18-أبريل-2023
Turkey flag peeling into the EU flag

للبحث التركي عن "البياض" تاريخ طويل ومعقّد (MidJourney)

هذا المقال ترجمة خضعت لبعض التصرّف لمقال الدكتور مراد إرغين، أستاذ علم الاجتماع في جامعة "كوتش" التركية، وصاحب كتاب "هل التركي إنسان أبيض: العرق والحداثة وتشكّل الهوية التركية" الصادر بالإنجليزية. نشر المقال على موقع مجلّة "أيون" البريطانية. 


يتردد صدى تفوق البيض، ضمن السياق الأمريكي، جنبًا إلى جنب مع التاريخ الطويل وذكريات العبودية وقوانين "جيم كرو"، وطفرة العنصرية الراهنة. بينما كانت فكرة البياض، في أنحاء أخرى من العالم، موضع نقاشات مختلفة كليًا، ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لجأ الحداثيون من إيران إلى أفغانستان ومن اليابان إلى تركيا، إلى علم الأعراق ذي المنشأ الغربي بغية تدعيم جهودهم لإثبات بياض شعوبهم في عيون الغرب، وبث الثقة اللازمة بشدة لشعوبهم في صراعاتهم المناهضة للكولونيالية، ودعم سعيهم نحو الحضارة بشهاداتٍ عنصرية.

لم تبذل أية جهود تصحيح فعلية لحملة العلوم العرقية التركية حتى تسعينيات القرن الماضي. 

وفي حين كان علم الأعراق يسعى لتصنيف العالم ضمن أعراق متفوقة في الغرب وأخرى أدنى منها في بقية العالم، فقد لجأ الحداثيون في شتى أنحاء العالم إلى هذه المبادئ العلمية بعينها بوصفها وصفة ذات تأثير وسطوة لشرعنة حملاتهم. في ذلك السياق، تبدو الحالة التركية حالة بالغة الأهمية ويجدر الوقوف عندها مليًّا، وذلك نظرًا لعظم حملة العرقيّة البيضاء وسطوتها في خطاب الدولة ونخبها في القرن العشرين. 

هل التركيّ أبيض؟

بدأت محكمة الاستئناف الأمريكية في مدينة سنسيناتي في أوهايو عام 1909، بالنظر في قضيّة رجل تركيّ مقيم هناك، وما "إذا كان يمكن له أن يحصل على الجنسة بوصفه شخصًا أبيض". غطت صحيفة نيويورك تايمز تلك القضية دون الإشارة إلى أن المدعي الذي رفعها كان تركيًا، وتساءلت التايمز: "هل التركي رجل أبيض؟" ثم أجابت بنعم ولا. "الأتراك الأصليون كانوا من العرق الأصفر أو المنغولي،" وأضافت التايمز بأنهم "متوحشون وقتلة .. لكنهم أوروبيون أيضًا، بقدر ما كان الهون والفنلديون والقوزاق كذلك." لقد ساهم التساؤل عما إذا كان العالم يعدّ الشعب التركي أبيض أم لا، والردود المتشككة عليه، في المساعدة على حث جهود التحديث التركية، كما صاغت دعم الدولة لسرديات معينة عن الهوية الوطنية أيضًا، وبثها لعقود في مناهج التعليم.  

وبعد ما يقرب من عشرين عامًا، وتحديدًا عام 1928، وجد مصطفى كمال أتاتورك، المؤسس التحديثي العظيم للجمهورية التركية، وجد نفسه في مواجهة مسألة البياض. وذلك بعد أن أخذت عفت إينان، ابنة أتاتورك بالتبني، كتاب جغرافيا فرنسيًا وأعطته لوالدها وسألته عمّا إذا كان الأتراك من العرق الأصفر، كما جاء في الكتاب. وكان رده: "لا، لا يمكن أن يصحّ ذلك. دعينا نتولى العمل على هذه القضية بأنفسنا. ولتكن هذه هي مهمّتك أنت".

كانت إينان تبلغ من العمر عشرين عامًا فقط حينها، ومع ذلك، ومن خلال إسناد أبيها مهمة البحث عن الأصول التركية لها، فقد جعلها أتاتورك الرائدة الوطنية لفكرة "البياض التركي"، وبتأييد من الدولة نفسها. 

