25-أغسطس-2015

"الجمهور بات يبحث عن الترفيه والمرح عوضًا عن الموهبة؟!" (Getty)

خلال الحلقة الخاصة من "قول يا ملك" التي سجلت على شرف جورج وسوف نهاية العام المنصرم، تحدث مقدّم البرامج، الغني عن التعريف، نيشان ديرهاروتيونيان، عن برامج الهواة واكتشاف المواهب التي باتت تستقطب نجوم "كبار" للمشاركة في لجان تحكيمها. عدد نيشان أسماء البرامج التي تكدست بعد أفول نجم "ستوديو الفن" فقاطعه الوسوف، ممازحاً، بـ"إحّي". جال نيشان مجددًا على لائحة من أسماء الفنانين الذين خاضوا تجربة "التحكيم"، والذين تخرج معظمهم من الاستوديو نفسه، وسأل الوسوف عن رأيه في الموضوع، فما كان بالأخير إلا أن مرجح الميكروفون بانسيابيته المعتادة ورد، هازئًا، "المحكّمون عاوزين حكم".

التقييم بدأ مع حكام متخصصين وانتهى مع هواة تعلموا الموسيقى أخيرًا

قد يبدو تهكم الوسوف، بالنسبة لكثيرين، مبالغًا فيه بعض الشيء، تمامًا كمعظم تعليقات الجمهور الساخرة التي تلت تعداد أسامي فنانين هم اليوم أعضاء في لجان تحكيم وينتمون، بحسب نيشان، إلى "نجومية الصف الأول". لكن السخرية حملت في طياتها فرضية لا يمكن نفيها، رغم ما تحمله من إجحاف يطال البعض القليل ممن نجح في تأدية النقد المتخصص والتقويم الموسيقي الجيد. فالتقييم والنقد اللذان بدآ مع حكام متخصصين في الحقل الموسيقي، على غرار الموسيقار الياس الرحباني، الملحنين عبد الله القعود وزياد بطرس في "سوبرستار"، انتهى مع "هواة تعلموا أصول النوتات الموسيقية منذ فترة ليست ببعيدة نسبيًا"، وأضافوا إلى رصيدهم الفني، "إلى جانب الغناء طبعًا"، مهنة التحكيم. مهنة "كسيبة" وتدر في الليلة الواحدة مبالغ خيالية، على ما يرى الموسيقي غسان الرحباني. بيد أن الظاهرة تلك، التي اجتاحت الوسط الفني مطلع الألفية الثالثة، والتي يرمى إليها الرحباني، ليست وليدة الصدف، ولم تأتِ كردة فعل على تكاثر البرامج وتنوعها، بل إن أسبابًا عدة، منها ما هو تجاري وسياسي، شكلت أرضية خصبة لبروزها، ولا يمكن حصرها فقط باقتباس أفكار البرامج الفنية الأجنبية على قاعدة "تقليد الغرب في كل شيء". فالسجال الطويل يبدأ أولًا من حيث تخرج معظم أولئك "الهواة".

الـ"Ratings" أولاً

في البدء كان "استوديو الفن"، ومن ثم كرت السبحة. تبعه "سوبر ستار العرب"، الذي انطلق على شاشة "المستقبل"، فأحدث ضجة كبيرة في الوسط اللبناني لأسباب عدة، أبرزها أن الشباب، وقتذاك، كان بحاجة ماسة إلى منفذ يعيد آماله ببلاد استنفذت أنفاسها خلال سنوات الحروب المتتالية. ظهر الياس الرحباني، وفاديا طنب الحاج، وعبد الله القعود كحكام متمرسين في النقد والتقييم الموسيقيين، وقيموا، موسيقيًا، أداء ملحم زين ورويدا عطية وأسماء أخرى كثيرة خطت اسمها في عالم الاحتراف، ما أعطى البرنامج شكلًا جديًا لدى جمهور اندفع فجأة، وبحماسٍ شديد، نحو قضية جديدة لا حرب فيها ولا ضحايا، إذا ما استثنينا ضحايا شركات الاتصالات عقب كل عملية تصويت كانت تنتهي، كالعادة، بخيبة أمل وخسارة كبيرة في الرصيد.

جمهور واحد إذًا، يتربع أمام شاشة واحدة، ويصوت لصالح رابح واحد. سرعان ما تكدست اللائحة بعد ذلك، فبدأت فورة استهلاك البرامج الأجنبية حين استحدثت النسخ العربية من مسابقات الهواة على نسق "Star Academy"، "The X Factor"، و"Arabs Got Talent". وقد رافق ذلك توسع رقعة القنوات الفضائية، اللبنانية منها والعربية، فاستحوذت كلا منها على برنامج معين، لرفع معدلات المشاهدة أو ما يعرف بالـ"Ratings". والمصطلح الأخير ليس إلا السبب الرئيسي في استمرار عرض برنامج كـ"صوتك شغلة"، الذي يتنقل ما بين تقديمه وممارسة مهنة التحكيم فيه فنان موهوب جدًا، عرض في آخر فيديو كليب له تفاصيل ولادة زوجته، كنوع من "الساسبنس"، ربما. خلال تلك الفترة، أي في الفترة ما بين عامي 2009 - 2013، انقسم الجمهور الواحد ما بين توالي المواسم الجديدة لبرامج مستمرة من جهة، وبين ولادة أخرى جديدة مماثلة لها، ما اضطر شركات الانتاج التلفزيونية البحث عن طرق جديدة لرفع منسوب الـ"Ratings".

