06-ديسمبر-2019

آثار الدمار في ساحة الشهداء خلال الحرب الأهلية (Flickr)

يحكى أنه في مصر كان هناك شارع اسمه "العرص"، فقررت الحكومة المصرية تغيير اسمه إلى شارع أنور السادات. وحين بدأ الناس في تداول اسم الشارع الجديد، لم يعرفه كثيرون لارتباطهم بالاسم القديم، فكانوا يقولون للتعريف به "شارع أنور السادات، العرص سابقًا".

تحمل أسماء الساحات والشوارع في طياتها تاريخًا وطنيًا، وتعيش في ذاكرة المدن وناسها رغم محاولات الطمس

هذه القصة، وبصرف النظر عن مدى صحتها، لا تخلو من رمزية ودلالة تتعلق بالذاكرة وارتباطها بالأماكن والأشخاص والأحداث السياسية والاجتماعية، في مجتمع ما.

اقرأ/ي أيضًا: طرقات لبنان المغلقة ساحات انتفاض جديدة وتمرد على "مدينة" المنظومة

غالبًا ما يسكن تاريخ الشوارع والساحات في اسمها. وللتاريخ في لبنان حقبات عديدة، انطبعت في ذاكرة أهلها، فخلدوها في أسماء. وفي الحرب العالمية الأولى، أعدم جمال باشا الشهير بـ"السفاح" 13 لبنانيًا وسوريًا في الساحة التي بات اسمها ساحة الشهداء. ولمّا حاول الفرنسيون تغيير اسم الساحة الذي حُفر في نفوس اللبنانيين، فشلوا في ذلك. 

تاريخ وطني

تحمل أسماء الساحات والشوارع في طياتها تاريخًا وطنيًا، وتعيش في ذاكرة المدن وناسها رغم محاولات الطمس، كما في لبنان مثلًا، بالتسويق لصورة جديدة لبيروت خصوصًا، ومجمل البلاد عمومًا.

محاولات الطمس هذه تقوم عادة على أساس تفريغ الوجدان الوطني الجامع من مدلولات أسماء الأماكن. وتمثل هذه المساعي تحديًا أمام اللبنانيين للحفاظ على هوية جغرافيتهم، فالتاريخ يرويه الحجر أيضًا، كما البشر، بل ربما بموضوعية أكثر!

آثار الحرب الأهلية في لبنان
الحجر يروي آثار الحرب الأهلية التي لا تزال حاضرة

لكن تبقى مشكلة طبيعة الذاكرة، التي يتم محوها تدريجيًا، حيث يتم ترسيخ الذاكرة الحربية، بما لا يعطى أي أهمية للذاكرة الجماعية الوطنية الموحدة. فصور الزعماء في الشوارع، وأسمائهم وتماثيلهم، تملأ لبنان، في حين تفتقر البلاد للمشاريع الثقافية والفنية المتعلقة بالذاكرة.

استدعاء الحرب!

الكثير من شوارع وساحات لبنان تحمل أسماءً تعود ذكراها للحرب الأهلية، منها أسماء لزعماء الحرب الذين شاركوا في قتل الآلاف، لتخلد أسماؤهم وتنحت صورهم كأبطال! وفي الواقع، يعد إطلاق أسماء زعماء الحرب الأهلية على الساحات والشوارع، تكريسًا لأوهام الانتصار التي يروج لها كل طرف خاض الحرب، ونكران الاعتراف بالهزيمة الجمعية التي منيت بها البلد.

ليس ذلك فحسب، فهناك أماكن سميت بأسماء زعماء عرب، ساهموا بشكل أو بآخر في تأجيج الحرب، مثل صدام حسين وحافظ الأسد، وغيرهما. وهكذا، يضج كل مكان في لبنان بما يعيد للأذهان ذكرى الحرب الأهلية، أو بالأحرى، يوقف حركة التاريخ عند لحظة الحرب الأهلية، إيقاف تتجلى صوره في سياسة ما بعد الحرب، التي ينتفض عليها الآن اللبنانيون في الشوارع والساحات.