أتاتورك

فقد أوفدتها الحكومة التركية إلى جامعة جنيف في سويسرا للحصول على شهادة الدكتوراة في التاريخ وذلك تحت إشراف أوجين بيتار (1867-1962)، وهو أنثروبولوجي معروف، ولديه ميل للأتراك وقناعة بأنهم ينتمون لعرق أبيض. لاحقًا أعربت إينان عن ارتيابها بشأن ادعاء الكتاب الفرنسي القائل بأن الأتراك ينتمون إلى العرق الأصفر، وأن ارتيابها ذلك نابعٌ من مصدرين: 

بالاعتماد على الصور والمعلومات [الواردة في الكتاب]، كنت أنظر [إلى لون بشرة الناس] حولي ولاحظت أن [المعلومات التي جاءت في الكتاب] لا تتوافق مع الواقع.. كما اقتنيت في ذلك الوقت كتاب البروفيسور بيتار Les Races et l’Histoire, Paris 1924. ووجدت أن الأدلة الواردة فيه لا تتوافق مع ما في كتاب الجغرافيا هذا كذلك. 

شملت رسالة الدكتوراة التي قدمتها إينان في علم الاجتماع، التي اكتملت عام 1939، دراسة السمات الجسدية لـ 64.000 تركي، وقد وظفت بيانات دراستها للمحاججة بأن الأتراك كانوا من البيض. 

وبذلك بدأ البحث الحثيث عن البياض التركي الذي يترنح بين العلم والخيال العلمي، والتنقيب عن الجماجم والبحث عن الوثائق التاريخية وتحليل زُمر الدم ودراسة اللغات القديمة. وفي مرحلة ما، قادت الجهود المبذولة للتدليل على أن الأتراك هم مهد الحضارة العالمية، قادت بعض علماء الآثار الأتراك للبحث عن قارة ’مو‘ الأسطورية المغمورة. إذ كان يحدوهم الأمل بأن تبرهن ’مو‘ عما يعتقدون بأنه الأصول التركية لحضارة المايا. لقد أراد العلماء الأتراك من شتى التخصصات- التاريخ والأنثروبوجيا وعلم الآثار- أن يبينوا أن الغرب (والعالم بأسره) يدين بحضارته للأتراك القدماء، وكان لا بدّ من بذل ما يلزم لإقناع الأتراك أنفسهم ومن بعدهم والشعوب الغربية بذلك. 

لقد قررت تركيا التصدي للتحيّزات الغربيّة في ميدان التعليم، ومن أجل ذلك عمدت إلى إصلاح نظامها التعليمي الوطني مستخدمة ذات السلاح الذي يستخدمه الغرب، أي العلم التجريبي.وهكذا تمت دعوة باحثين غربيين لتركيا، كما ابتعثت الحكومة آنذاك طلابًا للدراسة في جامعات غربية رائدة، غالبيتها أوروبية، وقد اعتقد رعاة التحديث في تركيا أن استيراد العلم والحداثة من الغرب هو في حقيقة الأمر ليس إلا استعادة لما كان تركيًا في الأصل.

برز الجدل حول البياض التركي أيضًا في القرن التاسع عشر، فبعد عام 1839، المؤذن ببداية العمل بالفرمان السلطاني لتحديث الإمبراطورية العثمانية، روّج المفكرون القوميون في الإمبراطورية لحملات التفوق الأبيض على نطاقٍ أصغر. إذ حكم العثمانيون فئاتٍ كثيرة من السكان غير الأتراك وغير المسلمين، خاصةً في أوروبا الشرقية، وحتى مطلع القرن العشرين، كان غير المسلمين يشكلون نصف عدد سكان إسطنبول، عاصمة الإمبراطورية، وفي مجتمع متباين كهذا، لم تظهر فكرة الهوية التركية بصفتها هوية مشتركة إلا في القرن الثامن عشر، وقد كان ذلك جزئيًا بمثابة ردٍ على التأكيدات الجديدة للقوميات اليونانية والبلغارية والعربية التي ظهرت في أجزاءٍ من الإمبراطورية العثمانية. 

استُمدت الاستجابة العثمانية، التي اتسمت بالتمركز حول الهوية التركية، على نحو كبير من الخارج، وبالتحديد من المستشرقين الأوروبيين، إذ ادعى أحد هؤلاء، وهو الكاتب الفرنسي ليون كاهون (1841-1900)، في محاضرته المعنونة بـ ’حياة الشعب التركي وهجراته ما قبل التاريخ‘ (‘Life and Prehistoric Migrations of the People called Turks’) (1873) أن الأتراك أوروبيون أصليون. وبعد عامين فقط من التساؤل الذي طرحته إينان، أي عام 1930، نشر دعاة التحديث الأتراك ترجمة تركية لمحاضرة كاهون، وكتبت إينان المقدمة التي ورد فيها أن "الأتراك هم أساس الحضارات القديمة".  

دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب حليفتها ألمانيا، وأدت الهزيمة إلى سقوط الدولة العثمانية، فقامت الجمهورية التركية. وبحلول ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ الإصلاحيون الأتراك بالتشديد على الحاجة لتحول ثقافي عميق، ففي أوروبا وأمريكا كان لصورة "التركي الفظيع" (Terrible Turk) حضورًا شعبيًا حقيقيًا. فقد كتب تشيستر توبن الأمريكي الذي تولى مهمة تدريب الفريق الأولمبي التركي عام 1924، في مذكراته: ’انطبعت الصورة النمطية الأوروبية عن "التركي الفظيع" بحدة في أذهان الأمريكيين بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك شكلًا من أشكال الخسة البشرية.‘ مثلت صورة ’التركي الفظيع‘ إرثًا من تعامل الحكومة العثمانية مع الأقليات من غير المسلمين ومطالباتهم القومية، كما أنها مستمدة من الصراع العرقي الوحشي بين الأتراك المسلمين والسكان غير المسلمين خلال السنوات العنيفة الأولى للحرب العالمية الأولى. 

أصوات من تحت الركام

 اتجه الأمريكيون والأوروبيون إلى فهم الاختلافات بين البشر والمجتمعات من منظور عنصري، إذ لطالما ارتبطت المقومات الحضارية والعرقية معًا في أذهانهم، ارتباطًا لا انفصام له، ولذلك عكفت النخب التركية على التدليل على أوروبية الأتراك أو بياضهم العرقي، إذ رأوا في ذلك وسيلة لتحقيق غايتهم، وسبيلًا لإضفاء الشرعية على أهدافهم الإصلاحية: المتمثلة بإقامة دولة ذات تجانس عرقي، وتغريبها من خلال التحول الثقافي، والإصرار على ادّعاء نسب أصليّ بالحضارة الغربية وأنهم ورثتها الشرعيون.  

وكما هو الحال في عدة دول، فقد ساعد علم تحسين النسل (اليوجينيا) في تشكيل القومية التركية. واليوجينيا هي مبحث يدخل فيما يمكن وصفه "أشباه العلوم"، أي أنه مبحث يتستّر بالمنهجية العلمية ويدعو من خلال التلاعب بالتطور البشري إلى تشجيع تكاثر الأجناس التي تعتبر "متفوّقة" وكبح نمو الأعراق التي تعتبر هي "الأدنى" في جوهرها. وقد وصلت هذه الحركة ومخرجاتها إلى الذروة الوخيمة المعروفة خلال فترة الحكم النازي في ألمانيا كما هو معلوم.

تحسين النسل في تركيا

وبالاتكاء على هذا العلم الزائف، رغب بعض العلماء الأتراك بالترويج بوجود حضارة تركية قديمة وبناء ذلك على أسس علمية مفترضة لبيولوجيا تحسين النسل. لكن مبادئ اليوجينيا الغربية التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين حصرت التفوق الأبيض بالأوروبيين، ووضعت الأتراك في مرتبة أقل ضمن الأعراق الدنيا، وهو ما سعى القوميون الأتراك جاهدين لتغييره من خلال البحث العلمي. 

تعاظم حضور فكرة تحسين النسل في أمريكا الشمالية وأوروبا، ووجد منافحين عنه وممارسين له بين باحثين أتراك، كان سعدي إيرماك (1904-90) أبرزهم. فبعد أن تلقى تعليمه في الطب والبيولوجيا في برلين، شرع إيرماك بالترويج لعلم تحسين النسل حين أصبح أستاذًا لعلم وظائف الأعضاء في جامعة إسطنبول عام 1933. وعلى النقيض من حالة الأكاديمي المتقوقع على ذاته وغير المنخرط في الشأن العام، استخدم إيرماك وسائل الإعلام السائدة كالمقالات الصحفية والمحاضرات العامة والكتب، لنشر المعرفة حول علم تحسين النسل. لم يخفِ إيرماك البتة افتتانه بسياسات التعقيم والإبادة النازية، بل نظر إلى الهولوكوست بوصفه امتدادًا لحكومة عقلانية تتصدى للتخليط العرقي، كما شغل منصب رئيس وزراء تركيا، في السبعينيات، لفترة وجيزة. وكذا حاول علماء أتراك آخرون في تحسين النسل إشاعة هذه الأفكار، إذ نشرت الصحف مقالاتٍ بعناوين مستقاة من علم تحسين النسل مثل "هل يتوجب تعقيم المجانين وضعاف العقول والمرضى؟"

