05-يوليو-2020

إرنست همنغواي (ألترا صوت)

في اليوم الذي جاء بعد ليلةٍ شعرت فيها زوجتهُ وأصدقائهُ بأنّه قد تغيَّر، على الأقلّ لأيامٍ قليلة قادمة، استيقظ إرنست همنغواي (1899-1961) باكرًا على نيّة تسكنهُ منذ سبع سنوات. كان في تلك الليلة قد رسم في ذهنه بينما يضحك ويشرب ما سيفعلهُ في اليوم التالي، وما إن بزغ فجر الثاني من تمّوز/ يوليو سنة 1961، حتّى أفاق همنغواي نازلًا درجات القبو باتّجاه مخزن الأسلحة، قبل أن يعود ويصعدها حاملًا بندقية صيد بماسورة مزدوجة سيسند مؤخّرتها على الأرض ويضغط على الزناد مُفجِّرًا رأسهُ، ليكون الخبر الأشهر في ذلك اليوم: انتحار الكاتب الأمريكيّ إرنست همنغواي.

أعاد إرنست همنغواي حياته إلى الواجهة باعتبارها حياة غير عادية تنطوي على مُغامرات رآها البعض توازي ما أنتجه أدبيًا

أعاد انتحار صاحب "عبر النهر ونحو الأشجار" حياته إلى الواجهة مُجدّدًا، باعتبارها حياة غير عادية تنطوي على مُغامرات رآها البعض توازي، من حيث الأهمّية، ما أنتجه أدبيًا. ولعلّ هذه المغامرات بالإضافة إلى نجاته من الموت، والاضطرابات النفسية التي عانى منها، والطريقة التي أنهى حياته عبرها؛ هي التي منحت إرنست همنغواي وحياته بُعدًا أسطوريًا تكرّس وارتبط به منذ انتحاره، وأعاد كتّاب سيرته والمنقّبين في تفاصيل وأسرار حياته تكريسها مُجدّدًا.

اقرأ/ي أيضًا: كيف كشف إعصار إيرما عن أول قصة لإرنست همنغواي؟

إنّ الكتب التي كُتبت حول حياة همنغواي وسعت إلى أن تكون سيرته الذاتية كانت تُحاول الإجابة على سؤال: من إرنست همنغواي؟ ولأجل الإجابة على هذا السؤال، أمضى كتّاب وباحثون سنوات طويلة في البحث عمّا يُعزّز سردياتهم من رسائل ووثائق، لأنّ الإجابة على هذا السؤال قد تتحوّل فجأة، عند نقص المواد الخام، إلى ممارسة عبثية تقدّمه ضمن صورة غير قابلة للمعرفة إلّا بشكلٍ جزئيّ، وتكون هذه المعرفة نفسها غير مؤكّدة، الأمر الذي يَجعل من الكتابة أقرب إلى عملية ترميم لبعض التفاصيل، وتوسعة لتفاصيل أخرى، عدا عن بعض الإضافات.

أسماء عديدة خاضت غمار البحث والتنقيب في حياة الروائيّ الأمريكيّ، مثل مايكل رينولدز الذي قدّم خمس مجلّدات تتناول حياة همنغواي منذ أن كان شابًّا وصولًا إلى سنواته الأخيرة. بالإضافة إلى كاروس بيكر الذي كتب سيرة ذاتية جاءت تّحت عنوان "همنغواي: قصّة حياة"، ثمّ عاد وجمع رسائله التي صدرت سنة 1981 في جزئين، عدا عن بول هندريكسون صاحب "قارب همنغواي" (2011)، وملتون كوهين الذي ألّف "مختبر همنغواي" (2012)، وتوني كاسترو الذي قدّم "البحث عن همنغواي" (2016)، وجون مكغراث بمؤلّفه " سائقو سيارات الإسعاف: همنغواي ودوس باسوس وصداقة صنعت وفقدت خلال الحرب العالمية الأولى" (2017)، عدا عن ثلاثة كتب جديدة صدرت سنة 2018 وحدها أبرزها كتاب أندريا دي روبيلانت المعنون بـ "الخريف في فينيسيا: همنغواي وآخر علاقاته الغرامية"، الذي يتحدّث عن علاقة الحبّ التي جمعته أثناء إقامته في مدينة البندقية، مع أدريانا أيفانيتشيش.

