22-مايو-2021

مقطع من لوحة لـ ستيف سابيلا/ فلسطين

يكتب الشعراء قصائدهم من غبار الحرب والقتل والعنف وشتات الناس. حبرهم بقايا البنيان المحطم. يبدعون في وصف ما يحدث من زاوية لا تسمح لنا الشاشات وعناوين الصحف أن نعاينه، حيث وعلى هذا فإنهم يقولون لنا ما الذي جرى داخل الإنسان، في اعماقه السحيقة، حين وقف في فم الموت.

هنا قصائد من غزة. غزة الصبر، غزة التحدي، غزة الألم والمأساة، غزة الكرامة. قصائد نقرأها عبر الحرب التي تجعل "الجسد أيضًا يطالب بهدنة لينام"، وعن هذه المدينة التي "تقدم القرابين للرب"، ولكن يبقى الحب متراس الحياة الأكثر أمانًا.


نجوى شمعون: في الحرب لا حيلة لنا

 

في الحرب لا حيلة لنا

ككل حرب

نتجادل مع أجسادنا الهشة

من وقع الصوت

تهتز الذاكرة

وتتلاعب بالحنين

 

هذه الحرب

وضعت زهرة في شعري

ثم سقيتها

من نبع القلب

القلب أيضًا يتقن الوقوف بترسانة الحب

 

ذاكرة للجسد

القصف يشتد

وجع أسفل النسيان

في الركبة الناعمة في قسوتها

الجسد يتذكر رائحة النار والفسفور

يتمايل

في اللحم الطري

أنياب تكبر

أنياب تطحن اللحم

الماء يتذكر

بلل الدم في كأس العزلة

مُحاصرًا بظن القطيع

وبأيدي الندم

 

أورثنا الحجر دهشة الصرخة

على حاجز من اللحم

أسلاك

ما بيننا وبيننا.

 

على طاولة العشاء

أصابع تنقر ريشها

لتطير

مخلفا ندبة في ثوب الحسد

تتسع كنهر

تضيق كالجبال علينا

ضحكات من قلق.

سلال فارغة من الورد

أشتهي الحب في يديك

زاد للطريق

وأنت تحدق كلك في شفاه ضحكتي.

الشهيق المنفعل في الفكرة

الضحكة العامرة بالكركرة

صهيل الحنين فيها كلما

اهتز الجسد عن رقصة

اهتز الفراغ فيها عن حرب جديدة

تحاصرها في الربكة الوحيدة على إصبعها

حين ترفع أطراف نهارها ليبتل فستانها بضجيج الصمت

هنا وقعت الحرب

 

وحده الليل ينام دوننا-

 

ما يشغل البال في الحرب -

نجمة شاردة إلى أهلها.

 

قطة صغيرة تقفز

عيونها بين عينيك

هربًا من زلزلة الدفء في جسدها.

 

العصفور يُشبه المطر في انتحاره

ضاربًا زجاج النافذة

بجناحيه.

حين أرهقه صوت المدفعية في الحواس اللزجة

كتب الوصية.

في حفرة كبيرة -

تتسع للعالم بأكمله

تركوا الطريق وحده ينعم بالوحدة.

 

لا تنس الأوراق -

جوازات السفر

الهوية

الذكريات

قالت:

لكنه نسي قدميه المرتجفة تُربك درج الحكايات

في هروب دمه

لا حاجة للطبيب

لا حاجة للوداع

لم يجدوا منه غير طراوة اللحم في فم جائع.

 

مُشبعًا بالنعاس -

قلبه لا ينام.

 

أرق في الطبيعة -

في هرولة غيوم نحو الاصطفاف لفكرة ما.

 

الجسد أيضًا يطالب بهدنة لينام-

الأصابع -

ذات الأصابع التي تتمرن يوميًا

على الحياة

تنزلق في بكاء حاد.

 

وحدها الحرب تعرف واجباتها نحونا.

 

ناصر رباح: أول المتراس

في الحرب، تهتز البيوتُ كما النخيل ولا تنحني، ترمي بذاكرة السكون عن أبوابها، وترتدي زيها العسكري. ثقوب الرصاص على أكتافها نجوم، ودخانها زفرة التاريخ من أيام آدم. البيوت حدود، والبيوت أول المتراس وآخر ما لدينا من جنود.

*

 

إلى الطيار الذي يعود الآن إلى مدرج الموقع العسكري بعد قصف غزة: ربما تخلع الآن تلك الخوذة الثقيلة وتبتسم لمستقبلك، ربما يهنئونك بالعودة السالمة من المهمة الخطيرة جدًا، ولكنك الوحيد الذي يعرف حقيقة ما فعلته. عار عليك.. عار عليك.. يجب أن تضع التراب على رأسك، وأن تبصق على وجهك في المرآة. هل هذا كل ما تعلمته؟ أن تقاتل البيوت والأرصفة دون مضادات أرضية لطائرتك المجهزة للمناورة والكر والفر، دون اشتباك جوي مع طائرات أخرى؟ اخجل من نفسك وأنت تشاهد الآن على التلفاز صغارنا تحت الأنقاض يلوحون بإصبعي النصر في وجهك حتى وهم ميتون.

