28-فبراير-2019

ايمن الربع (فيسبوك)

اكتسبت موسيقى الزنق، أو ما يعرف بأغاني الزنق، شهرة واسعة في السودان تعدت الحدود المطلقة لهوس الشباب بالغناء الصاخب، وأصبحت خلال السنوات الآخيرة بمثابة جرس إنذار أيقظ جيلًا كاملًا عاش لعقود طويلة تحت وطأة ما يسمى بأغاني الزمن الجميل، والتي تعتمد بشكل أساس على المفردة واللحن والأداء، وهى شروط يبدو أنها غير معتمدة بالمرة في عصر الزنق .

 اعتقلت السلطات السودانية نجم أغاني الزنق أيمن الربع لأنه خلق توليفة موسيقية لشعار "تسقط بس"

الأسبوع الماضي، اعتقلت السلطات السودانية نجم أغاني الزنق أيمن الربع (39 عامًا) لأنه خلق توليفة موسيقية لشعار "تسقط بس" المتسلل من شُرفة مطالب احتجاجية وظروف قاسية هي التي أنجبت أيمن الربع، وأنجبت ثورة ثقافية أيضًا على قطيعة مع الماضي، اتسمت بالرفض والتمرد على كل شيء، مثل أغاني الزنق تماماً.

ملهم الزنق عازف الأورغ

برزت نجومية أيمن الربع قبل نحو عامين تقريبًا، لكن عبقريته الفذة في العزف على آلة الأورغن تفتقت أثناء ملازمته للفنان السوداني الراحل محمود عبد العزيز (الحوت) صاحب المدرسة الشبابية المتفردة في الغناء، والتي تحولت إلى نهج صوفي، حيث يستلهم جمهور الحوت حنينهم ممن يذكرهم بذلك الميت العظيم، فوجدوا ربما بعض السلوى في عازف أورغن مسكون بالعبقرية، هو أيمن صلاح بروان، المنحدر من أسرة أم درمانية معروفة، فوالده صلاح بروان، هو أشهر فناني الجاز في حقبة السبعينات المزدهرة  بذلك النوع من الغناء الأفريقي.

ملك الجاز صلاح بروان ينظر إلى أغاني الزنق في سياق الظروف غير الطبيعية التي ولدت فيها، كما أنه يدعم بصورة واضحة تجربته ابنه، وقال براون إن الرفض لهذا النوع من الغناء بحجة عدم والرصانة منطقي، لكنه من حيث التراكيب لشكل الميلودي والكوردات وتوالفها، لا اعتراض عليه، وتمثل وفقًا لبروان: "موسيقي جديدة مبنية على قاعدة نوتة مستخرجة من جهاز الأورغن، وبالتالي يصبح القبول محليًا وعالميًا أمر لا اختلاف عليه".

 

طقس حافل بالغرائب

دافع براون عن أغاني الزنق بوصفها أسلوبًا ايقاعيًا مطلوبًا، وهي ليست بدعة، إنما معظم الأساليب الموسيقية والغريبة في مفرداتها انطلقت بهذه الطريقة، وأوضح أن موسيقى الجاز التي ظهرت قبل عشرات السنين من نيو أورليانز الأمريكية كانت نتاج لامتزاج الأنغام الأوروبية بالإيقاعات الأفريقية، وكوّنتا ما يسمى بموسيقى الجاز اليوم. لافتًا إلى أن موسيقى الزنق في حال وجدت المناخ المناسب، والرعاية من جانب الدولة والفهم الصحيح سوف تغزو العالم وتتفرد بوجه سوداني أفريقي له باع في هذا النوع من الغناء والإيقاعات.

اقرأ/ي أيضًا:​ أدب المقاومة في قلب الشارع السوداني.. انتفاضة ثقافية ضد القهر والرصاص

أغاني الزنق صنعت طقسها الخاص الحافل بالغرائبية، من ناحية أزياء الفنانيين، وتفاعل الجمهور، والرقص أيضًا الذي ينطلق إلى حالة من الجنون والذوبان، حيث يرتدي نجوم الزنق النظارات الشمسية غالبًا والأزياء الفاقعة التي عليها صور بوب مارلي وتشي جيفارا، ويتلاعبون بالأورغ في شكل جماعي هيستيري، وتعبر كلمات الأغاني عن مناجاة الموتى والشيوخ والحارات وذم الفقر، أو ما يعرف بأغاني الزار، بخلاف النزعة الرافضة لكل ما هو سلطوي، وتحديدًا قوانين النظام العام، التي تجرم ما يسمى بالأغاني الهابطة، وهي "تلك الأغاني التي تستخدم فيها كلمات أو عبارات تتنافى مع العقيدة أو الأخلاق، أو الآداب أو الذوق العام والوجدان السليم، سواء كانت مموسقة أو غير مموسقة"، وفقًا لمسودة القانون. 

طقوس قاع المدينة

لكن المثير في الأمر أن فضاء أغاني الزنق يحفل بالحضور والتفاعل من قبل رجال الشرطة والجيش، ويتم استدعاء أسماء ضباط ورتب محددة، وتقاليد عسكرية، وتحتفي كلمات الأغاني بـ"الراندوك" أي لغة قاع المدينة، وطقوس الكيف والمِزاج، وعالم الراسطات، وفنون الجنس والاغراء، عطفًا على أن تلك الأغاني أصبحت هي المتداولة في المواصلات العامة، وفي زفة التخرج للطلاب، حتى بحضور الأهل والجيران، ما يعني أن المجتمع بدا يتصالح معها شيئًا فشيئًا، وربما لهذا السبب تم التصديق بأول حفل جماهيري لنجوم الزنق في عيد الأضحى الماضي، على خشبة المسرح القومي بأم درمان، وشهد إقبالًا كبيرًا، تحديدًا الشباب من الجنسين.