ليس إرنست همنغواي الكاتب الوحيد الذي تشكّل حياته مادّة دسمة ومغرية للكتّاب والباحثين، ولا يأتي ذكر هذه المؤلّفات أعلاه إلّا من باب الإشارة إلى أنّه لا يزال مقروئًا عالميًا، ولا يزال حيًّا بمعنىً ما أيضًا، وأنّ العودة إلى قراءة ما كتبه ليست موضة أدبية بقدر ما هي ضرورة في مكانٍ ما، وكذا استعادته رغم سنوات غيابه التي تقترب من الستّين.

المُلفت للانتباه أنّ ما كُتِب عن صاحب "ثلوج كليمنجارو" لم يُنقل بعد إلى اللغة العربية، رغم أنّ أعماله لا تزال تصدر بطبعاتٍ مختلفة بين وقتٍ وآخر، وهو ما يجعلهُ كاتبًا مجهولًا، لا يُعرف عربيًا إلّا عبر أعماله، بالإضافة إلى بعض الترجمات التي جاءت ببعض التفاصيل السريعة والمُختصرة عن الأحداث الفارقة في حياته، كمشاركته في الحرب العالمية الأولى سائقًا لسيّارة اسعاف وعودته منها بأكثر من 200 شظية في ساقه، بالإضافة إلى عمله مراسلًا حربيًا في الحرب اليونانية-التركية، وقتاله إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، ومشاركته في الحرب العالمية الثانية.

لعلّ أكثر ما يُعرف عن إرنست همنغواي هو عمله كمراسل حربي إلى جانب التفاصيل المُتعلّقة بانتحاره

لعلّ هذا أكثر ما يُعرف عن إرنست همنغواي إلى جانب التفاصيل المُتعلّقة بانتحاره الذي جاء نتيجة الاضطّرابات والأزمات النفسية التي عايشها منذ أن سيطر عليه الاكتئاب الذي دفعهُ بثباتٍ باتّجاه أقاليم الظلمات التي أمضى فيها سبعة سنوات منذ نيله جائزة نوبل للآداب سنة 1954، وحتّى انتحاره طاويًا صفحة حياة مليئة بالمغامرات، ومن ثمّ الخوف الذي ارتبط لديه بمرض السكّريّ الذي سبّب له ضعفًا في الرؤية، وعجزًا جنسيًا، في الوقت الذي كان يُعاني فيه أساسًا من رهاب الصفحات البيضاء، وهو ما دفعه إلى إدمان الكحول والاكتئاب.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل همنغواي.. المواد الخام لأدب عظيم

تحت هذه الضغوطات بات من قدّم "رجال بلا نساء" بِحاجة إلى المهدّئات كلّ ثلاث ساعات تقريبًا، كما بات أكثر تعلّقًا ببندقيته التي طاردها من غرفة إلى غرفة، تتبعهُ زوجته ماري التي منعتهُ من فعل ما يَجول في باله ثلاث مرّات، ثمّ حاولت تَخليصه من هول ما هو فيه من خلال معالجته في مصحّة "مايو" النفسية التي ذهب إليها أوّل الأمر طواعية، بينما ضغطت عليه متوسّلة في المرّة الثانية التي حاول فيها القفز من الطائرة مرّتين، بعد أن فشلت محاولته في الانتحار أثناء الخروج من البيت باتّجاه المصحّة.

