيعة المدينة التي كانت بحسب وصف الكاتبة مكاناً يبقى فيه الناس لتحقيق غاية ورسالة، كأن يعملوا من أجل العدالة الاجتماعية أو يساهموا في تعليم ذوي الإعاقات، أو يكتبوا الشعر أو يمارسوا الطب البديل. كانت تلك مساحتهم للعمل من أجل قيمة أثمن من المال، الأمر الذي لم يعُد ممكناً كما كان في السابق بعد ارتفاع أسعار الإيجار وبيع المنازل على نطاقٍ واسع.

حلّت الثقافة التكنولوجية محل هذه الثقافة، فبدت وكأنها ثقافة انعزالية تفضّل الانسحاب من المجتمع المحيط، وتألفت بشكل كبير من "ذوي البشرة البيضاء، والذكور وصغار السن". كما خلقت الشركات التكنولوجية طبقة من أصحاب المليارات الذين يؤثرون على السياسة المحلية، فيدفعونها بالاتجاه الذي يخدم قطاعهم الجديد وموظفيه على حساب بقية السكان. على سبيل المثال، لم يخصص أي جزء من الأموال المتنقلة في المدينة للحفاظ على المركز المختص بخدمة الشباب المشردين، الذي أغلق في عام 2013، أو أقدم متجر كتب يملكه أمريكي من أصول أفريقية، والذي أغلق أبوابه هو الآخر في عام 2014، أو كنيسة القديس جون كولتران الأفريقية الأرثوذوكسية التي كانت تواجه خطر الإخلاء من مقرها الجديد الذي انتقلت إليه بعد إخلاء المقر السابق أثناء طفرة "الدوت كوم" في التسعينيات من القرن الفائت.

تسرد الكاتبة هذه المعلومات في المقال لتوضح السياق الذي أدى إلى نمو الأحقاد وتصارع الثقافات في المدينة. فمن هو أليخاندرو نييتو وكيف دفع هذا الشاب حياته ثمناً لهذا الصراع؟

أليخاندرو نييتو (JustSeeds)

في عام 2007، حصل نييتو على رخصة للعمل كحارس من الولاية للمرة الأولى، واستمر في العمل في المجال ذاته منذ ذلك الحين. كان سجله خالياً من القيود، الأمر الذي يُعَّد إنجازاً في حي يتم اعتقال الأفراد من أصول لاتينية فيه لمجرد التسكع. كما عمل كمرشد للشباب لمدة خمس سنوات في مركز Bernal Heights، وعُرف عنه أنه شخص اجتماعي يشارك في الحملات السياسية والفعاليات المجتمعية.

اختار نييتو التركيز على العدالة الجنائية في دراسته في كلية المجتمع، حيث كان يآمل أن يساعد الشباب بصفته مسؤولاً عن مراقبة السلوك، وتدرّب لفترة قصيرة في قسم مراقبة سلوك الأحداث في المدينة، ويعرف كيف يعمل نظام العدالة الجنائية فيها جيداً بحسب الضابط الأسبق كارلوس غونزاليس الذي أصبح صديقاً له فيما بعد. 

 في مساء يوم 21 آذار/مارس من العام 2014، كان نييتو يتناول طعامه في الحي الذي نشأ فيه، ويحمل معه جهاز الصعق الكهربائي الذي يستخدمه في عمله كحارس، والذي يمكن أن يشل حركة الشخص المستهدف لفترة وجيزة. كما كان يرتدي سترة حمراء لها رمزيتها في هذه القصة، حيث يرمز هذا اللون إلى أحد ألوان فريق سان فرانسيسكو لكرة القدم من جهة، ويرمز أيضاً، إلى جانب اللون الأزرق، إلى عصابتين هما "عصابة نورتينيو" و"عصابة سورينوس" من جهةٍ أخرى.

بينما هو يتناول طعامه هناك، كان ايفان سنو، وهو ثلاثيني متخصص في تصميم تجربة المستخدم انتقل إلى الحي قبل ستة شهور من وقوع الحادثة، خارجاً في نزهةٍ مع كلبته "لونا". بحسب أقواله لاحقاً، ذكر سنو بأنه يعرف طريقة لباس أفراد العصابات، فتنبّه إلى لون السترة الحمراء ووضع نييتو مباشرةً في خانة الناس الذين يتجنب التشاجر معهم. بيد أن كلبته اشتمت رائحة الأكل في يد نييتو واتجهت نحوه، لتدور بينهما مواجهة أزعجت نييتو، الذي حاول إبعادها، بينما كان صاحب الكلبة منشغلاً بالنظر إلى "مؤخرة" فتاة كانت تهرول في المكان، بحسب ما قال لاحقاً.

