30-نوفمبر-2019

الناشطة البوسنة وإحدى أبناء الاغتصاب في حرب البوسنة، آينا جوسيتش (فيسبوك)

إعداد آينا جوسيتش، ترجمة وتقديم سفيان البالي

قبل أيام احتضنت ردهات الأمم المتحدة الناشطة البوسنية آينا جوسيتش، متحدثة باسم أبناء مغتصبات الحرب. كان ذلك ضمن فعاليات اليوم العالمي لمكافحة العنف ضد المرأة، في 25 تشرين الثاني/نوفمبر.

قبل نحو شهر، وأثناء الإعداد لمادة صحفية عن أبناء اغتصاب حرب البوسنة، نشرت بعنوان "نُطف الكراهية"، تصادف أن تعرفت لأول مرة على اسم آينا جوسيتش، كونها كانت ضمن فريق فني قدم مسرحية "باسم الأب" تهدف للتعريف بهؤلاء الضحايا المنسيين.

آينا جوسيتش: لـ15 سنة ناضلت أمي لتخفي حقيقة أنني ابنة اغتصابها في حرب البوسنة. وبالصدفة اكتشفت هويتي الخاصة!

آينا جوسيتش ليست فقط مشاركة في العرض المسرحي، بل هي من أبرز ضحايا اغتصاب حرب البوسنة، كونها أول طفلة سُجلت من الاغتصاب أثناء حرب البوسنة في التسعينات. وهي الآن ناشطة ورئيسة جمعية "مواليد جرائم الاغتصاب أثناء حرب البوسنة".

اقرأ/ي أيضًا: نُطف الكراهية.. مأساة مستمرة لضحايا الاغتصاب في حرب البوسنة

اطلعت جوستيش على تقرير "نُطف الكراهية"، التي تقول إنها تقاطعت مع نشاطها ونضالها للتعريف بقضية آلاف الأطفال الذين ولدوا عن الاغتصاب، وتركوا طي النسيان، في واقع لم يعترف بهم فضلًا عن أن يرحمهم، كما لم يرحم ما بين 20 إلى 50 ألف امرأة غتصبت أثناء الحرب.

وبعد أن أتمت قراءة المادة، أرسلت آينا تقول: "لقد فكرتُ مليًّا في نشر قصتي كاملة. مقالتك أيقظت في هذا العزم، ولأول مرة سأحكي ما تكتمت عنه طويلًا"، ثم أرسلت مقالًا حصريًا لـ"الترا صوت" يروي قصتها كاملة، نموذجًا لغيرها من الضحايا أبناء الضحايا، هنا ترجمته الوافية:  


يحدث عادةً، كلما هممت بالكتابة، أن أتأمّل طويلًا أهمية أن يترك المرء دليلًا مكتوبًا على وجوده. دليلًا على كل الصراعات التي خاضها طوال هذا الوجود. اليوم، وأنا أخط هذه الكلمات، على وعي تام بأنني هنا، في عالم حيث وجب عليّ أن أكافح بنفسي لنفسي، من أجل وجودي ومن أجل سحر المساواة. 

عليّ أن أكافح وحيدة لأنني وحيدة، لأنني منسيّة. هذا النسيان الذي احتشدت داخله كل الأنفس التي تشاركني مصائرها نفس المصير. ليس يقينًا، ليس امتنانًا ولا حقدًا. هو إيمانُ الأطفال نتاج الاغتصاب خلال الحرب.

آينا جوسيتش
جوسيتش متحدثة في الأمم المتحدة

أهلًا، اسمي آينا جوسيتش، عمري 26 سنة، خريجة دراسات جامعية في علم النفس. أخذ مني الأمر وقتًا أطول من اللازم كي أتحصل على شهادتي، لكن لا يهم مادام هنالك النزر القليل من المعرفة. أعيش وأعمل بسراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، البلد الذي صنع الحدث في ماضي.

قبل 25 سنة، حُكم على أمي أن تعيش مصيرًا لا تحسد عليه: اغتصاب أثناء الحرب، نتج عنه حمل، الحمل الذي هو أنا. ولسنوات طويلة بعدها، ولا زالت، محكومة بعيش المأساة وهي تتكرر في مجتمع يلومها على الاستمرار في الحياة بعد ما وقع، يرى فيها وصمة عار عليه ويلقي الذنب عليها. غير مستعد هو لتقبل ضحايا سنوات الحرب الدامية من المغتصبات، يرفضهن وإن كن أمهات، أخوات، زوجات، قريبات أو صديقات.

