22-يونيو-2022
توب غان  والجيش الأمريكي

للبنتاغون تأثير كبير ومؤثر على صناعة الترفيه

لطالما ساد الافتراض بأن من مهام الجيش الأمريكي اتخاذ موقف واضح ضدّ هذه الشرور المتمثلة في البروباغاندا الرسمية وأنشطة السيطرة الثقافية، لكن ثمة الكثير من البراهين التي تقول بأن هذا الافتراض يجب أن يكون مقلوبًا رأسًا على عقب.

فاليوم يطل علينا توم كروز مجدداً في شخصية مارفيك ليكسر القواعد ويتجاوز الحدود ويخالف تعليمات برج المراقبة، متطلعاً عبر الشاشة بابتسامة تكشف عن أسنان لامعة ثم يحلق باقتدار ساحر، ليعيدنا إلى أجواء عام 1986. إلا أن ثمة قواعد لا يكسرها مافريك على الإطلاق: وهي قواعد المؤسسة العسكرية الأمريكية - التي لولا طائراتها المقاتلة وقواعدها وحاملات طائراتها وتعاونها الكامل، لما كان يمكن لأفلام "توب غان" لتظهر إلى الوجود وتحقق هذا النجاح التجاري والإعلامي الهائل. 

بفضل النسخة الأولى من فيلم توب غان عام 1986 زادت نسبة التجنيد في الجيش الأمريكي في ذلك العام بنسبة 500%.

ليس خفياً أن وزارة الدفاع الأمريكية منخرطة في صناعة الترفيه، يشمل ذلك إعارة أسلحتها الأغلى ثمناً. لكن هذا التعاون له ثمن لا يقتصر على المال فقط. تدير وزارة الدفاع صورتها على الشاشة بعناية شديدة، يقول البعض أنها في الواقع منتج مشارك لا يذكر اسمه في الكثير من الأفلام، لدرجة أن هوليوود تمثل ذراعها الإعلامي.

لا يشمل فيلم توب غان مارفيك على شيء يسهم في نفي هذه الشكوك.  مثل سابقه يمثل الفيلم دعاية لمدى احترافية الجيش الأمريكي، وأجهزته المتطورة وروحه. حقق توب غان أرباحاً ضخمة سنة 1986 في الولايات المتحدة، وقد ساهم في تسليط الضوء على قوة القوات البحرية وقد أقاموا منصات تعرض معلومات عن سلاح البحرية الأمريكي أمام بعض دور السينما. ووفقًا للتقديرات، زادت نسبة التجنيد في الجيش الأمريكي في ذلك العام بنسبة 500%.

تعمل وزارة الدفاع مع هوليوود منذ ما يقارب القرن، ويعود تاريخ هذا التعاون إلى فيلم "الأجنحة" (Wings) الفائز بالأوسكار عام 1927 والذي كان بمثابة فيلم توب غان في ذلك الزمن. كل فرع من أفرع الجيش الأمريكي- الجيش والبحرية والقوات الجوية ومشاة البحرية وخفر السواحل - لها مكتب اتصال ترفيهي خاص بها في لوس أنجلوس، بالإضافة إلى مكتب البنتاغون الخاص، برئاسة جلين روبرتس، الذي كان يبلغ من العمر 17 عامًا عند عرض فيلم توب غان الأول. أمضى روبرتس 25 عاماً في سلاح الجو إلا أن مثله مثل آخرين غيره، لم يصل أبدًا إلى قمرة قيادة طائرة أف-14.

يقول روبرتس إن مهمته هي "إبراز صورة القوات المسلحة وحمايتها". ويقول إنهم يعملون حاليًا على ما يقارب الـ 130 مشروعًا ترفيهيًا سنويًا، عشرات الأفلام المكتوبة، بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية وألعاب الفيديو وعشرات الأفلام الوثائقية. "شركات الإنتاج تحبنا لأننا نقدم الأصالة والمصداقية. كما أنهم يوفرون تكاليف كثيرة عبر تعاونهم معنا ".

لكن هناك شروط مفروضة حول الكيفية التي يصور بها الجيش. يقول روبرتس: "نريد التأكد من أن الإنتاجات التي ندعمها تتوافق وقيمنا". يجب على من يرغب في التعاون معنا تقديم النص للموافقة عليه، وقبول أي تغييرات نطرحها. واحترام الخطوط الحمراء التي تتضمن عدم نشر معلومات سرية أو حساسة، أو مخالفة قانون الولايات المتحدة وسياسة الحكومة، وكرامة الإنسان الأساسية (ويشمل ذلك تصوير أفراد عسكريين مصابين أو متوفين في الحياة الواقعية)، وعدم الدقة: "كأن يقول النص إنه طيار في سلاح الجو ويقود طائرة أف-18. لأن هذه طائرة خاصة بسلاح البحرية". ينفي روبرتس عن وزارة الدفاع أي دور فعال في العملية الإبداعية، يقول إن "صناع الفيلم هم المبدعون. لسنا القوة الإبداعية ... مهمتنا دعمهم، وليس فرض أجندتنا على قصصهم".

