25-سبتمبر-2015

عن من مشروع قصة غير متوقعة عن خوليو كولدثار للمصور الأرجنتيني باسريلو

ثلاثون عامًا تفصل نيستور بطل رواية "عودة" لألبرتو مانغويل، الصادرة حديثًا عن دار الساقي بترجمة يزن الحاج. ثلاثون عامًا، تفصله عن اللحظة التي قرر فيها اعتبار مدينته الأم، مكانًا ابتلعه البحر، ليدفعه" شعور غامض بالمديونية لحب قديم وبعيد" للعودة. بعد طلب ابنه بالمعمودية، عبر رسالة وجهها له، بأن يكون حاضرًا على زفافه.

بلغة مقتصدة، حيوية وشديدة الإيحاء، يأخذنا ألبرتو مانغويل إلى الأرجنتين في روايته "عودة"

بلغة مقتصدة، حيوية وشديدة الإيحاء، يأخذنا ألبرتو مانغويل إلى الأرجنتين، وما أن يصل نيستور مدينته، حتى تبدأ الغرابة بالظهور في تشكيلات مختلفة، تراكم الصدف حاملها الأساسي، ترتيب الأسباب المنطقية للأحداث، ثم إخراجها وفق سرد غرائبي يشكك بإمكانية حدوثها، حتى يتوه القارئ. هل، بالفعل، عاد نيستور إلى مدينته؟ أو أنّه يأخذ غفوة على الشرفة في منزله في روما؟

يخرج نيستور من الفندق والذي وصله بالخطأ إلى الشارع، يجرفه دفق الناس، ويقوده إلى مكتبة "أرسطو" والتي كان يشتري كتبه منها، ليلتقي ليليانا صديقته القديمة، والتي بدت أنّها لم تكبر عامًا واحدًا، لكنه يصدم من غياب إصبعين من يدها اليسرى، يفقد صوته، وينفتح عليه الماضي بأكثر صوره بؤسًا، حيث الاعتقالات، والشعارات، صفارات الإنذار، والغازات.

يتوه عن صديقته ويخرج إلى الشارع مجددًا، يأخذ من مكتبة "أرخميدس" كتابًا لأستاذه البروفيسور غروسمان، ويصدف صديقه تونيو ثمّ يذهب معه إلى المطعم القديم حيث كانوا، ينامون وهم يدرسون، ويلتقيان هناك بابلو الصديق ضمن المجموعة التي تنازع أفرادها مصائر سوداء ومجهولة. تعود إليه الحادثة التي فصمت حياته بين بلدين، واحد يجذبه إلى الرفاهية وآخر يقيده بالذاكرة، حتى صار "المنفى يعني ضمنيًا أن هناك عودة". يذكر التدافع الذي حدث في مظاهرة قد نسي أسبابها، لكنه يصارع إلى يوم عودته نتائجها، إذ أودى به التدافع فارًا إلى روما، وقاد مارتا إلى الجنوب، إلى "راحة البال"، لقد بدا الابتعاد العنيف لليدين عن بعضهما في المظاهرة، ابتعادًا خلاقًا، بالمعنى الإبداعي، للكلمة!

لا يتأخر نيستور حتى يصدف مارتا ويدرك "أنّ من المستحيل شرح ما قد حدث" ما عزز زيف القصص التي عاد لبرهانها أنّها أنكرت كونها "مارتا" واستمرت بالسير مع صديقاتها الخمسة. يعود هو للبحث عن الفندق الذي أضاعه، وحيداً. ليفاجئ، بالبروفيسور غروسمان يقود حافلة ضخمة، سوف تقله إلى المحطة الأخيرة، أو إلى عودته الأبدية. والتي بدت في الصفحات الأولى "حماقة واضحة".

يلجأ الكاتب، بشكل مستمر للحيل المنطقية، في نصب فخاخ اللا منطق، فالبروفيسور قد يحتاج في بلد مثل الأرجنتين إلى أكثر من عمل، مثل الجميع، وهذا منطقي، لكننا نكتشف في الثلث الأخير من العمل الخديعة اللذيذة التي كنا نستشفها، دون أن نستطيع الجزم بحقيقة ذلك، لقد كنا في عالم مسحور، أو على الأقل، في المحطة الأخيرة، حيث يوضع "القاطع" وهو الشخص الذي كان يقطع أصابع المعتقلين أثناء التحقيق، يوضع مع ضحاياه في مكان واحد، المكان الذي ضمّ إليه "من باع بلده بثمن زهيد" ومن "شرّع وأبطل قوانين بهدف الابتزاز". لقد جمع مانغويل في محطته الأخيرة، خلاصة أمريكا اللاتينية، إضافة إلى نيستور وجهًا لوجه مع مارتا.

تبدو للقراءة الأولى، أنّ الرواية مليئة بالصدف. لكنها، وفق ترتيب الأفكار، خالية من أية صدفة. إذ كثيرًا ما يمهّد الكاتب، للصدفة قبل حدوثها، أو يدفعنا إلى توقعها، ما جعل الرواية تخلو من المفاجآت، على التوازي، مع امتلائها بها. وهذا ما عزز غرابة النص ولا معقوليته. حتى لتخرج من الرحلة، وأنت مصدق وغير مصدق في آن واحد!