في مرَّات عديدة، ينتابني حنق تجاه هذا المجتمع وأتساءل: لماذا رفضوا أمي؟ لماذا تركوها وحيدة؟ رغم ذلك، وفي نظري، حقيقة الأمر مخالفة لما هو ظاهري. والبحث عن ملام في القضية، كفرد (الضحية)، يعيدنا إلى ذلك الخطأ المنهجي الذي خلف المأساة من أصلها ومسؤوليته تقع على عاتق أنظمة الحكم في البلاد.

بعد الحرب مباشرة، سادت سحابة الصدمة السوداء على الأرض. والرجال والنساء الذين حفرت على أجسادهم وأرواحهم فواجعها تُركوا لجولة أخرى من صراع ذاتي محموم من أجل البقاء. وفي وهدة لملمة الجراح تلك، كان الرقم المهول: حرب البوسنة والهرسك ورثت 50 ألف امرأة وفتاة ورجل مغتصب ومغتصبة! 

ولم يكن هناك أدنى اعتراف أو جبر ضرر. تُرك كل شيء للأرقام، كما ترك العار يعمق جراحه في حياة الضحايا. والبقية، لقلق أمة بأسرها، عاد يغذي التمييز والتفرقة، لأنها وفقط لأنها لم تتح لها فرصة تعلم كيفية تقبل الآخر.

كل ما ذكر فوق جعل حقيقة وجودي خفية عني لمدة طويلة. ولـ15 سنة ناضلت أمي لتخفي هذه الحقيقة. وفيما كنتُ منشغلة، كأي شابة في عمري، في التفكير في دراسة المستقبل أوهل أعزف على الجيتار أو ألعب الكرة في وقت الفراغ، اكتشفت ما لم يكن في الحسبان: اكتشفت هويتي الخاصة، مصادفة!

قصة هذا الاكتشاف بدأت عندما أُجبرت على ترك مسقط رأسي ومعه والداي، والانتقال للعمل بمدينة زينيتسا، لأول وهلة كان ترك العائلة أمرًا صعبًا عليّ. لكن اعتبرت نفسي محظوظة بهذه التجربة. حياتي الجديدة كانت طبيعية إلى أن أتت اللحظة التي فشلت فيها، في الإجابة عن أبسط. لكن في حالتي أصعب، الأسئلة: "آينا، ما اسم والدك؟". وقتها علمتُ أنني أتيت إلى الوجود عن طريق أبشع الجرائم التي ارتكبت في حق جسد إنسان، نتاجًا لأقسى تجربة مرت بها والدتي.

في الليالي، كانت أنغام القيثارة التي لطالما عشقتها تتحول في مخيلتي لصرخات أمي المبحوحة وهي تستباح. كنت أسمع آلامها في تلك الليالي المدبوغة بسواد الخوف. خوف من أن أمي لا تحبني، ما دمت تذكارًا لأكثر آلامها بشاعة. وتوالت الأيام، ومع تواليها زادت حياتي ظلمة، لم أكن أعرف من أنا أو أين أنا، والأسئلة الجارحة ترن في ذهني:" لما أنا؟ لما أمي؟".

وأخيرًا أتت اللحظة التي امتلكت فيها القوة لأفاتح والدتي في الموضوع، اللحظة التي مثلت نقطة تحول في حياتنا. أيقنت فيها أنني كنت على خطأ، وأن أمي لطالما أحبتني ورأت في ولادتي أجمل حدث في حياتها. وهي كذلك، تيقنت من أنني سأظل دائمًا إلى جانبها، وأنني لن أقسو عليها ولن ألومها. وتعاهدنا أن نستمر في الكفاح من أجل جعل حياتنا صحية، أكثر سعادة وبطولية. وأمي هي بطلة هذه الحياة.