أصبح بعض صانعي الأفلام جيدين جدًا في لعب اللعبة العسكرية. تعاون المنتج جيري بروكهايمر مع وزارة الدفاع في أفلام مثل "بلاك هوك داون" (Black Hawk Down)  و"أرماجدون" (Armageddon)، و"بيرل هاربور" (Pearl Harbour). وذهب مايكل باي المتعاون السابق مع بروكهايمر إلى أبعد من ذلك، ليس فقط في الأفلام ذات الطابع العسكري الصريح ولكن أيضًا من خلال سلسلة أفلام "المتحولون" (Transformers) ذات الطابع العسكري. تفاخر باي ذات مرة بأن لديه "خط تواصل مباشر مع البنتاغون". واعترف فيل ستروب الذي كان يشغل منصب روبرتس سلفا، في عام 2009 بأن وزارة الدفاع ستقدم مقترحات إلى باي. وعلى هذا النحو، أصبحت سلسلة أفلام المتحولون بمثابة عرض موسع للقوة العسكرية الأمريكية، موجه للأطفال.

أنتج الجزء الأول والثاني من أفلام "آيرون مان" بالتعاون مع وزارة الدفاع، كما هو حال العديد من أفلام مارفل الأخرى، حتى توترت العلاقة بينهما بعد فيلم "ذا آفنجرز" (The Avengers)، الذي صور الجيش الأمريكي وهو يشن هجومًا نوويًا على نيويورك.  ففيلم "كابتن أمريكا"، القائم أصلًا على كتاب كوميك وصف بأنه أداة دعاية للجيش الأمريكي، اتخذ موقفًا أكثر نقدية إزاء الحكومة الأمريكية في أجزائه اللاحقة، مثل (Winter Soldier).

 

لكنّ ذلك لم يدم طويلًا، إذ تم إصدار فيلم "كابتن مارفل"، والذي جاء كإشادة دعائية بالقدرات الجوية الخارقة للجيش الأمريكي، وهذه المرّة بفضل مجنّدة متميزة أدت دورها الممثلة بري لارسون. وقد حقق التعاون في هذا الفيلم الأثر المرجوّ منه وأكثر، لدرجة أن القوات الجوية أطلقت حملة تجنيد استهدفت النساء الأمريكيات، مع الاستثمار بهذا "الإلهام" الذي نجح الفيلم في بنائه.

نفوذ واسع لا يقتصر على الأفلام الحربية

يمتد هذا النفوذ للجيش الأمريكي إلى ما هو أبعد من الأفلام الحربية، فقد كان من بين متلقي دعم وزارة الدفاع مؤخراً، برامج تلفزيونية عن الطبخ، وفيلم "بيتش بيرفكت 3" (Pitch Perfect 3)، وهو فيلم تقوم فيه فرقة غناء نسائية بزيارة قاعدة عسكرية وتقدم عرضها على المنصة بالأزياء المموهة، إضافة إلى فيلم (Don’t Look Up)، الذي يتناول مسألة التضليل الإعلامي وموضوع المناخ.

ووفقاً لبعض التقديرات، فقد شاركت وزارة الدفاع الأمريكية في أكثر من 2500 فيلم على مدار العقود الماضية، وهي مشاركة لا تتسم بالقدر الذي تدعيه من الشفافية.

يصف الصحفي الأمريكي ديفيد روب في كتابه "عملية هوليوود" (Operation Hollywood) كيف دأبت وزارة الدفاع الأمريكية على فرض إملاءاتها على صناع السينما وأخبارهم بما يجب عليهم قوله وما لا يجب عليه قوله. وقد  وضرب أمثلة على ذلك بأفلام مثل "الغد لا يموت أبداً" (Tomorrow Never Dies) وسلسلة أفلام "حرب النجوم" وغيرها العديد من الأفلام. وفي عام 2021، بدأ الصحفي البريطاني توم سيكر الذي يدير موقع (Spy Culture) بتقديم الكثير من طلبات الإفصاح عن المعلومات بشأن التواصل والمراسلات بين وزارة الدفاع وهوليوود، وبدأ بجمع آلاف الصفحات من الوثائق من بينهما مسودات لأفلام، لدعم شكوكه. يقول سيكر "قد يدعون أنهم صريحون بهذا الشأن لكنهم ليسوا كذلك. اعترفوا صراحة بعلاقتهم بهوليوود لكنهم لم ينشروا أبداً وعلى نحو طوعي ملاحظاتهم على نصوص الأفلام. وفعلوا كل ما بوسعهم لإخفائها".

يسرد سيكر العديد من الأمثلة على ذلك. ففي المسودة الأصلية لفيلم "الرجل الحديدي" (Iron Man) والتي قدمت للبنتاغون، كان توني ستارك معارضاً لتجار الأسلحة بما فيهم والده، وقال "إن التكنولوجيا التي أحاول بها إنقاذ حياة الناس يتم تحويلها إلى أسلحة مدمرة". لكن في النسخة النهائية من الفيلم نجد توني ستارك نفسه يتاجر في الأسلحة مع الجيش الأمريكي. وفي فيلم "غودزيلا" عام 2014، تم حذف إشارة أحد شخصيات الفيلم إلى جدّه الناجي من هيروشيما. فأورد البنتاغون ملاحظة مفادها "إن كان هذا اعتذارا أو مساءلة لقرار قصف هيروشيما وناغازاكي، فقد يدفعنا ذلك إلى مراجعة التعاون".

