11-يناير-2016

امرأة تعبر بجوار جرافيتي للثورة المصرية مرسوم بالقرب من ميدان التحرير ديسمبر 2011 (Getty)

ضيق النفس، القلق، الاكتئاب، العصبية، والرغبة بالانعزال عن الناس؛ جميعها أعراض لابد أنها لازمتك خلال السنوات الخمس الأخيرة بشكل خاص، ولو على فترات متقطعة. يقول الطب النفسي إنها تمثل أعراضًا لحالة "الحنين للوطن" المرضية.

 تبدو الأراضي المصرية كأكبر محمية في العالم للمصابين بالحنين، فالجميع، من مختلف الانتماءات، لا يريد التعاطي مع الواقع بمعطياته الجديدة

إن اقتسمنا المشكلة إلى جزئين، هما "الحنين" و"الوطن" قد يبدو الأمر أكثر منطقية. ولننح الأول جانبًا للآن ونركز على الثاني، ترى ما مشكلة الوطن؟ بالتأكيد لن تشعر بالحنين لمكان لم تفارقه، ولو نظريًا، فلا مشكلة بالوطن من الأساس. هكذا يقول التلفاز مطالبًا مشاهديه الوطنيين بالتمسك بالوطن وعدم تركه للمخربين، وللمخربين يصبح الخارج مآلًا. وهكذا يقول والداك عند استنكارهم رغبتك ترك الوطن، أيها الخائن عديم الوطنية، فلا يشوب الوطن عيب ولا خطأ، بل بلوته الوحيدة أنه قد رُزق بأمثالك من عديمي الوطنية الذين يريدون تركه وحيدًا لمن خلّفتهم وراءك من أمثالك، عديمي الوطنية، والآخرين المخربين.

والآن فلنعد إلى الأولى، "الحنين". تبدو الأراضي المصرية كأكبر محمية في العالم للمصابين بالحنين، فلا أحد، بمن فيهم أنا، يريد التعاطي مع الواقع بمعطياته الجديدة. بل يعيش الجميع، بمختلف انتماءاتهم السياسية، ناقمًا على الحقيقة التي وجد نفسه مجبرًا على التعامل معها، ومستشعرًا الحنين نحو فترات ولّت، من المؤكد أن التاريخ لن يعيد تدوير مخلفاته ليستهلكها مجددًا على حالها، أو على الأقل ليس قريبًا.

في معسكر الثورة، نجد أن آدم قد نزل إلى الأرض في عام 2005 على سلم نقابة الصحفيين بوسط القاهرة ليمهد لبدء الحضارة الإنسانية، التي بدأت في يوم 25 يناير 2011، ورويت زروعها يوم 28 يناير، وحان قطافها يوم 11 فبراير، ثم انتهت الحضارة وانهار كل شيء. يبدو جميع سكان المعسكر، مهما بلغت درجة ما يظهرونه من اليأس، راقدين على فراش الموت منتظرين ترياق "الثورة الجاية"، التي سيملأ فيها الشعب شوارع المحروسة، بعد أن يستفيق من غياهب التضليل الإعلامي بالتأكيد، ويزحف في مشهد مهيب ليزيح المستبد الجديد، ويأتي بالمستبد الأحدث. ينتظر أهل المعسكر الشعب الذي سينزل إلى الشوارع لينتقم من هؤلاء الأشرار، وحينها سينضمون إلى الشعب، بل وسيكونون أول النازلين. إنه الحلم الضبابي الممطر كشتاء يوم 28 يناير 2011، الذي يراود جميع من ساروا في شوارع مصر يومها، بتكرار اليوم بتفاصيله مجددًا، ولكن الحقيقة الصادمة أنه قد حدث لمعطيات ما، ربما كان مفاجئًا في حينها، ولكن توافرت أسبابه، ولست هنا بصدد مناقشة أسبابه، بل أقول إن ما حدث قد حدث، والآن أمامنا واقع جديد بمعطيات مختلفة، هي أسوأ بالتأكيد، ولكنها جديدة.