اليوم، وآمل بهذا أن أكون على الطريق الصحيح، أشتغل بمعيَّة أصدقائي، أطفال مغتصبات الحرب البوسنية وأبناء قوات حفظ السلام، لمساعدت منهم بنفس وضعيتنا في بناء مستقبل زاهر نشتركه. لا فقط على مستوى بلدي البوسنة، بل لكل أطفال الحرب في العالم. ولهذا الغرض أسسنا جمعيتنا، جمعية الأطفال منسيي الحرب، أول جمعية تضم هذا العدد من الأطفال والأمهات اللاتي عانين الاغتصاب في الحرب، والأولى كذلك في النضال من أجل قانون دولي موحد يضمن حقوق هؤلاء الأطفال.

لقد قضينا سنوات في انتظار أن يُلتفت إلينا. ونتساءل: لماذا تعاني أمهاتنا إلى اليوم من جور النظام وقهر المجتمع؟ علمًا بأنهن لا يستحقن بما قاسينه. مضت سنوات ونحن وإياهن نتطلع إلى اعتراف غائب يخلصنا من الألم ويجعل يجعل الحياة، على الأقل، يسيرة بعض الشيء.

لأن ما مررن به ليس هينًا! أمي كانت من مدخولها الضعيف جدًا، تزور على كل عيادات الدعم النفسي، وتتعطى كل أنواع الحبوب المهدئة، هذا إضافة إلى مصاريف رعايتي، طارقة عددًا لا يحصى من الأبواب، ومستجدية وسائلة إذا ما هنالك جهة حكومية تعترف بطفلتها، وفي كل مرة كانت مساعيها تخيب. 

طفلتها التي حرمت من حقوقها الأساسية، حرمت من أن تعرف أصلها وهويتها، حرمت من أن تعرف أو تكون لها روابط عائلية، واستكثرت عليها معاملة على قدم المساواة مع باقي أبناء شهداء الحرب وقتلاها.

مسرحية "باسم الأب"
مشهد من العرض المسرحي "باسم الأب" للتعريف بقضية أبناء الاغتصاب في حرب البوسنة

 أنا طفلتها، التي تعرف أنه لا ذنب لأمها فيما حصل، وأتساءل لماذا لم تمنح أمي أي تقدير أو اعتراف. أنا طفلتها التي ولدت عن اغتصاب أثناء الحرب، أنا طفلتها المنسية.

أنا آينا جوسيتش، امرأة، ابنة وناشطة حقوقية، شابة أؤمن بمجتمع قائم على المساواة بين أفراده، مجتمع يحارب من أجل محو كل الفوارق المفروضة بنيويًا والمبتدعة اجتماعيًا. عمري 26 سنة الآن، وعلى استعداد أن أستثمر مثله 50 مرة في النضال من أجل مستقبل أكثر عدلًا لأطفال مغتصبات الحرب.

وأنا أخط هذه السطور أفكر في الأطفال من بلدان أخرى، من حروب أخرى، الذين أعرف بعضهم وجلّهم يعرف نفس مصيري. الآن في الشرق الأوسط، كما في أفريقيا وأوروبا وآسيا. من أجلهم أناضل كي لا تتجدد المآسي، وألا يمروا بنفس الجحيم الذي مررتُ به: بنفس العنف، الصراع الداخلي، الصراع مع أمي، مع حكومة غير عادلة ومجتمع مرعوب ومتطلب. 

أنا أناضل من أجل أن يتحقق لهم أفق المطالبة بحقوقهم دون خوف، من أن يرتادوا المدارس دون تنمر، وأن يمشوا في الشوارع دون طأطأة رؤوسهم خجلًا من ما هم عليه، وألا يعيشوا حالة الضياع أو يجهلوا أسماء آبائهم لأن أمهاتهم مروا بتجربة قاسية.

آينا جوسيتش: أناضل الآن للتوعية للوقاية من مترتبات الحرب، ولدعم النساء المغتصبات وأطفالهن كي لا يواجهوا نفس مصيري

أعلم أنه لا يمكنني إيقاف حدوث حرب، لكنني متأكدة بنجاعة التوعية للوقاية من مترتباتها، لإحياء روح التكافل والتعاون الاجتماعي بعد الجروح التي تحدثها، لدعم النساء المغتصبات سواء في الحرب أو السلم. من أجل هذا أناضل، و سأظل أناضل وأناضل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بعد عقدين من مذبحة سربرنيتشا.. وكأن شيئًا لم يكن!

ما تقوله معسكرات الاعتقال في البوسنة عن القمع الأمريكي للاجئين