تُوصف هذه الأحداث بأنّها عناوين عريضة تنطوي على تفاصيل كثيرة لم ترو عربيًا بما أنّه لا ترجمات للكُتب التي من المفترض أن ترويها، لا سيما تلك التي تحمل طابعًا استقصائيًا، فمن غير المعقول أن تحمل كلّ هذه المؤلّفات الموضوع نفسه، وأن تُكرِّر الحكاية نفسها، ممّا يعني أنّه لا بدّ من ترجمتها لفهم همنغواي، خاصّة أنّ الأحداث المعروفة عربيًا قد وضعت في سياقاتها الزمانية والمكانية بالشكل الذي جعل من الحدث، انتحاره مثلًا، حكاية كاملة وسط تفاصيل تُجيب وإن بالقليل على الأسئلة التي تُصادف من يقرأ قصّة انتحاره.

ثمّة العديد من الأحداث المُلفتة للانتباه التي جرى التعامل معها إمّا باعتبارها خبرًا أو تفصيلًا بسيطًا وسط ما يُروى عن سنوات إرنست همنغواي الأخيرة، من بينها حكاية الجواسيس الذين طاردوه لسنواتٍ طويلة في كلّ مكان تقريبًا، بما في ذلك مصّحة مايو النفسية، دون أن يبدو كلامه عنهم، بسبب وضعه النفسيّ واضطراباته، قابلًا للتصديق أو مُقنعًا، وإن كان هنّاك من صدّقه فإنّه لن يعرف أكثر ممّا رواه همنغواي.

ستُكشف تفاصيل هذه القصّة بعد سنواتٍ عديدة مضت على وفاة همنغواي، وذلك في مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز لصديقه المقرّب إدوارد هوتشنر الذي بيّن تفاصيل هذه القصّة استنادًا إلى ما ورد في أرشيف مكتب التحقيقات الفدرالية "اف. بي. آي" الذي جاء فيه أنّه كانت تحت المراقبة منذ عام 1942، وأنّه منذ ذلك التاريخ وحتّى انتحاره، أعدّ المكتب عنه 43 تقريرًا سرّيًا موزّعًا على 124 صفحة، وأنّ مدير المكتب آنذاك إدغار هوفر كان يكنّ عداءً واضحًا وظاهرًا لهمنغواي بسبب ميوله اليسارية.

يؤكد أرشيف  الـ إف. بي. آي أن همنغواي كانت تحت المراقبة منذ عام 1942 وحتّى انتحاره، وقد أعدّوا عنه 43 تقريرًا سرّيًا موزّعًا على 124 صفحة

قاد هذا العداء هوفر إلى أمر جواسيسه بجمع معلومات وشائعات من شأنّها أن تشوِّه صورته وتطعن في مصداقيته، موصيًّا إيّاهم ببذل جهودهم لإبراز همنغواي في صورة رجل مخبول، وهو ما بدأ يتحقّق منذ عام 1961، حينما انتقل الأمر من مجرّد مُطاردة وتجسّس إلى مُحاولة جادّة وصريحة للتحرّش به واستغلال مرضه لدفعه إلى الجنون، لا سيما من خلال التواجد المُستمر في مصحّة "مايو" النفسية، وعدم تصديق المقرّبين منه لما يقوله عنهم.

اقرأ/ي أيضًا: سالينجر في حياته الحميمية

أتمّ إرنست همنغواي قبل أيام قليلة، في الثاني من تمّوز/ يوليو الجاري، تسعة وخمسين عامًا من الغياب. طيلة هذه السنوات لم يتوقّف الناشرون حول العالم عن إعادة طباعة أعماله، كما لم يتوقّف القرّاء عن قراءته أيضًا، ولم تتوقّف الكتب ذات الطابع أو البُعد الاستقصائي عن الصدور كاشفةً لغزًا هنا وسرًّا هناك. عربيًا، لا يَختلف الأمر إلّا من حيث انصراف الناشرين الكامل عن نقل هذه الكتب، وحرمان القرّاء العرب من معرفة المزيد عن مؤلّف "يملكون ولا يملكون".

 

اقرأ/ي أيضًا:

10 حقائق "غريبة" عن إرنست همينغواي