رفعت ألمانيا القيود الدستورية المفروضة على الاستدانة، ممهدةً الطريق لاقتراض مليارات الدولارات تعتزم برلين إنفاقها على إعادة التسليح، وتحديث جيشها، وترسانتها العسكرية، والبنية التحتية المرتبطة بها.
جاء هذا التحوّل نتيجة عوامل متعددة، من أبرزها: الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية الجديدة على الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري، وتصاعد التهديد الروسي بعد "غزو أوكرانيا"، إلى جانب الشعور الأوروبي المتزايد بالحاجة إلى قوة دفاع ذاتية، في ظل تلميحات واشنطن المتكررة إلى أنها لم تعد مستعدة لتوفير الحماية لحلفائها، على الأقل في ظل الإدارة الحالية بقيادة دونالد ترامب.
أمام هذا الواقع، استحضر البعض المقولة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، التي قال فيها إن "ألمانيا كبيرة جدًا بالنسبة لأوروبا، وصغيرة جدًا بالنسبة للعالم". ووفقًا لهذا المنظور، فإن عودة ألمانيا إلى التسلح المكثف تمثل، من جهة، ضرورة أمنية لأوروبا، لكنها تُثير، من جهة أخرى، مخاوف لدى بعض الدول الأوروبية على المدى البعيد.
وتعود هذه المخاوف إلى عدة اعتبارات، أبرزها احتمال صعود القوميين مجددًا، إلى جانب حقيقة أن ألمانيا تمثل الكتلة السكانية الأكبر في القارة، وتمتلك أقوى اقتصاد فيها. ومع بناء جيش قوي، قد تتحول برلين إلى قوة إقليمية مهيمنة، وهو أمر قد يُنظر إليه بقلق ليس فقط من قبل روسيا، بل أيضًا من بعض الدول الأوروبية ذات الطموحات الإقليمية.
تتعلق المخاوف الأوروبية، من رؤية ألمانيا قوية عسكريًا، من احتمالات صعود حكومات ألمانية متطرفة وإمساكها بزمام الأمور في برلين
تغيرات في العقيدة العسكرية الألمانية: التسلح والقلق الأوروبي
ذلك ما لفت إليه تقرير مطول في "فورين أفيرز" للباحثين مايكل كيميغ وسودها ديفيد، حيث يجادل الباحثان بأن ألمانيا بقيت حتى عام 2022 "لا مبالية تقريبًا" بالتطورات الأمنية في القارة الأوروبية. فقد تعاملت ببرود مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، إذ اكتفت المستشارة الألمانية آنذاك، أنغيلا ميركل، بفرض عقوبات محدودة على موسكو، ثم عادت إلى التعامل الطبيعي مع روسيا، استنادًا إلى قناعة مفادها أن "لا حل عسكريًا، وأن من الضروري الحفاظ على النظام الأوروبي الذي نشأ بعد عام 1991"، وهو نظام يقوم على المؤسسات والتعاون.
لكن الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 شكّل نقطة تحول محورية؛ إذ تحدث المستشار الألماني آنذاك، أولاف شولتس، للمرة الأولى عن ضرورة "تحول نوعي" أو Zeitenwende في الاستراتيجية الدفاعية الألمانية. ودعا إلى تعزيز الإنفاق العسكري وتكثيف الدعم لأوكرانيا، إلى جانب تقليل اعتماد بلاده على الطاقة الروسية.
ويرى كيميغ وديفيد أن شولتس لم يتمكن من تحقيق هذه الرؤية بسبب الخلافات داخل الائتلاف الحكومي. فبالرغم من إعلانه عام 2022 إنشاء صندوق خاص بقيمة تفوق 100 مليار دولار لتحديث الجيش، فإن القيود الدستورية المفروضة على الديون الحكومية عطلت تنفيذ الاستثمارات الطموحة في قطاعي الدفاع والبنية التحتية.
ومع ذلك، استضافت حكومة شولتس أكثر من مليون لاجئ أوكراني، وقدمت مساعدات بمليارات الدولارات لكييف. لكن هذه السياسات فتحت الباب أمام هجوم سياسي حاد من حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، الذي وصف شولتس بـ"المحرّض على الحرب"، وتمكن لاحقًا من تحقيق المركز الثاني في الانتخابات العامة الأخيرة، متفوقًا على حزب شولتس، بنسبة بلغت 20% من الأصوات.
حكومة جديدة وفرصة لاستقلالية استراتيجية
اليوم، ومع تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات المبكرة في فبراير/شباط الماضي، تبدو الفرصة سانحة أمام ألمانيا لاعتماد توجهات أكثر حسمًا. ومن المرجح أن تضم الحكومة الجديدة ائتلافًا بين التحالف المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو ما يعزز، وفق تحليل "فورين أفيرز"، احتمالية "إعلان الاستقلال عن الحماية الأميركية" عبر إلغاء القيود الدستورية على الاستدانة، وطي صفحة ما عرف بسياسة "الإدمان على التقشف"، التي كانت تمنع الحكومة من إنفاق أكثر من 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي على الدين العام سنويًا.
ومن شأن رفع هذه القيود تمكين الحكومة من تخصيص موارد مالية ضخمة لدعم أوكرانيا من جهة، وتحديث الجيش الألماني وبنيته العسكرية من جهة أخرى. ويلاحظ بوضوح اندفاع المستشار الجديد فريدريتش ميرتس في هذا الاتجاه؛ إذ صرح اليوم الاثنين بأن "الوقت حان لتزويد أوكرانيا بصواريخ تاوروس بعيدة المدى"، وذلك في أعقاب الهجوم الروسي على مدينة سومي الأوكرانية.
وكان ميرتس قد قاد حملة قوية لإلغاء نظام كبح الديون، وتُوّجت جهوده بالنجاح بعدما صوّت البرلمان في أذار/مارس الماضي بأغلبية الثلثين على رفع القيود الدستورية، وهو ما يتيح لبرلين إنفاق أكثر من تريليون دولار على تطوير الجيش، بما يتماشى مع وعود ميرتس المتعلقة بتحديث المعدات العسكرية والاستخبارات وأمن المعلومات.
قلق أوروبي من صعود ألمانيا كقوة عسكرية
رغم أن هذه الخطوات تندرج ضمن إطار الحاجة الأوروبية لتعزيز الدفاع الجماعي، فإنها أثارت مخاوف لدى بعض دول القارة من أن تتحول ألمانيا إلى قوة مهيمنة في المدى المتوسط أو البعيد، خصوصًا في حال صعود حكومات يمينية متطرفة إلى الحكم في برلين. وتشير مؤشرات عدة إلى تنامي شعبية حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وهو ما يعزز القلق من احتمال استخدام القوة العسكرية الألمانية كأداة ضغط على الجيران الأوروبيين، وهو سيناريو يعيد إلى الأذهان تاريخًا أليمًا في أوروبا.
تاريخيًا، تخلّت ألمانيا عن سباق التسلح بعد الحرب الباردة، وركّزت على بناء قوتها الاقتصادية عقب توحيد شطريها الشرقي والغربي. وقد أسهم ذلك في تقليص المخاوف الأوروبية من دورها الأمني. لكن اليوم، ومع عودة القومية المتطرفة للواجهة، تتعزز المخاوف من أن يعاد النظر في هذا الدور.
ولا تقف هذه المخاوف عند حدود ألمانيا وحدها، بل ترتبط بظاهرة عالمية أوسع تتمثل في تصاعد النزعات القومية العدوانية، سواء في الصين أو روسيا أو الهند، وحتى في الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا. وهي نزعات تهدد الفكرة الأوروبية التي استقرت لعقود، والقائمة على أن الحروب لم تعد وسيلة لحل الأزمات.