05-نوفمبر-2018

حازم حرب (تصوير: محمد جحا)

في الطريق إلى مهرجان "Berlin Art Fair"، جلست في المترو وأنا أفكر بالسنين التي مرت منذ آخر مرة التقيت بها حازم حرب، مضى العمر هاربًا من جلدنا كالمطر، أطرقت رأسي إلى النافذة اقلب ذكريات أيام مراهقتنا الجميلة في جمعية الشبان المسيحية المليئة بالأحلام، والألوان والشعر.

في غزة.. الحياة مؤقتة، الحركة مؤقتة، العمر مؤقت، والحلول مؤقتة، الأمل مؤقت، الوهم مؤقت

في الطريق، أشعر بقشعريرة خفيفة لم أعرف إن كانت من ارتباكي لمقابلة صديق من أيام الطفولة يعيدني إلى غزة، أو أن هذا الصديق أصبح فنانًا ذا حضور، وأقرب لقاء لنا كان عن طريق أخبار معارضه، وفخري بأنه من تلك المدينة المتعبة والتعبى التي خرجت أجسادنا منها ولم تخرج هي من أجسادنا.

اقرأ/ي أيضًا:​ معرض تغريد درغوث: الزيتونة رواية.. الزيتونة راوية

ما أن وصلت إلى المكان المزدحم بالفنانين والإعلاميين، أصحاب المعارض والمعنيين، لمحت حازم حرب وأدركت أن جذور ارتباكي هو العناق المعبق برائحة رمال شاطئ غزة، هي الرائحة نفسها التي كرهناها في طفولتنا، ولكن الحنين نسج منها قرنفلًا في عقولنا المغتربة.

عناق طويل ودافئ يليق بتاريخ أحلام حازم حرب، وهذا المكان الذي اجتمعنا فيه خمسة عشر سنة لأول مرة منذ غادر غزة.

حازم حرب الذي يعتني بالزمان والمكان وكأنهما طفلاه اللذان يكبران أمام عينيه، ويعكسان الشمس بمرآتهما على أعماله الفنية.

كل الوقت ضيق لنجلس ونتحدث عما فعلنا وفعلت بنا الحياة، عن تجعيدة خجلة تظهر في وجوهنا أو عن الشعر الرمادي الذي اتخذ جانبًا واحدًا من رأسنا.

حازم حرب

هذا اللقاء السريع والعناق المعبق برائحة القرنفل المفتعل من نوستالجيا أبدية، جعلاني أحظى بمشاركة حازم حرب ساعة في معبده الفني الواقع بإحدى ضواحي دبي.

كانت اللقاءات عبر الأثير وكاميرات الكمبيوتر أشبه بالحقيقية، ما نقصها هو عدم مقدرتي على شم شجرة الزيتون التي تحتضنها حديقة حازم، شجرة الزيتون التي وصلت إلى باب افتتاح معرضه "المؤقت" في 2011، كهدية من أصدقاء يعرفون أن رائحة شجرة الزيتون هي من رائحة فلسطين، وأرادوا لهذه الرائحة أن تعبق في أرض مرسمه هنا، شجرة الزيتون الواقفة بكل أنوثه وإغراء في وسط حديقته الخضراء.

حازم حرب الذي لا يملك الوقت لصخب الحياة في زحمه معارضه ولقاءاته ومواعيده ولكنه يملك كل الوقت والحب لنباتاته وأشجار حديقته، يشاركها أفكاره لأعماله القادمة ويستوحي إلهامه من الصبار التي حملها معه من تلة المنطار أثناء زيارته الأولى والوحيدة إلى غزة، بعد غياب طال ثلاثة عشر سنة. الصبار الذي ينمو مختلفًا عن الجزء الذي قطفه من غزة، الصبار الذي يحاكي حازم، بشخصيه، حازم الفنان التشكيلي الذي خرج حالمًا بأن يبني مشواره الفني كفنان تشكيلي، وحازم الذي كبر وتطور خارج غزة فانطلق من إيطاليا إلى العالم ليكتشف حدودية الفرشاة وحدها عن التعبير عن رسالته وعن أفكاره.