صولة ملك التقفيل

من أشهر العازفين والفنانين في غناء الزنق: نجاة غرزة، مودة، ذكريات، ود راوة، بهاء الدين، رجة، نوسة، هبة جبرة. إلى جانب العازفين المهرة: نيجيري، تلب، درديري، عطفة زنقة، وأيمن الربع. وتبدو للمهتمين بالمجال الموسيقى أن أغاني الزنق خليط من موسيقى أفريقية ومارشات عسكرية تم تحريفها إلى تلك الإيقاعات التي تتميز بالشكل الإيقاعي الراقص والخفيف للتعبير عن النفس والروح، ولها جانبها الإبداعي وحضور جماهيري طغى على الأغاني القديمة والحديثة، كما أن الكلمات تتوافق أحيانًا مع الأوضاع العامة، أو تكون وليدة اللحظة، شرطَ ألا تفسد الايقاع، ولديهم كذلك اجتهادهم الخاص ومسميات على شاكلة "صولة ملك التقفيل، العنكبوت، الزمبار"، وللزنق أيضًا راقصون محترفون، أشهرهم "الجقول"، كما أن أغانيهم تعزف على أورغ KN2000 الذي يعمل على ألحان قوية ومرتفعة جدًا، وغالبًا تسجيلاتهم مصورة داخل صالات ضخمة أو في الغابات، ويعد هذا الضرب الفني المبتدع منافس أول للفنون الأجنبية "الراب، الديرتي والديسكو".

تمجيد العسكر والقبائل

بينما تعتقد أريج جاد الله أن أغاني الزنق انعكاس لثقافة مجتمع كامل، وهي شبيهة بأغان وثقت تاريخيًا لأحداث مهمة، مثل أغنية "الشريعة جات كسروا البارات" في منتصف الثمانينيات، وأغنية "سلام للملك فاروق".

أغاني الزنق انعكاس لثقافة مجتمع كامل، وهي شبيهة بأغان وثقت تاريخيًا لأحداث مهمة في السودان

كتبت أريج على جدار صفحتها بالفيسبوك أن أغاني الزنق تمجد الحكومة والعسكر لضمان استمرار حفلاتهم، مثل أغنية "جنابو يعمل حسابو"، وتكشف سواءات المجتمع العنصري، قائلة "في حفل زنق كلمات ذات دلالات إثنية مثل غرابة وقراقير أو حلب وشوايقة"، وبالتالي فهى أكبر مهرجان لتمجيد القبائل والإثنيات والجهويات، كما أنه يندر أن لا تجد مثقفًا ملمًا بهذا الضرب من الغناء، لكن الصحفي موسى حامد يختلف مع أريج في ذات الوسم، ويرى أن ثمة خلط بين نمطين من الغناء، أغاني البنات والرقص المختلط والأدائيات المختلفة، وأغاني الزنق التي تتميز بالموسيقى الصاخبة، إذ ظهرت حديثًا.

ثورة غنائية من الهامش

يرجع الصحفي للمختص في مجال الثقافة والفنون محمد شريف بداية ظهور الزنق إلى مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وقتها ظهرت اجراءات مشددة منعت تسجيل الأغنيات العاطفية بأجهزة الدولة الرسمية، وكان لا صوت يعلو فوق الأصوت الأناشيد الجهادية مع تضييق تم لاحقًا بواسطة قانون النظام العام على إقامة الحفلات الخاصة والجماهيرية، وقد تضمن ذلك "فجوة عميقة بين جيل الرواد الكبار من الفنانين والشباب إلى جانب اتجاه سلكه البعض بالاستماع للأغنيات ذات الثقافة العربية الواردة من مصر ودول الخليج".

اقرأ/ي أيضًا:​ الثقافة المعقّمة والتطهّريّة

قال شريف لـ"ألترا صوت" إن ذلك القهر ولد معه عصر الأورغن، الذي أحدث انقلابًا في الساحة الفنية السودانية، وقاد إلى ما يسمى بالأغاني  الهابطة السريعة، ومعه زاد نشاط إتحاد فرق الجاز بقيادة كمال كيلا وصلاح براون، بموسيقاهم ذات الطابع الأفريقي الصاخب الراقص، حيث اجتذبوا الشباب الذين هاجروا من المدن التي انهكتها الحروب وجاؤوا للعيش على أطراف العاصمة، تحت ظروف قاسية، أشبه بـ"الزنقة الاقتصادية"، وتمكن هؤلاء الشباب من تطوير فن ابن البيئة الجديدة والعصبية الأفريقية، كما ظهر جيل آخر من المغنيات لم يجدن حظهن في الاعلام، وعرفن بـ"القونات" ليصبحن داعماً لأغاني الزنق والزار، وقد كسرن التابوهات وصنعن طقوسهن الغنائية، ما اضطر الحكومة ممثلة في مجلس المهن الموسيقية والمسرحية للاعتراف بهن مؤخرًا، على حد تأكيد محمد شريف.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

الفيلم السوداني "حديث عن الأشجار" يمنح العرب جائزة مهرجان برلين

تآكل المسرح السوداني.. مسرحية "ملف سري" في مواجهة السُلطة