ذهب البحث التركي عن البياض العرقي لأبعاد مدهشة واتخذ منعطفاتٍ خلاقة بالفعل، إذ تم حشد مجموعة كبيرة من الجهود في مختلف المجالات، مثل الآثار والأنثروبولوجيا والتاريخ والطب والجغرافيا، واستمر السعي الحثيث من أجل "اكتشاف" الجوهر القديم المنشود للبياض في التاريخ التركي. لكنّ الحملة أخذت منحى جديدًا آخر في عام 1932، وذلك في أول مؤتمر للتاريخ في إسطنبول، والذي يعدّ أهم نقطة تحول في هذا الصعيد. 

عفت عنان
عفت إينان، ابنة أتاتورك بالتبني، متحدثة في مؤتمر التاريخ 1937. (Aeon)

كان معلمو المدارس الثانوية وكذلك أساتذة دار الفنون ووالي الجامعة الإمبراطورية، من ضمن الحاضرين في ذلك المؤتمر الحاشد، إضافةً إلى بعض أعضاء البرلمان، الذين حظوا بفرصة الاطلاع على نظرة عامة على بعض الأفكار الجوهرية المرتقبة للإصلاح الأتاتوركي الشامل للجامعة والتعليم العالي في البلاد، وحشد الدعم في النظام التعليمي لحملة البحث عن عن البياض التركي والبرهنة عليه، وهو ما اقتضى إقالة عددٍ كبير من الأساتذة وتعيين علماء ألمان هاربين من الاضطهاد النازي.

أورد وزير التعليم، في كلمته الافتتاحية، هدفين للمؤتمر: هما التعرف على جذور الحضارة التركية وتصحيح الادعاءات الغربية الكاذبة عن الأتراك. وقدم ادعاءً عامًا يتعلق بتأثير الأتراك في تاريخ حضارات العالم، إذ قال: 

"لقد أسس الأتراك جوهر الحضارتين الصينية والهندية في آسيا، وحضارة الحثيين في الأناضول أرضهم المباركة، والحضارات السومرية والعيلامية في بلاد ما بين الرافدين وأخيرًا الحضارات المصرية والمتوسطية والرومانية. لقد أنقذت أوروبا، التي نجل حضارتها السامية ونتبعها في يومنا هذا، من حياة الكهوف حينها."

ثم جاءت كلمة عفت إينان، المؤكدة على البياض التركي، فقالت: "إن الخاصية الجلية لهذا العرق الآسيوي المركزي تتمثل في قِصَر الرأس. إن تكوينه الجسدي متناسق، رغم كل الأساطير المُختلقة، وبشرته لا صلة لها باللون الأصفر؛ فهي بيضاء بالدرجة الأولى عامةً."

كما تعهدت إينان بتوظيف أحدث العلوم الغربية لإظهار نقاء العرق التركي، وإسقاط هذه الأساطير المختلقة عن آسيوية الأتراك.

بدت هيمنة إينان جلية على الحملة القومية التركية للبياض في ذلك المؤتمر، فقد كانت تبلغ حينها 24 عامًا ولا تمتلك أي شهاداتٍ بصفتها عالمة. ورغم حداثة سنها وافتقارها للمؤهلات الأكاديمية، فقد تصدت لقمع كل من يخالفها. وفي هذا السياق يذكر أن أستاذين جامعيين قد قدما نقدًا معتبرًا للأساس التجريبي لنظرية البياض التركي الجديدة، إلا أن إينان تولّت قمعهما وتحييدهما. كان هذان المخالفان هما محمد فؤاد كوبريللي (1890-1966) وزكي وليدي طوقان (1890-1970)، وكان كلاهما أستاذًا للتاريخ. تمثل اعتراضهما الأساسي بأن ادعاءات حملة البياض تفتقر بوضوح إلى الأدلة القاطعة، إذ قالا إن العلماء بحاجة للمزيد من الأدلة للبرهنة على بعض الادعاءات التي سعى المؤتمر إلى تقديمها. إلا أن اعتراضات كوبريللي، التي صدرت عن عالم دراسٍ للتاريخ العثماني مستخدمًا تحليلاً دقيقًا للمواد الأرشفية، لم تمرّ بسلامة، وسيكون لها عواقبها، إذ تداعت محاولات التعتيم عليها ودحضها، وانتهى به الأمر معتذرًا على الملأ عمّا بدر منه من تشكيك بالحملة. 