وقد خضعت نصوص الأفلام التي تتناول الجوانب المثيرة للجدل في التاريخ العسكري الأمريكي لتعديلات كبيرة أو رفضت بالكلية. في الأفلام التي تتناول التمييز العنصري والجنسي المؤسسي، مثل فيلم (The Tuskegee Airmen) الذي صدر عام 1995، عدلت الأفلام لتصوير الأمر على أنه خطًا "شاذ" من شخص دخيل على المؤسسة العسكرية ولا يمثلها. يقول سيكر "دائماً ما يبررون ذلك بقولهم، نريد تصويراً معقولاً للحياة العسكرية، وعملياً يعني ذلك حجب أي فيلم يتحدث عن جرائم الحرب أو الجرائم الجنسية أو مشاكل الصحة النفسية أو الفساد داخل المؤسسة العسكرية".   

ولطالما أكد صناع الأفلام هذا الأمر. وقد قوبلت طلبات الدعم التي قدمها المخرج والسيناريست الأمريكي أوليفر ستون لفيلميه حول فيتنام، وهما فيلم "بلاتون" (Platoon)، وفيلم "مواليد الرابع من يوليو" (Born on the Fourth of July)، بالرفض من قبل الجيش الأمريكي. والسبب باختصار هو أن فيلم "بلاتون" يعرض واقع إدمان المخدرات والعنصرية وقتل الجنود الأمريكيين للمدنيين في فيتنام وقتلهم بعضهم البعض. أما الفيلم الثاني فيتناول موضوع "اضطراب ما بعد الصدمة" الذي أصاب الجنود بعد انتهاء الحرب. وقد رفض تقديم الدعم للفيلم رغم أنهما يتناولان مواضيع في غاية الدقّة والأهمية، ونبعت فكرتهما من تجارب شخصية لأوليفر ستون وكانت قصتا الفيلم دقيقتان، وقد استلهمها ستون من تجربته الشخصية في الحرب وتجربة الكاتب الأمريكي رون كوفيكس الذي خدم في حرب فيتنام. يقول ستون في فيلم "مسارح الحرب" (Theaters of War)، وهو وثائقي يتناول العلاقة بين وزارة الدفاع وهوليوود "إن الغرض الأساسي من هذا المكتب [التابع للبنتاغون] هو الحرص على مراجعة المعلومات التاريخية المتعلقة بالجيش الأمريكي في الأفلام، لكن ما يحصل هو عكس ذلك تمامًا، إذ إنهم لا يقدمون سوى الأكاذيب". وقد تجاوز كثير من صناع الأفلام المناهضة للحرب شروط وزارة الدفاع، نذكر منها مثلًا هذه الأفلام:

  • The Deerhunter
  • Full Metal Jacket
  • Dr Strangelove
  • Three Kings
  • Apocalypse Now
  • Jarhead
  • Thirteen Days

يذكر أنّه قد عُرض على أوليفر ستون إخراج فيلم "توب غان" لكنه رفض ذلك حينها.

حين صدر فيلم "توب غان" الأصلي عام 1986، كانت أصداء الهزيمة المذلة للجيش الأمريكي في فيتنام ما تزال حاضرة في أذهان الناس، وقد صنع الفيلم ليكون محاولة لتصويب هذه الصورة، وصناعة صورة بديلة تبرهن على عظمة المؤسسة العسكرية الأمريكية. ففيلم "توب غان" يعرض قصة متخففة من الحمولة السياسية المباشرة، وقد أنتج في وقت لا تخوض فيه الولايات المتحدة حربًا مباشرة، ويتميز بتصوير وعرض رائعين ويؤكد على حرية وإقدام الشباب، في مناوشات بارعة التصوير ضدّ عدو مجهول.

وفقاً لبعض التقديرات، فقد شاركت وزارة الدفاع الأمريكية في أكثر من 2500 فيلم على مدار العقود الماضية

الأمر نفسه ينطبق على النسخة الجديدة من "توب غان" للعام 2022، والذي يأتي بعد انسحاب أمريكي مرتبك من أفغانستان بعد عقدين من غزوها، وهو قائم على قصّة لا تحمل نكهة سياسية واضحة. أما العنصر الثابت الآخر في كلا الفيلمين، فهو تعاون الجيش مع صناع الفيلمين على أعلى المستويات. فاتفاقية "التعاون الإنتاجي" بين وزارة الدفاع واستوديوهات باراماونت تنص على ضرورة "البناء المشترك للنقاط الأساسية"، وهي اتفاقيات يبدو أنها تحقق منفعة كبيرة لكلا الطرفين، حتى لو تمّت بعيدًا عن معرفة عامة الناس وانتباههم.  

 

*المادة مترجمة بتصرّف عن الغارديان البريطانية.