13-أبريل-2022
لوحة لـ قحطان الأمين/ العراق

لوحة لـ قحطان الأمين/ العراق

حين تطلق أم كلثوم العنان لحنجرتها، تدرك أنها حرة. لا تدرك ذلك فقط بل في وسعها أن تستعبدك. أنت أمامها كائن يسمع ولست كائنًا ناطقًا، جل ما يستطيعه المرء وهو يستمع إلى أم كلثوم أن يقول: الله. وهذا القول ليس خطابًا نتوسل به التخاطب مع آخرين، هذا إعلان خضوع تام. كما لو أن اللسان الذي لا يحير كلمة غير الآه، أو الله، هو لسان من ليس له مطالب. مكتف بتعبده حتى الثمالة. الأذن هي مدخل الأسياد إلى استعباد الآخر، الأذن وليست العين، لأن العين تقيس الأبعاد وتحاول اختبار سبل المقاومة أمام من نعتقد أنه أقوى منا. وعلى النحو نفسه، أو أقل قليلًا، يطربنا متحدثون في السياسة والفنون والأفكار، ولا نملك إلا أن نستسلم لسحرهم. لكن الاستسلام لسحر الغناء يبقى أقوى وأحكم.

حين تطلق أم كلثوم العنان لحنجرتها، تدرك أنها حرة. لا تدرك ذلك فقط بل في وسعها أن تستعبدك. أنت أمامها كائن يسمع ولست كائنًا ناطقًا، جل ما يستطيعه المرء وهو يستمع إلى أم كلثوم أن يقول: الله

يحدث في ما بعد، وحين تغيب حنجرة أم كلثوم عن أسماعك، أن تتذكرها، فتحاول أن تغني ما تتذكره. في هذه اللحظة تكون راغبا في التسيد على نفسك، وتسليم قيادها لحنجرتك. الله، قد تطلق هذه الكلمة من حلقك، وأنت لا تعرف إذا كنت تطلقها لأنك سمحت لصوتك أن يتسيّد عليك، أو لأنك تذكرت صوت أم كلثوم الذي تسيّد عليك لزمن ما، وتريد بكل جوارحك أن تستعيد سلطته عليك، لأن هذه السلطة تشبه، في مكان ما عميق وقصي، خروجك من جسمك كليا والتحول إلى روح، على ما كان يعرّف فلاسفة الإغريق الروح بوصف الجسم هو سجنها إلى أمد يطول أو يقصر. حين تستكين للغناء فأنت تحرر روحك من جسمك، تموت قليلا، موتا سعيدا، كما يجدر بالموت أن يكون.

الحديث عن أم كلثوم، يقع هنا على محمل التمثيل وليس الحصر. المطربون الذين يملكون روحنا، ويستطيعون إطلاقها من سجنها، كثيرون. وهم جميعًا يعرفون، أو ربما نحن من نعرف، اللحظة التي حين يبلغها المغني بصوته يجعلنا أسرى هذا الصوت. وهذه اللحظة غالبًا ما تكون أليفة كمنزل دافئ. لا يحدث أن نستسلم في لحظة النشاز. والأرجح أن كل الغناء نشاز قبل أن يستقر على أليفه. بمعنى أن تنقل الصوت بين النوتات الموسيقة وعلى درجات المقامات، لا يعدو أن يكون مجرد لعب جذل يسبق الاستقرار على الألفة التي لا نعرف متى سيمنحها لنا هذا الصوت.

ما الذي يقوله لنا الطرب إذا؟ أُرجّح أنه يدعونا إلى الامتثال، إلى الركون لحضن دافئ، والنوم فيه. النوم الذي هو غاية الطرب الحقيقية. سيطربك الصوت الشادي وقتًا يكفي لأن تنسى كل ما عداه. في هذه اللحظة لن يبقى لك خيار غير النوم بسلام وطمأنينة. ذلك أن الطرب قادر على تلطيف غدك، وجعله أكثر سهولة ورقة.

الأذن نفسها هي ما تحثنا على التواصل والتعارف بعد نفور. ننفر من اللكنة الغريبة، ويبدو لنا الصوت المتكلم غريبًا وبريًا، لكنه ما أن يشرع بالغناء حتى يجعلنا عبيده

ما السلطة التي تملكها الأذن علينا؟ أُرجّح أنها الحاسة الأقوى، التي حين نحسن استخدامها نتحول فجأة إلى مؤمنين. حين يكون الإيمان اطمئنانا لتدبير الإله لمصائرنا ومستقبلنا. الأذن هي صناعة مستقبلنا، ومن خلالها نجرؤ على التصدي لليوم التالي الذي غالبا ما تحبطنا مجرياته عند استخدام حواسنا الأخرى. كأن تمر في الشارع وتلتقط بأنفك رائحة منفرة، أو ترصد عينك شخصا مقبلا نحوك، وتجهد في ألا تصطدم به، مثلما يجهد هو الجهد نفسه. أو أن ينبئك جلدك أن الجو بارد إلى درجة تجعلك عاجزا عن الإحساس بأي شيء.

لكن الأذن نفسها، هي ما تحثنا على التواصل والتعارف بعد نفور. ننفر من اللكنة الغريبة، ويبدو لنا الصوت المتكلم غريبًا وبريًا، لكنه ما أن يشرع بالغناء حتى يجعلنا عبيده. 

دلالات: