31-يوليو-2022
موجات صوتية

موجات صوتية على خلفية سوداء

ما أن نغادر طفولتنا نحو البلوغ حتى تتغير طبقة الصوت الذي تطلقه حناجرنا، وتتغير معه الطريقة التي ننغّم بها هذه الطبقة. في هذه اللحظة من أعمارنا يصبح الصوت صدى للجسم أو ناطقًا باسمه. أصوات بعض من يبلغون توحي بجدية مفرطة، بعضها الآخر يوحي بطفولة لم تغادر، وبعضها يوحي بغنج مغو أو رقة عذبة. الأصوات تختلف، وطريقة نطق الكلمات تختلف أيضًا. لكن الصوت الذي نكتسبه، بالغين، هو الصوت الذي ينطق بلسان أجسامنا.

نحن على نحو من الأنحاء نكتفي بنبرة الصوت وطبقته لنتعرف على ماضي أجسام أمهاتنا، وشقيقاتنا وأشقائنا وآبائنا. وهذا ينطبق بدرجة مماثلة على أصدقائنا وأحبائنا

نحن على نحو من الأنحاء نكتفي بنبرة الصوت وطبقته لنتعرف على ماضي أجسام أمهاتنا، وشقيقاتنا وأشقائنا وآبائنا. وهذا ينطبق بدرجة مماثلة على أصدقائنا وأحبائنا. لكن الصوت المعبر عن الجسم في لحظة بلوغه، قد يتغير مع الوقت، تخفت نبرته، تهدأ سرعته، تنخفض طبقته، ذلك أن ما يريد هذا الصوت أن يقوله للسامع من اللحظة الأولى، يتعلق بكل المعاناة التي اختبرها، وكل الأوقات الأليفة التي عاشها، وأحيانًا كل النكسات التي أصابته وكسرت فيه ما كسرت، إلى الحد الذي جعل جسمه ناقصًا، أو غير مستعمل بكليته.

لكننا على الوجه الأعم نحتفظ بأصواتنا ونحن نراقب أجسامنا تتغير، وتدخل في حالة من حالات الصيانة التي تتكرر على مدى أعمارنا، والتي نادرًا ما ننجزها على أتم وجه. المرأة التي بلغت الخمسين، تنظر إلى جسمها بطريقة تختلف كثيرًا عن النظرة التي كانت تمنحه لها في الثلاثين والأربعين. لكن صوت المرأة في الخمسين يمكنه أن يستمر حيًا ونابضًا كما لو أنه ذاكرة جسمها. حتى أن من يتعرف عليها في لحظتها الخمسينية تلك، يمكنه أن يتعلم جسمها السابق من الاستماع إلى صوتها فقط. يمكنه أن يضيفه إلى ذاكرته، أن يحسن تخيله بطريقة تكاد تكون مطابقة لما كان عليه حقًا. الصور في هذا المقام ليست أصدق تعبيرًا وليست أقدر حتمًا، على تحفيز خيالنا مما يستطيعه الصوت. لكأن الصوت يخرج حقيقة من الأحشاء. تلك الأعضاء التي لا تغير في شكلها وطبيعتها السنوات، مواضع الجسم التي لا تكف عن كونها مؤسسة له. كما لو أن كل الجمال الخارجي لا يتعدى رسائل هذه الأحشاء إلى الآخر. كما لو أن العنق والصدر والنحر والخصر ليست في حقيقتها أكثر من رسائل الأحشاء إلى الناظر. والأرجح أن الصوت الذي يعبر عن الجسم بكليته لا يتأثر بالتغيرات التي تطرأ على الجسم بسبب التقدم في السن، فيستمر مرسلًا الرسائل التي أراد الجسم إرسالها وما زال يرسلها للآخر.

صورنا ليست حقيقة شكلنا. صورنا هي تمثيل لأجسادنا، مشهد في مسرحية سرعان ما ينتهي ما أن تختفي عدسة الكاميرا عن ناظرينا. وحده الصوت هو من يقولنا ومن ينجح في إرسال الرسائل الحقيقية للآخرين.

لهذا، وبسبب من هذا كله، نحن نستعين على فراق الأحبة بالبكاء، البكاء الذي يعيد أصواتنا إلى مرحلتها الطفولية. ذلك أن خروج الحبيب والمحب من دائرة حيواتنا يعني أننا فقدنا صوتنا الذي كنا نلخص له أجسامنا بنبرته، ونريد منه أن يمتلكه بكليته لا بتفاصيله المتغيرة.