في تلك الأثناء، حاول نييتو توجيه الصاعق على سنو أولاً ومن ثم على الكلبة وهي بالقرب من قدميه. تبادل الرجلان الصراخ، وتلفظ سنو بلفظ عنصري، ومن ثم غادر الحديقة ليرسل رسالة نصية لصديقٍ حول الحادثة، يقول فيها أنه كان بإمكانه إطلاق الرصاص على نييتو لو أنه كان في ولاية أخرى مثل فلوريدا، والتي تجيز استخدام القوة في الدفاع عن النفس دون الحاجة إلى الانسحاب أولاً.

بعد مغادرة الكلبة وصاحبها، ظل نييتو منزعجاً لفترة قصيرة، فلاحظه ثنائي آخر كانا يمرّان من هناك أيضاً. كان تيم ازغيت، وهو أيضاً من القادمين الجدد إلى المنطقة ويعمل مديراً للاتصال في منظمة غير ربحية أسّسها أصحاب المليارات في قطاع التكنولوجيا، برفقة شريكه جاستن فريتز، الذي يعمل مديراً للتسويق عبر الايميل كما يُعرّف بنفسه.

في الوقت الذي لم يلاحظ فيه فريتز أي شيء يدعو للقلق في المشهد، رأى ايزغيت نييتو يتحرك بتوتر في المكان ويُمسك بالصاعق الكهرباء بيده ليُعيده إلى مكانه. لم يفهم ايزغيت بأن هذا التوتر ناجم عن الاشتباك مع كلبة سنو التي غادرت المكان قبل فترة وجيزة، فراح يحذر الناس الذين التقى بهم هناك وينصحهم بتجنب المكان، ولكن واحداً من هؤلاء الناس، وهو من السكان القدامى في المنطقة، قال في شهادته لاحقاً بأنه رأى نييتو ولم يلحظ أي شيء يدعو إلى القلق، بل إنه كان "جالساً هناك وحسب".

على الرغم من أن فريتز لم يجد ما يدعو إلى الشك، بحسب أقواله في المحاكمة، إلا أنه اضطر للاتصال بالنجدة على الرغم 911 تحت ضغطٍ من صديقه الذي حثّه على ذلك. حوالي الساعة 7:11 من مساء ذاك اليوم، بدأ فريتز بالتحدث مع النجدة، وأبلغهم بوجود رجل يحمل مسدساً أسود اللون. سألته متلقية المكالمة عن عرق الشخص المشتبه به، وطلبت منه تحديد ما إذا كان هذا الشخص من ذوي البشرة السوداء أو من أصول لاتينية، فرد فريتز بأنه من أصول لاتينية. ثم سُئل إن كان الرجل المذكور يقوم بأي فعل عنيف، فرد بأنه يتحرك يتوتر ويبدو أنه يأكل "التشيبس" أو "بذور عباد الشمس" ولكنه يُمسك بمسدسه بطريقةٍ ما. كانت هذه فحوى المكالمة، ولم يعِش بعدها نييتو سوى دقائق معدودة.

اقرأ/ي أيضًا: 6 "انتفاضات" تفجّرت في الولايات المتحدة بسبب عنصرية رجال الشرطة

تضاربت الأقوال والأدلة المقدمة في المحاكمة، فادعى أفراد الشرطة بأنهم ظنوا بأنه يحمل مسدساً وأطلقوا النار عليه دفاعاً عن النفس. في وصف الحادثة، تقول الكاتبة بأن أحدهم أفرغ كل ما بجعبته من رصاص في جسد نييتو، ليصل آخر ويبدأ بإطلاق النار أيضاً، ثم عندما اقترب أحدهم منه قال للآخر بأنه ما يزال ينبض، ولكنه فارق الحياة قبل وصول سيارة الإسعاف. 

