16-أبريل-2025
غلاف دار خولة

غلاف دار خولة (الترا صوت)

في ظل التطور السريع، وبينما يجتذب المجتمع الاستهلاكي الأجيال الجديدة بمفاهيمه وثقافته ونمط حياته؛ صار التناقض بين فئات المجتمع أكبر وأسرع مما يتداركه الأفراد، فاتسعت الهوة بين فكر استهلاكي يغزو العالم، وتحديدًا الجيل الشاب عبر قنوات عديدة، وبين تيارات الفكر الأخرى، سواء تلك التي تتمسك بالثقافة والتراث والحفاظ على خصوصية المجتمع وهويته، أو التي أفرزها المجتمع الذكوري بكل ما تحمله من قيود.

تناولت الروائية الكويتية بثينة العيسى هذا الصراع في روايتها الأخيرة بعنوان "دار خولة" عبر طرح قضايا مفصلية تتشابك بين الإنساني والفكري والاجتماعي، لا سيما الجندري منه، وتفكيكها، لتكشف عبر أزمة العلاقة بين الأجيال عن أزمة المثقف العربي واغترابه عن محيطه وازدياد الهوة بينهما، وفقدان دوره المؤثر بما تزرعه السياسة من ألغام في طريقه أو التضييق عليه، ووضعه في الصف الأول للصدام.

وهو ما تعيشه المرأة المثقفة بشكل مضاعف، إذ يضاف لكل هذا صدامها مع الأفكار المسبقة المتخلفة والمتأصلة في المجتمعات التي ما زالت تحصر المرأة في صورة الزوجة والأم ودورها التقليدي.

وبمهارة الأديب الذي يوظف كل كلمة في بناء الرواية لينجو من ترهل السرد، تدور الرواية في ليلة واحدة ومكان واحد، مُعطيةً للقارئ لحظة الذروة التي تميز هذه المسرحة لحياة كاملة تشتبك فيها القضايا. 

دفعت خولة الثمن مضاعفًا في صدماتها المتوالية رغم نبل هدفها الذي لم يكن سوى الإشارة لواقع تسطيح وتعطيل الشباب وفقدانهم المعنى

تأخذ الرواية عنوانها من الاسم الذي أطلقه الأب، أستاذ الأدب العربي، على المنزل مذ سكنته خولة زوجته (على غرار دار عبلة) فالشعر كان يتسرب إلى حديثه بشكل تلقائي وكأنه يعيش فيه.

أما خولة، فهي أستاذة الفلكلور: مثقفة و"تكره أمريكا والتصابي". لماذا؟ لأنها من الجيل الذي صدّق الشعارات ثم اكتشف الزيف. هكذا تبدأ بثينة العيسى روايتها، لتجعل خيال القارئ مفتوحًا على عدد لا يحصى من السيناريوهات، فيسير مع الساردة الكاتبة تحت سلطة التشويق الذي لا يتفلت منه حتى النهاية.

صدمات متوالية أعادت خولة إلى المطبخ

عاشت خولة صدمتها الأولى في غزو العراق للكويت، والاستنجاد بالقوات الأميركية التي أتت كمخلص. وما يمثله ذلك من زعزعة الانتماء القومي. هي التي كانت تدور على الجنود الأميركيين المخلصين لتوزع عليهم البسكويت، تعيش صدمتها الثانية على الصعيد الشخصي، إذ دفعت ناصر ابنها البكر إلى المدرسة الأميركية المحدثة (رغم معارضة زوجها ومخاوفه من فقدان ابنه)، وهي تتطلع إلى السعي لتمكينه من هضم الثقافة الأميركية، وتلك الإبداعات الملهمة التي تحبها من إدغار آلان بو، إلى ويتمان، إلى فوكنر.. وغيرهم.

هكذا اكتشفت حجم الاختلاف الكبير بين الأمنيات والواقع، وكيف كان ابنها يكبر جاهلًا بكل هذا، وبتاريخ بلاده السياسي والثقافي، كما رأت البلادة الفكرية مع الإحساس الزائف بالتفوق الذي يلقن للصغار. وحين حاولت استعادة ابنها فقدته بشكل كامل، إذ تمرد عليها وعلى المسلمات من القواعد الاجتماعية والواجبات الدينية وحتى قواعد النظافة الشخصية التي كانت تفرضها في منزلها.

توقظها صدمتها الشخصية وتنبهها إلى مشكلة مجتمعية خطيرة، حيث يتم تغريب جيل الشباب وإبعاده عن جذوره وتاريخه وهويته، فتحاول دق ناقوس الخطر عبر لقاء تلفزيوني خرجت فيه عن طورها، واستخدمت تعابير بذيئة كانت سببًا في تحويل آرائها المهمة إلى نكتة سمجة، ومقاطع فيديو اجتزئت من اللقاء للسخرية منها ومن آرائها.

كان ذلك مقتلاً لها وهي الدكتورة الجامعية المثقفة والفاعلة في الرأي العام، وهو ما أبعدها عن الظهور العلني لمدة سبع سنوات كاملة، كان أولادها خلال ذلك في حالة لا يحسدون عليها من الخجل بأمهم، وكأنها عار يدارونه أمام الناس.