يعيد حازم حرب استخدام كل المواد والمساحات والخامات التي حوله إلى أدوات تبني عمله الفني، فمن الفرشاة والألوان وورق الفنون الجميلة فقط، إلى استخدام الزجاج، الكرتون، القماش، والإسفنج، الصور، الوثائق التاريخية وإلخ من كل المواد والمساحات المتاحة من حوله ليوظفها في أعماله الفنية.

يدرك أن الحديث عن عدالة قضيتنا بالشكل الكلاسيكي، الذي يوظف الشهداء والحروب كمواد للضغط النفسي والعاطفي على الجمهور، لم يعد مجديًا، ولم يعد يرتقي ليقف بوجه الأطروحات الفنية من الجانب الآخر من العالم. ولهذا أكد على قناعته التامة أن الوقت الحاضر هو الوقت المناسب لمعالجة عواطفنا بشكل مختلف عما اعتدنا عليه كشعب فلسطيني، وإنه كفنان يشعر بالمسؤولية لإيصال هذه الرسالة بالارتقاء بلغة الفن من العاطفة إلى المنطق الأكاديمي، والبحث والتحليل والتأريخ، مما يجعل الإنتاج الفني أصعب حملًا على أكتاف الفنان ولكنه أعمق وأصدق.

اليوم اتجه حازم حرب إلى التأريخ إلى ما استطاع إليه سبيلًا، الوثائق لمستندات من تاريخ فلسطين ما قبل النكبة التي تثبت وجود مطار، عملة فلسطينية، وغرفة تجارية وتجميع "نيجاتيفز" من صور قديمة، التي فرَّزَت الزمن وأَحيت بنا مشاعر اكتسبناها عبر الأجيال.

العثور على هذه الصور هو جزء من هاجس حازم حرب للعثور على الأغراض المفقودة، والتي أدت إلى ربط شخصه بالنكبة بشكل مباشر لما يعايشه جيلنا اليوم من صدمات التشرد واللجوء المتكررة ولم تعد مقتصرة على القصص المسرودة من أجدادنا.

في سلسلة أعماله "القوة لا تهزم الذاكرة"، التي تم عرض جزء منها في معرضه الفردي ممثلًا لجاليري "طبري مساحة الفن - Tabari Art Space" ضمن معرض الفن في برلين 2018، هي أعمال شكّلها من صور منتقية عثر عليها من أرشيف ما قبل النكبة، أخذها ومن ثم أعاد تصويرها أو عرضها بشكل آخر من خلال استخدام تقنية الكولاج، مطبوعة على زجاج Plexi مبنية ع خشب للعرض التي تقدمها في سياق فني مختلف نوعيًا عن الشكل التوثيقي للصورة.

حازم حرب

يستطرد حازم حرب أنه من الواجب علينا احترام عقل الجمهور عندما نقدم أعمالًا فنية، لأننا أشبعنا بأعمال مبنية على العواطف وردّات الفعل عبر وسائل الاتصال الاجتماعي. الفنان الأصيل هو من يحمل هم فنه بمسؤولية، ويبحث بدأب عن كيفية إيصال مشروعه وقضيته.

ومن الحديث عن التشرد والهجرة، وصلت إلى سؤاله عن معرضه "أتخيلك بدون دارك"، والذي كان أول معرض شخصي لحازم حرب في عام 2012، وقد استخدم أفَرشة إسفنجية معلقة من السقف إلى الهواء، وهنا شارك حازم حرب معنا مصدر إلهامه في هذا المشروع، وهو صورة موثقة لامرأة عجوز تحمل فَرشتها على ظهرها وتمشي في مشهد من مشاهد اللجوء الفلسطيني أثناء النكبة، للوهلة الأولى يأتي الشعور باستسلام أو انهزام هذه المرأة المنكسرة التي تحمل فرشتها على ظهرها، لكن بعد تمعن شعر أن في هذه الصورة كمية خفية من القوة المستلهمة من هدوئها في الصورة، وقد اعتبر أن هذه المرأة التي اختارت أن تحمل معها فرشتها، هي صورة رمزية لقوة في شخصية من اختارت أن تحمل الشيء الذي لا يحمل من القيمة المادية بقدر القيمة النفسية، فالفرشة هي الملاذ لأحلامنا، وتعب أيامنا، والشاهد على دموعنا وفرحنا ونشوتنا.