لقد كانت إينان حينها أول من تصدّى لهذا الانتقاد رغم وجاهته، إذ أجبرت كوبريللي بسطوتها السياسية على الصعود إلى المنصّة أمام الحضور، ليشير إلى أن ثمة سوء فهم قد وقع، وأن كلامه لم يؤخذ على المقصد المطلوب. وأمام انزعاج إينان، تصدّى باحثون آخرون للتسخيف من انتقادات الرجل، وصعد إلى المنصّة ليدحض تحفظ كوبريللي على الحملة، وأمام هذه الحالة بدأ الجمهور بالتصفيق بإذلال عالم التاريخ، وهو ما اضطره للاعتذار مرةً أخرى. 

أما زكي طوقان فقد كان ثاني الناقدين للأساس العلمي للحملة. لقد كان طوقان مؤرخًا وشخصية بارزة في النخبة القومية التركية، وقد انتقد الأفكار التي قدمها المؤرخ رشيد غالب بدراسة عنوانها  "نظرة عامة على تاريخ العرق التركي وحضارته". هنا أيضًا نجد أن نقد طوقان قد التفت إلى غياب الأدلة المدعمة للتعميمات الواسعة عن وجود حضارة تركية متقدمة في عصور ما قبل التاريخ. لكن نقد رشيد غالب لن يمر بلا ثمن، وهو من هو في منصبه ونفوذه، إذ كان مرشحًا لمنصب وزير التعليم في تركيا عام 1933. وهكذا، اختبر طوقان هو الآخر مرارة الإذلال العلني في المؤتمر التركي الأول للتاريخ، حيث قدم غالب دحضًا مطولاً لادعاءات طوقان، خلُص في نهايته إلى تحدي طوقان شخصيًا، فقال: "أصدقائي الأعزاء، أنا ممتن جدًا لعدم كوني طالبًا يجلس في محاضرة لزكي طوقان في الجامعة". على إثر ذلك استقال طوقان من منصبه، وخفتت جميع الانتقادات لحملة إينان وبطانتها من العلماء. 

قدم غالب، في عرضه، دليلاً اعتباطيًا تمثل في الاعتماد على الحضور في المؤتمر أنفسهم، إذ إنه بعد انتقاده للعلماء الغربيين لإدراجهم الأتراك ضمن العرق الأصفر، طلب من الحاضرين أن يُنحوا الحديث العلمي جانبًا وأن يتبادلوا النظر إلى بعضهم البعض، وقال: "لدحض النظرية التصنيفية المعمول بها في هذا العمل بما لا يدع مجالاً للشك، يكفي أن يتبادل الحاضرون بصفتهم جزءًا من العرق التركي النظر إلى بعضهم البعض."  

هذه نبذة عن الأساليب "العلمية" المتبعة في حملة البياض التركية وإثباتها، والتي رغم ضعفها كتب لها حضور وانتشار على نطاق واسع بين النخب التركية، والتي شرعت منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وعلى مدى عقدين متتاليين، بتعريف السكان القرويين بعظمتهم من خلال حملات التعليم الشعبي ومحو الأمية. وكان الكتاب الأساسي الذي تعتمد عليك تلك الجهود هو "الموضوعات المركزية للتاريخ التركي" (1931)، والذي كانت إينان واحدة من المشاركين بتأليفه. لم يُنشر من هذا الكتاب الصغير، الذي وضع الحجج الأساسية وموضوعات التعليم العام في الدولة، سوى 100 نسخة، غير أنه عدّ بمثابة مسودة لتحديث التعليم التركي. يُستهل الكتاب بمهاجمة العلوم الغربية بسبب مفاهيمها الخاطئة عن الأتراك، وعينت هدفها الذي تمثل بـ"الكشف عن خبايا العبقرية والشخصية التركية، وإظهار خصوصية وقوة الأتراك للأتراك أنفسهم، وللتأكيد على أن تقدمنا القومي متصل بجذورٍ عرقية عميقة".