 

هاني الحنفي: يوميات شاعر لم ينهزم بعد

 

مما قالته لي أمي: حبيبي.. العب قريبًا من قلبِ الوطن

لا تلتهمكَ الحدود! أخشى عليكَ من الكلابِ والتجار والجنود

وأنت تكتب الفصل الأخير من اسطورة الصمود

وأنت تكتب بالدم الدافئ إشكاليةً أخرى لا تشبه شكل طقوس الوداع

وأنت يقظ والمصلون نيام تلتحف أنين المسافات ولا ترتجف

فتزهر ألف سنبلة وألف صلاة وألف لعنة

لا دعوات هنا للواجفين لا رجاء للخائبين

وألف لعنة لعورات بائسة تشبه وجوه المطبعين

عدوان مدهش كحرب خاطفة تخلخل حركات السكون وقد تزلزل كمكبرات صوت داخلي

هل تريد الحرب الحقيقة اسأل الشعراء هل فجرت القذائف العشوائية كلماتهم المترددة وتصاويرهم الباهتة؟

وهل بددت مخاوف قصائدهم الضائعة بحكم الزمن المتكرر كأسطورة ساطعة؟

دخان الشوارع يلتف على مشهدنا المحتوم بصمود لغتنا وتاريخ بطولاتنا النحيلة

صراخ المساء الصامت يداعب رجاء هدنة مشتعلة الرماد

ولوحات نطرز بها صدر بيت ضيافة العائدين

غزة تحيي أسطورة قديمة

تقدم القرابين للرب

لتدخل بهم جنة

عرضها السموات والقدس

 

عثمان حسين: يشبه صباحاتٍ لا تحصى

 

جالسةً كانتِ الحربُ،

ثم قامت خجولةً في أيامها الأولى

تخفي وجهها وأنفاسها.

أول القتلى سيحمل اسمًا ورقمًا

وربما لونَ حذائه ستذكره الطبولُ

سيكون محظوظًا، مُعَرّفًا بالشهيد.

ونمضي أرقامًا متضاربةً

بلا أسماءٍ أو حكايات.

قامتِ الحربُ كفتنةٍ ملعونةٍ

ولم تكن نائمةً كما تدّعي.

*

 

غدًا

سيباغتنا غدٌ لا يرحمُ

سيلقي في وجوهنا صباحًا عاديًا

يشبه صباحاتٍ لا تحصى

يتسلل كفقاعةٍ وينتفخُ راقصا في فضاءٍ حزين

أنظرُ حولي

إلى عجزيّ اللعين

أراه سيدًا رافعًا شارة الصبر

وأراني غاضبًا، مثقلًا بالجبن

أنا الغاضب الجبان

ودعائي عاجزٌ أيضًا

لذا

كل شيء يدعو الى الحزن

سأقضمُ من أول الظهيرة بعضًا من الوقت

وسألتهِمُ الفقاعة في يوم ما

فالبقاء يدعو إلى الحزن

والرحيل يدعو إلى الحزن

وسنحزنُ صامتين

شامتين في أحلامِنا وحزننا القديم

أرأيتَ؟

لنا حزنُنا الصفيقُ.

 

روان حسين: هذا الألم لي

 

ينهشني الوقت،

أغمس قدميّ الملطختين بالهرب

في أحشاء الأرض.

أركض نحو اللاشيء، 

لا أصل، لا أفهم.

عقارب الأيام تنظر إلى بتوجس،

تنتظر الانهيار الكبير.

ربما تُجنُّ الأسباب والمسببات، 

وترقص الأرقام إثر هذه السقطات المدوية.

ربما تحزن الأجنة كما الأمهات.

هذا الألم لي

وهذا الضياع لي.

تتقيأني الأيام تلفظني خارجًا، 

وأنا حاملة روحي على ظهري أجرها ببطء. 

وإن سقطت أسقط واقفة،

ملتهبة ممزقة كجنين أجهضته الأيام‏.

*

 

تكسّر الفجر فوق رؤوسنا

تحجمت النهايات،

وأقدام صغارنا تهرول

نحو السماء،

تنحى الوقت جانبًا

وأغمضت الأمكنة أعينها،

كطفل شابت الكلمات في مقلتيه.

تنهار الأسقف كشلال من الصخر

من تحت أنقاضها،

تبقى الصورة معلقة

على آخر ما رأينا:

لوحة الفزع الأخيرة

نحتت على وجوهنا.

وحدنا هذه الليلة نكبر،

نغزل الوقت ونرتديه،

نلتهم الرعب الذي يسيل

من أفواه صغارنا؛

من يلتهم أفواهنا

الصدئة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرّجاء وضع قناع واق من الغازات قبل الدّخول إلى "بلاد الثلاثاء"

كتاب "خرائطية المنفى".. في فن محمود درويش الشعري