هكذا انتهت حياة هذا الشاب، وحصل ايفان سنو على مراده بالتخلص منه. تعتبر الكاتبة أن تحقق رغبة سنو لم يعُد غريباً في المدينة التي أضحت مكاناً قاسياً على سكانها، فقبل شهر واحد من انعقاد المحاكمة الخاصة بمقتل نييتو، كان عمدة المدينة إد لي يرغب في إزاحة كل المشردين من الشوارع تحضيراً لفعاليات "السوبر بول"، على الرغم من أن المباريات كانت تجري على بعد 40 ميلاً من الموقع المُراد إزاحتهم منه، ولكنها كانت رغبة بعض السكان أيضاً.

في رسالته المفتوحة للعُمدة، كتب جاستن كيلير، الذي تصفه الكاتبة بأنه مؤسس شركة ناشئة لا تتمتع بنجاحٍ باهر، قائلاً:

"أعلم بأن الناس محبطون من الاستطباق الجاري في المدينة، ولكن الحقيقة أننا نعيش في مجتمع قائم على السوق الحر. اكتسب العاملون الأغنياء حقهم في العيش في المدينة، فسعوا وتعلموا واجتهدوا في العمل وحصلوا على هذا الحق. لا يجب أن أقلق من التعرض لي. لا يجب أن أضطر إلى رؤية ألم المشردين ومعاناتهم ويأسهم في طريقي من وإلى العمل كل يوم". 

نصب لذكرى نييتو في حديقة سان فرانسيسكو (Guardian)

تقول الكاتبة أن نبرة الرسالة متوقعة من هؤلاء الأشخاص، وتُضيف في مقالها بأن "الاستطباق" قد يكون مُميتاً، وخصوصاً لدى فئة كبار السن. في العامين التاليين لوفاة نييتو، انتشرت قصص عديدة عن أشخاص من كبار السن توفوا إما أثناء الإخلاء أو بعد إخلائهم مباشرةً. كما تأتي هذه السياسة بقادمين جدد إلى أحياء تسكنها مجتمعات غير بيضاء، فيكون للأمر تبعات مروعة.

بحسب ما نشرت الصحيفة المحلية "East Bay Express" قبل نشر مقال المؤلفة بفترة قصيرة، ينظر الأشخاص من ذوي البشرة البيضاء الذين ينتقلون إلى أوكلاند إلى "السكان الملونين الذين يمشون، أو يقودون السيارات، أو يتسكعون أو يعيشون في الحي على أنهم مجرمون محتملون". ويستخدم البعض موقع Nextdoor.com لنشر تعليقات تحذر السكان الآخرين منهم. ينحسب الأمر ذاته على منطقة "ميشين"، حيث نشر بعض السكان تعليقات تفيد بأنهم اتصلوا بالشرطة عندما صادفوا أكثر من ثلاثة أشخاص يقفون في الزاوية وكأنهم "جنود". وهذا ما حدث مع نييتو، الذي اعتبره مجموعة من الرجال من ذوي البشرة البيضاء أخطر ممّا هو عليه بالفعل، وقد فقد حياته نتيجة اعتقادهم ذلك.  

ما ظهر جلياً في حفل تأبين نييتو، بحسب الكاتبة، هو القوة الأساسية للمجتمع الحقيقي الذي يتألف من أشخاص يعيشون في المكان، وتكون تجربتهم أشبه بالنسيج المكون من الذاكرة، والطقوس، والعادات، والمودة والحب

ما ظهر جلياً في حفل التأبين المُقام لنييتو، بحسب الكاتبة، هو القوة الأساسية للمجتمع الحقيقي الذي يتألف من أشخاص يعيشون في المكان، وتكون تجربتهم أشبه بالنسيج المكون من الذاكرة، والطقوس، والعادات، والمودة والحب، وكلها معايير لا تمت بصلة للمال والملكية. ما أراد الناس التمسك به هو بيتهم، الذي يعني بالنسبة لهم الحي بأكمله والجيران المقيمين فيه، لا قطعة العقار أو الإيجار، وهو ما يصعب على القادمين الجدد استيعابه برأيها.

لربما لم تُنصف المحكمة نييتو، ولكن الانتصار الذي تحقق هو انتصار من نوع آخر، فكما قالت المحامية أدريانا كامارينا التي أعانت والديه اللذين لا يتحدثان الإنجليزية بالترجمة أيضاً، فإن "انتصارنا، كما قالت عائلة نييتو بالأمس هو أننا ما زلنا معًا". 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"تجاوزوا الحد".. ما يحدث في القدس جرائم ضد الإنسانية

كتاب "نوعان من البشر".. الغرب هو التاريخ والآخرون هم الجغرافيا

اغتيال فلويد وحرب الطبقات