01-يناير-2025
أسرار الحوكمة المؤجلة

شاخصات تشير إلى وجهة المدن السورية معلقة على طريق مطار دمشق الدولي (رويترز)

ربما نستطيع القول إنه عالميًا لم يعد هناك ما هو خفي في تكنولوجيات إدارة المجتمعات، أي الدولة، فهذه المعلومات متاحة لجميع الأمم ولجميع التجارب المحلية التي عليها تحويلها إلى معرفة تمارس على أرض الواقع، وهنا يبدو التحدي كبيرًا، ويحتاج إلى قماشة ثقافية قادرة على الفهم والتفاهم، وهي ليست ثقافة معقدة، أو تحتاج إلى الكثير من الجهد لاكتسابها، فهي في المقام الأول ثقافة ناتجة عن المعلومات الحقوقية التي يستطيع أي مجتمع، أو تجمع بشري، هضمها وممارستها، لأن في ذلك تحقيق لمصلحته، والمصلحة هي الغاية العليا لسعي أي "مجتمع" نحو السعادة، أو ما يسمى الشبع والمنعة. ولا نكرر هنا ما صار بديهيات وصلتنا من القرن التاسع عشر، تطورت وتحولت إلى معرفة، حققت بها بلدانٌ كثيرة مصلحتها هذه، باستخدام هذه التكنولوجيات واستوعبت تطوراتها، ووظفتها، ولم يكن من دور للسياسي إلا متابعة أمور تحقيق المصلحة، وهذا شعار فيه الكثير من الاتكاء على الجانب الأخلاقي المرسل للسلطة والثقة بها، لكن آليات المحاسبة والمسؤولية في تكنولوجيات الدولة تستطيع تحجيم ولجم هذه الثقة، بحيث يكون حكمها البارد على النجاح والفشل، وليس على كمية الحب والتبجيل والتقديس الذي قد تناله السلطة، فالشعب ذي القماشة الثقافية الحقوقية يستطيع بحكم ثقته بالدولة، تغيير السلطة بناء على واقعة الفشل في تحقيق المصلحة، وهنا "حطنا الجمّال" نحن السوريون وأمثالنا، لمرات كثيرة، أمام استحقاقات الفشل، ولم تستطع "دولتنا" المحاسبة، فالمصلحة عندها كانت دومًا كيانًا مائعًا هيوليًا، تحدده الشعارات الإعلامية، محددة الحد الأقصى للعلانية عندها. ويكمن الانشغال الحقيقي في أدراج العتمة، بصفة أسرار دولة، وكأن لا دستور يعطي الدولة صفتها عبر معايرة السرية والعلانية والحق بالمعلومة، فالمعتقلون وأسباب وأدوات اعتقالهم من أسرار "الدولة"، ومجتمعهم الذي تربيه هذه "الدولة" غير معني بهم حقوقيًا، إذ لا معلومات لديه عن الحق والواجب في دولة، التي هي كيان تكنولوجياتي بارد ومحايد يمكن اشتقاق العدالة من هذا البرود وهذا الحياد.

اليوم نتكلم في خضم محاولة صنع دولة للسوريين، تقوم باستثمار مواهبهم العملية، وتسوقها إلى تحقيق الشبع والمنعة كمصلحة عليا لهم، فهل تجارب الأمم والشعوب مقفولة عليهم؟

اليوم نتكلم في خضم محاولة صنع دولة للسوريين، تقوم باستثمار مواهبهم العملية، وتسوقها إلى تحقيق الشبع والمنعة كمصلحة عليا لهم، فهل تجارب الأمم والشعوب مقفولة عليهم؟ لقد ثبت مفهوم الدولة لدى جل شعوب الأرض، وأثبتت هي جدواها من تسلمها إدارة وضبط الجهد الإنساني للوجود والاستمرار، ولم يعد هناك أسرار عن فائدة التسالم والعلانية والمساواة، التي تقابلها أفعال مكافئة للعمل والإنتاج والإبداع، تلك الأفعال التي تحمي الدولة نفسها، ككيان راعٍ للمصلحة، قابل وقادر على التطور، والحضور في حيّز الوجود.

في هذا السياق، يبدو الزمن المتاح للدولة هو الحاضر المضارع، ولكنه وفي عمقه هو زمن مستقبلي، والماضي لا يمكن استحضاره إلا كفلكلور وسياحة، والنظر إلى آنية الدولة في الزمن، هو نظر إلى آنيّة الوجود نفسه. ولا يمكن إيجاد حلقة تربط الماضي بالمستقبل، لإنهما مجهولا التوثيق والوثوق، وبالتالي ليس للدولة غير الاستثمار في الشعب، حسب ظروف وممكنات ومستجدات الحالة العالمية، وإلا تعرضت وبشكل حتمي للاستئجار، وبالتالي السبات في مقالاتها المؤسِسة، وهذا أمر مرّ فيه السوريون منذ الاستقلال حتى اليوم، خصوصًا بعد 1958، التي بدأت بعدها طقوسية عبادة الفرد كإجراء مؤسساتي محتوم، ومعه فقدت الدولة معناها المؤسس والتنموي معًا. لقد أثبتت التجارب والأيام، أن الناس، وخصوصًا في حالة "المجتمع"، أنها ليست بحاجة إلى قائد، طالما هناك دولة، يتم فيها تداول السلطة كإجراء بدهي في مجتمع المساواة المتسالم، وليس استعصاء السلطة إلا فشل للدولة المدعاة، فالقائد السوبر وطني لم يعد موجودًا في دولة ما بعد العالمية الثانية، والكاريزما يمكن صنعها صناعةً مع تكريس وسائل الإعلام، حيث ينفرد صوت واحد بالقول، ولا ننسى في هذا المقام، هدية الولايات المتحدة الأميركية "لدولة" الوحدة المصرية السورية هي عبارة عن محطتي تلفزيون، وظيفتهما حتى يومنا هذا تمجيد القائد الذي لم تكن لا الدولة ولا الناس في هذا العصر بحاجة إليه، فالدستور قائم كهيئة اعتبارية قائدة للجميع، من دون أي تمجيد شخصي أو مكافأة استثنائية.

اليوم في سوريا، يتم رمي مستحقات الحرية، التي طالب بها الجميع، وخرجوا معلنين الحاجة القصوى لها. ترمى بحجة التفاصيل، بمعنى أنها غير ضرورية الآن، ويتم الوعد بمناقشتها وليس إقرارها لاحقًا

اليوم في سوريا، يتم رمي مستحقات الحرية، التي طالب بها الجميع، وخرجوا معلنين الحاجة القصوى لها. ترمى بحجة التفاصيل، بمعنى أنها غير ضرورية الآن، ويتم الوعد بمناقشتها وليس إقرارها لاحقًا، مع أن هذه المستحقات كانت موجودة ومستمرة ولكنها غير كافية لتمثل الحرية بمعناها البشري المقونن، متناسين أن الحرية هي مجموع التفاصيل التي تؤلف الحق بالكرامة البشرية، وحق الحياة معًا، ومحاولات منع الكلام عن "التفاصيل"، خصوصًا بالوسائل التي خبرها الشعب طويلًا، سيدفّع سوريا نفسها الثمن مرة أخرى، فحياة الناس اليومية هي تفاصيل العيش اليومي المحمي من الخوف المهين للكرامة الإنسانية، التي هي وبالضبط معنى الشبع والمنعة، فمنع الخوف هو دولة، وإشاعته هو شغل عصابات مهووسة بالابتزاز.