أما في معسكر فلول مبارك، ولديهم حنينهم الخاص أيضًا، فتجد أن الحضارة الإنسانية قد بدأت يوم 14 أكتوبر 1981 وانهارت يوم 11 فبراير 2011. وما تلى ذلك ليس سوى مجموعة من الخونة يقتاتون على ميراث الزعيم مبارك. يعيش هؤلاء على حلم لا واعي بعودة أيام مبارك، وهم يدركون استحالة ذلك، وحلم آخر واعٍ بتكريم الرجل وإعطائه قدره المزعوم الذي يستحقه. يبحثون عن رائحة مبارك في كل من تلوه. تشبثوا بالسيسي لأنهم وجدوا سمات عهد مبارك ملوحة في أفق عهده المنتظر، فقالوا بل هو كبيره الذي علمه الحكم، فاصطفوا خلفه وأنجحوه، وما إن اعترف قولًا لا فعلًا بثورية يناير، استشعر بعضهم التشكك والطعن من الخلف من قبل شبيه مبارك، فهم يكرهون يناير، وكل من يعترف بـ يناير. بالتأكيد كانت لطمة "قصور الرئاسة" هي الأقوى على أصداغهم.

يبدو هؤلاء، رغم قربهم من الدوائر الحاكمة، غير مدركين لحقيقة أن نظام السيسي ليس بأي شكلٍ امتداد لنظام مبارك، بالفعل يحملان سمات كثيرة متشابهة، ولكن النظام الجديد بالفعل جديد. إنه نظام أكثر شبابًا، تعلم من أسباب سقوط نظيره الأقدم، ويحاول ترسيخ قواعده الجديدة، محل قواعد "الدولة العميقة".

وفي معسكر الإخوان، بدأت المعاناة الإنسانية يوم 22 مارس 1928، وأتى الخلاص يوم 30 يونيو 2012، ثم رحل المخلص عن شعبه يوم 3 يوليو 2013، فترك الأكثر تغييبًا منهم في انتظار اليوم الذي ستنتهي فيه محنة المُخلّص، محمد مرسي، ليخرج من السجن ويعود إلى حكم البلاد، ويقضي على شرار العباد. رغم سذاجة هذا التصور، فإننا نجد وسط صفوفهم من هم أكثر تسويقًا للوهم، ففي المنفى بتركيا يوجد من أقاموا "البرلمان المصري"، واعتبروا أنفسهم بالفعل نوابًا عن الشعب، بل وناقشوا في جلسته الافتتاحية "خطورة سد النهضة على الأمن القومي المصري".

تخلت عنا الآمال العريضة والأسقف المفتوحة للطموح، فلجأ كل منا إلى جزيرة حنين لماض قديم، يدرك جيدًا استحالة، أو عدم اقتراب، تكراره

يصبح الحنين أكثر خيالية عند ضم نطاقٍ أوسع من الإسلاميين إلى المشهد، وهم من توقف تاريخهم، ورسم خرائطهم، عند الأندلس والخلافة الإسلامية التي شملت مشارق الأرض ومغاربها. يعيش هؤلاء على أمل عيش الحلم الأكبر، "عودة الأندلس"، فيما يبدو كانقطاع غير منظور لدى المعسكرات الأخرى عن المعطيات الجيوسياسية للعالم الحديث، التي تختلف بالتأكيد عن معطيات عصر غزو الأندلس. بالتأكيد ستعود الأندلس إليهم، مباشرة بعد أن تتقدم كتائب صلاح الدين الأيوبي إلى فلسطين المجاورة لتحرر القدس.

تخلّت عنا الآمال العريضة والأسقف المفتوحة للطموح، وأفاضت علينا من معين خيبات الأمل المتكررة، فلجأ كلٌ منا بجزيرة حنينٍ قديم، يدرك جيدًا استحالة، أو عدم اقتراب، تكراره، وسكن على حاله. فلا أمكنه التخلّي عن حلمه القديم ولا أفلح في عبور فيض خيبات الأمل ليبني أسقفًا جديدة للطموح، ويعاود فتحها. ربما على أهل المعسكر الأول التجمع في سدرة منتهى الثورة، ميدان التحرير، في ذكرى أول الأيام، 25 يناير، ليدشنوا لطميات يناير وذكرى أسابيع الآلام. وربما على الفلول والإخوان بناء مقاماتٍ، كل يبني لوليّه، ليتجمعوا في حيزّها ليستجدي كل مجذوب عودة وليّه. علّ ذلك يحمل خلاصهم جميعًا من أوهام الحنين. أو ربما الأجدر بهم جميعًا الخروج من حيّزات أمانهم، وأوهامهم، ليتعاطوا مع واقعهم الجديد، فالفرص تعسكر عند حدود حيّز الأمان الشخصي.

اقرأ/ي أيضًا:

الإمارات..عداء متصاعد للربيع العربي

السعودية وإيران..إنه النفط