ومن أشهر المناطق التي شهدت معارك ساخنة ومجازر دموية خلال الحرب في لبنان: تلة أبو حسين أو تلة زاروت، شرحبيل، الفنادق، وادي أبو جميل، هوليداي إن، خط التماس في عين الرمانة والشياح، الدامور، تل الزعتر، النبعة، ضبيه، مجازر مخيم المسلخ، سوق الغرب، تلة تلات التمانات، تلة الرادار، شارع سوريا، باب التبانة، جبل محسن، ثكنة الشيخ عبدالله، مجزرة بريح، كفرمتى، إقليم التفاح، الطبية، المحور، بناية بركات، بيت بيروت، الصيفي، كلية الهندسة، صبرا وشاتيلا.

ويضاف إلى ذلك، الشعارات التي تثير النعرات الطائفية، والتي تقف الدولة أمامها مكتوفة الأيدي، دون قدرة على تجريمها من منطلق أنها تمس بالسلم الأهلي. لكن كيف، إذا كانت هذه الشعارات نفسها تعبر على الأساس البنيوي لهذه "الدولة"، أي مجموعة الحكم وأحزابها الذين تبقي هذه الشعارات سرديتهم أقوى من "الدولة"، أو هي نفسها تركيبة ما يسمى هنا بـ"الدولة".

وتحيل هذه الأسماء مباشرة للحرب الأهلية، حتى لدى أبناء الجيل الذي لم يعش الحرب الأهلية، وعاش نتائجها. فالذاكرة تنتقل من جيل إلى جيل، بالسرد وبمعايشة واقعها المرتحل. وفي لبنان يحكي الواقع الآن الكثير عن الحرب الأهلية، كما أن سردياتها جاهزة، معلبة ومنسقة، من قبل كل جماعة. ولكل سردية أخرى مقابلة لها على لسان جماعة أخرى؛ فشركاء السلطة الآن، كانوا آنذاك أطراف الحرب المتقاتلة.

كل جماعة تسرد تاريخ الحرب من منظورها، بينما تغيب السردية الرسمية التي تروي لبنان. وأمام هذا التعارض الحاد، ينعكس ذلك على تسميات الشوارع والساحات والمناطق، وكذا منحوتات الزعماء.

تمثال بيار الجميل في بكيفا بالبقاع الغربي

 ولا يكاد يفصل بين الشوارع المتحاربة قديمًا، سوى أمتار كما في خط التماس بين عين الرمانة/الشياح، أو حين نجد أن تمثال بشير الجميل في الأشرفية بمثابة رمز يقابله منطقة الخندق الغميق برمزيتها المعادية للجميل.

سرديات الحشد والتجييش

وليست القضية في وضع سردية موحدة، ومجاوزة للتفاصيل، عن الحرب الأهلية، إذ من حق الناس أن تخوض معرفةً في التفاصيل وكافة السرديات. 

لكن ما يحدث هو اعتماد هذه السرديات المتناقضة في معظم الأحيان، وسيلة للحشد والتجييش، ومجاوزة سلطان الدولة، أو بالأحرى ضربه بعرض الحائط؛ إلى سلطان الجماعة والطائفة، على إرث الحرب والاقتتال. والشوارع والساحات شاهدة!

إذًا، يمكن القول إنه من جهةٍ، تكرس أسماء المناطق والساحات والشوارع في لبنان، أسباب الحرب الأهلية، بالاستحضار المستمر للماضي، لا في صورته المجردة، وإنما في صوره المحمّلة بالانقسام والاحتراب.

تكرس أسماء المناطق والشوارع في لبنان أسباب الحرب الأهلية بالاستحضار المستمر للماضي في صوره المحملة بالانقسام

لا زالت الحرب الأهلية تفرض نفسها على واقع اللبنانيين بعد نحو 30 عامًا. وكل ما في لبنان ينضح بها، دون أفق للتصالح مع الماضي كمحطة عبور لمستقبل أسباب حربه، بدلًا من الانغماس فيه. ذلك، وأكثر بطبيعة الحال، قد يُفهمنا لماذا انتفض اللبنانيون هكذا، بهذه القوة، وهذا الغضب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إعادة اكتشاف وسط بيروت

أفواج الانتفاضة ضد فوج السلطة.. شوارع لبنان تعيد تعريف "الاستقلال"