واكتفت خولة بالعيش كامرأة عادية، تقضي وقتها في مطبخها وبالعناية بأحفادها لابنها الأوسط الذي صار رجل البيت بعد وفاة والده، وابتعاد أخيه الأكبر (ناصر)، لتعيش عزلة اختيارية مضنية وفراغًا اجتماعيًا وعاطفيًا تحايلت عليه بترك سفرتها ممتلئة بالأطايب المغرية منتظرة مرور الأولاد بها، تصف الكاتبة ذلك (فخاخ منصوبة لأمومة معطلة).

العشاء الأخير 

لكن الدعوة التي وصلتها لظهور تلفزيوني جديد يتناول حياتها وسيرتها الذاتية تقلب الأمور رأسًا على عقب. فرغم أنها رفضت الدعوة مباشرةً، لكنها تجد في ذلك فرصة لتصلح العطب في علاقتها مع أولادها، فتدعوهم إلى العشاء بغية مناقشة الأمر وكأنها غريق يتعلق بقشة، علها تعيد النبض لقلب العائلة المتوقف. لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.

في هذا العشاء الذي يشكّل إطار الرواية الزمني تأخذنا العيسى إلى زمن آخر شاسع وممتد لتخبرنا عن كل التفاصيل السابقة في حياة خولة وأسرته عبر الفلاش باك واسترجاع الماضي في ذهن الشخصيات وعلى ألسنتهم، ثم على لسان الساردة الكاتبة التي تملأ الفراغ بين حديث الشخصيات وأفكارهم، وتستمر في عرض الحاضر أثناء العشاء، حيث يعترف ابناها (ناصر ويوسف) بالخزي الذي جلبته لهما، ويتحول العشاء إلى محاكمة للأم، ثم مواجهة بين الأخوة وتبادل الاتهامات بينهما. 

هكذا يتطور النقاش إلى عراك بالأيدي حتى تتبعثر المكتبة والمقتنيات النفيسة لخولة، التي تنهار ممزقة بين ولديها وبين ذاتها التي تواجه حكم الإعدام بيديهما.

الصراع بين الولدين كان تجسيدًا لصراع بين تيارين فكريين على أرض الواقع، أحدهما يدعي حماية المجتمع بالتمسك بالعادات والتقاليد، ويصرح لأفكاره التي تعيد المرأة إلى قاع المجتمع، فمكانها مطبخها ومنزلها، سالبًا إياها مشاركتها الفاعلة في المجتمع والحياة العامة؛ وبين اتجاه يدّعي الحداثة ويتنكر لكل ما هو سابق وللواقع القائم، كما أثبتت التجربة أنه قادر على التخلي ولا ينسجم مع طبيعة الإنسان العربي العاطفية، بينما لا تملك الأم أن توقف ذلك، ولا تصحيح خطأها الذي أدركته متأخرة، سواء بإيجاد قنوات تواصل مع الحداثة الغربية التي يمثلها ناصر، ولا قدرتها على تشذيب العقلية القديمة وتقليص سلطتها على المجتمع ليتحرر منها، والتي يمثلها يوسف الذي يحكم قبضته عليها متجاهلًا إمكانياتها الثقافية والعلمية. 

إنه عجز المثقف عن إدارة الصراع وحسمه للصالح العام، وإشارة إلى فشل المثقف على الصعيد الشخصي أولًا وعدم قدرته التعامل مع المتغيرات الاجتماعية أو استشرافها، وبالتالي فشله في التأثير على المحيط وإعادة صلاته بالمجتمع للنهوض به. هكذا تحول العشاء الذي أرادته عائليًا يعيد الحميمية للمنزل، إلى عشاء أخير انتهى بصلبها على خشب العزلة والنكران. وما تبعثر الكتب والمقتنيات النفيسة إلا إشارةً لعبثية الصراع وتهديد الإرث الحضاري والثقافي إن استمر ذلك. 

تأخذنا العيسى إلى حمى الصراع الذي تعيشه الشخصيات في داخلها من جهة، ومع الواقع من جهة أخرى، وإلى الانهيار النفسي الذي تعيشه خولة كمثقفة وكأم، وهو الثمن الذي دفعته عدة مرات مرغمة. فعلى الرغم من أنها أوضحت أن تحويلها إلى عار يمشي على قدمين عبر النكتة والفيديوهات على صفحات التواصل الاجتماعي، كان مدبرًا من جهات سياسية لتحويل الأنظار عن قضية هامة، وهي الإفراج عن متهمين باختلاس المال العام. تقول العيسى: أرادت الجماهير مكبًا لتفريغ غضبها، فكانت خولة وهو الثمن الذي يدفعه المثقف عمومًا أمام السلطة السياسية.

دفعت خولة الثمن مضاعفًا في صدماتها المتوالية رغم نبل هدفها الذي لم يكن سوى الإشارة لواقع تسطيح وتعطيل الشباب وفقدانهم المعنى. في غرفة الجلوس، حيث كانت المعركة بين الولدين: حوض أسماك فارغ، وهو ما نراه على غلاف الرواية في صورة أكواريوم فيه سمكة نافقة وجريحة في موازاة ذكية بين الحوض والعائلة. حتى السمكة التي أحضرها الابن الأصغر تموت، وكأن هذا الماء (الواقع) فاسد سيقتل كل محاولة جديدة.