الحل الأول كان بديهيًا، ويستدعي فقط البحث عن فنانات بجماهيرية شاكيرا وجينيفير لوبيز، وفنانين بوسامة آدم لافين وقسوة سايمون كاول، والهدف، إلى جانب حصد إعجاب الجماهير، ملأ 3 إلى 4 مقاعد شاغرة. هكذا إذًا، ظهرت إليسا ونجوى كرم ومن ثم تبعتهما كارول سماحة ونانسي عجرم. لمع نجم وائل كفوري في "ذي أكس فاكتور" بتسريحة الـ"سبايكي"، فتسمرت الفتيات مساء كل سبت ليشاهدنه يؤدي أغنية "ضاربة" من السي دي الجديد. وهذا الأمر، بحسب الرحباني أيضًا، يضع السوق الفني أمام "أسلوب تسويقي كريه باتت تعتمده إدارة المحطة لتحقيق نسبة مشاهدة عالية من جهة، وتسويق صورة الفنان، الذي يتعدى على من هم أجدى منه في التحكيم، من جهة أخرى".

الـ"كنتاكي" وإلا..

البدائل التسويقية الجديدة لن تكون أقل ضحالة وقد لا تقتصر فقط على الكنتاكي

عمليًا، حين يتحدث خبراء التسويق عن سياسة تسويقية ناجحة، يولون صناعة تصور ذهني إيجابي لمنتج ما لدى إدراك المستهلك الاهتمام الأكبر، وهذا ما بات يعرف بالـBranding. ذلك أن التصور الذهني الذي يكونه الجمهور عن المنتج، نتيجة عوامل عدة يخلقها المُعلن لتشكيل المزيج التسويقي المناسب والفعال، يعزز قدرة المنتَج التنافسية في السوق. وبما أن السوق الفني التنافسي أصبح لا يحتمل الأعداد الكبيرة من البرامج التلفزيونية المتماثلة من حيث المضمون، والتي تدرّ حكاماً يعتمدون على "الفانز" في مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من الدراسات التسويقية بأشواط وما عادوا قادرين على رفع منسوب الـ"Ratings"، أصبح من الضرورة على شركات الانتاج التلفزيونية البحث عن فنانين بإمكانهم خلق علامة فارقة في الوسط الفني، على أن ترتبط أسمائهم، في اللاوعي الجماهيري، باسم برنامج محدد متى تم استحضارها. وهذا ما يبرر لجوء مجموعة MBC إلى الفنانة أحلام، لكي تكون عضوًا في لجنة تحكيم "أراب آيدول". فالفنانة "الأولى في الخليج العربي"، كما تعرّف عن نفسها، والتي واظبت وزميلها في لجنة التحكيم راغب علامة على افتعال المشادات الكلامية بشكلٍ دوري، لتحميس الأجواء ربما، خطت لنفسها علامة كوميدية فارقة عن زملائها الذين شاركوها المهنة نفسها من على طاولة، شاءت الظروف ألا تكون مستديرة.

أحلام التي هددت، ممازحة، معدي البرنامج على الهواء مباشرةً بالاعتكاف عن التحكيم إن لم يحضروا لها وجبة "كنتاكي" في الحال، أصبحت رمز وأيقونة الكوميديا في أراب آيدول والسبب الرئيسي في ارتفاع منسوب الـ"Ratings". وفي هذا السياق، يشير الرحباني إلى أن الساحة الفنية التي تعج بالنجوم ما عادت بحاجة اليوم إلى مزيدٍ منهم، وتاليًا، فإن الجمهور بات يبحث عن الترفيه والمرح عوضًا عن الموهبة. "فالضحالة التي طاولت مهنة التحيكم، والتي بات الجمهور يستهويها منتاسياً غاية البرنامج الأساسية، مستمرة بلا أي شك"، لحين ظهور بدائل تسويقية جديدة، على الأغلب، لن تكون أقل ضحالة وقد لا تقتصر فقط على "الكنتاكي". من يدري. قد يأت يوما نشاهد فيه نانسي عجرم تقذف بذور البطيخ، وأحلام تتناول البوب كورن، فيما تتناوب الفنانتان على إسداء النصائح لمتسابقين الرابح بينهم لن يذكره أحد فور انتهاء الموسم.