شرعت النخبة التركية من الحداثيين منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي بتعريف السكان القرويين بعظمتهم من خلال حملات التعليم الجماهيري ومحو الأمية من خلال كتيب وضع الحجج الأساسية وموضوعات التعليم العام في الدولة كلها.

يقدم كتاب "الموضوعات المركزية للتاريخ التركي" مجموعة من التأكيدات اللافتة والمتوهمة التي وجدت سبيلها إلى المناهج التعليمية، ورسخت نفسها بوصفها اعتقاداتٍ راسخة في أوساط المعلمين والعلماء الأتراك، وانطوت على ما يلي: 

  1. الأتراك هم العرق الأبيض الأصيل
  2. الأتراك ينحدرون من حضارة قديمة في آسيا الوسطى، وهي أقدم حضارة في العالم وأكثرها تقدمًا
  3. الأتراك نشروا الحضارة إلى بقية العالم حين هاجروا من آسيا الوسطى، موطنهم الأسطوري
  4. الأتراك القدماء حين التقوا بأعراق أخرى، استوعبوا هذه الأعراق وترَّكوها. 

مثّل هذا الادعاء الأخير تطورًا مثيرًا لقاعدة "القطرة الواحدة" العنصرية العجيبة في الولايات المتحدة، وعلى أساسها يكون أي ’دم‘ أسود أسودًا. أما في الحالة التركية، فإن الخليط العنصري لم يحط من قدر العرق ’المتفوق‘، بل رفع واستوعب الأعراق ’الأدنى‘، فقد تعلم الشعب التركي بأن مهد البياض والحضارة الغربيين كان في آسيا. في عام 1924، زار الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) تركيا بغية إعداد تقرير حول التعليم، وقال هازئًا: "إنه لمن المفارقة أنه ينبغي على قومية ما أن تبحث عن نفسها في آسيا لتضمن أنها ستعود أوروبية."

لم يرَ الحداثيون الأتراك أي مفارقة في التطلع شرقًا بحثًا عن دليل على الإنجازات والخصائص التي اعتقدوا أنها ستجعلهم بيضًا وأوروبيين، بيد أن هذه النخبة لم تبد الحماسة ذاتها تجاه الإسلام، إذ آثروا تحديد المنجزات الحضارية مثل الكتابة والصناعات التعدينية وحق النساء في التصويت وأمورٍ غيرها، والبحث عن جذورها التركية المزعومة. فنظروا إلى التحديث بوصفه سمة جامعة متأصلة في الهويات العرقية وتفضي إلى مجتمع متقدم ومتجانس، وبالرغم من ذلك، لم يكن للإسلام جاذبية لديهم، بل كان في مخيالهم قوة هدّامة للحضارة التركية، وهي لاحقة لها ومن خارجها. 

قلب الحداثيون الأتراك التصنيفات العرقية الغربية رأسًا على عقب، فقد أدركوا بمرحلة معينة أن علم الأعراق هو بنية من صنع بشري يخدم غاياتٍ سياسية، وبالرغم من ذلك، وظفوه هم أيضًا في محاولتهم لتأسيس أنفسهم بوصفهم صانعي الحضارة المتفوقين، وحظيت هذه الحملات والجهود التعليمية بسطوة رسمية لعقود في تركيا، امتدت حتى منتصف القرن العشرين على أقل تقدير، كما تركت أثرًا عميقًا في الهوية الجمعية للدولة.

لم تُبذل أية جهود تصحيح فعلية لهذه الحملة حتى تسعينيات القرن الماضي، إذ شهدت العقود القليلة الماضية عنايةً متزايدةً وحنينًا للتاريخ العثماني والإسلامي يتجلى في تركيا من خلال رواج الآثار الفنية والتجارب الثقافية ذات الصلة بالعثمانيين، كالخط والمطبخ العثمانيين والحمام التركي. واتخذت الدولة التركية أيضًا نهجًا مباينًا تمامًا لما كانت تتبعه في منتصف القرن العشرين فيما يتعلق بالبياض والتغريب، إذ احتضنت ماضيها العثماني وتبدت هذه التغييرات في سياستها الخارجية عبر بناء روابط قوية مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي على حساب التحالفات الوثيقة السابقة مع الغرب.