جاءت الفكرة لحازم حرب ليفكر كم من الأفرشة التي لم نحملها معنا، وخلفناها وراءنا عندما هربنا أو انتقلنا قسريًا من مكان إلى آخر ومن ثم إلى آخر.

فكرة تعليق الأفرشة من السقف إلى الهواء هي إشراك إحساس الجمهور في عمليه السقوط، عندما يمشي من بين الأفرشة المعلقة فهناك نوع من التوجس إن كانت إحداها ستسقط سهوًا على رأس أحد. هذا التوجس الذي يساعد الجمهور لخلق مساحة من التساؤلات حول علاقة التهجير بالسقوط النفسي.

جاءت فكرة حازم حرب حول الفَرْشات من صورة ضمها أرشيف النكبة، لكي يصور ملاذ أحلامنا وتعب أيامنا

عن مشروعه "مؤقت"، يشرح حازم حرب أن الفكرة أتت بعد زيارته الأولى والوحيدة إلى غزة، حين رجع إلى غزة مختلفة تمامًا عن التي رحل منها، السبب الأول هو أن يعيش في بيته في الشجاعية في غياب أمه، أمه التي توفيت ولم يستطع رؤيتها أو توديعها، فما كان هذا الموت والفقد إلا وهمًا في رأسه، لم يستطع إدراك حقيقة هذا الموت حتى أتى أول عشاء في بيته ولم تكن رائحة طعام أمه حاضرة، هنا أدرك حجم ذلك الفراغ القارس في بيته الذي كبر فيه حضنًا بعد حضن والدته.

اقرأ/ي أيضًا:​ الهندسة جوهرًا لتجربة الفنّان سمير التريكي

حازم حرب الذي أتى ليزور مدينته البائسة الجميلة المدفونة حية في قفص محكم الإغلاق، وكل ما يحدث فيها هو مؤقت.. الحياة مؤقتة، الحركة مؤقتة، العمر مؤقت، والحلول مؤقتة، الأمل مؤقت، الوهم مؤقت؛ عجز عن وصف الفارق بين غزتنا التي كبرت فينا وكبرنا فيها، وبين غزة اليوم التي تكبر في قلوب الجيل الجديد الذي ولد في بداية الانتفاضة الثانية، والذي يكبر في حالة المؤقت وينسج أحلامًا مؤقتة للحصول على ساعة إضافية من الكهرباء.

هشاشة الحياة وخفة الأمل المؤقت، ذاكرة المكان الملموسة جعلته يفكر في الكرتون لبناء مجسم ضخم يحاكي صورة "جوجل ستلايت" عن غزة. من هذا المادة الهشة، الخفيفة والمؤقتة، أراد أن يشرك الجمهور عند المرور بين هذه البيوت والشوارع الكرتونية بهذا الإحساس، إحساس الحذر من ألا تسقط هذه البيوت الكرتونية إن لمسها أحد بقوة أثناء تجوله، أو لربما مجرد فكرة العيش في بيوت كرتونية مؤقتة، هي بحد ذاتها إشراك للجمهور بتخيل حالة أولئك الذين يعيشون مؤقتًا.

انتهى لقاؤنا سريعًا، وكم تمنيت لو أنني كنت في مرسم حازم حرب لأحظى بعناق القرنفل مرةً أخرى، ولكي أحظى بملامسة جلد أعماله وهي في دارها مستلقية بحميمية له وحده، لا كما نراها نحن جمهور المعارض.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

فوتوغرافيا جوزيف كوديلكا.. خراب بيروت المضيء

"كولاج" تمام عزام.. الشظايا هي المشهد الآن