21-نوفمبر-2022
طفل عبقري بالرياضيات.jpg

(Getty) عبقري رياضيات صغير

دائمًا ما تُمثّل أسئلة الأطفال بالنسبة لي أسئلة ملهِمة، أنصت إليها بإمعان كلّما نطقوا بها أمامي، أتأمّلها وهي تخرج من أفواههم بفذاذة قلّ نظيرها، وأتذكّر وأنا أستمع إليها نصًا بسيطًا كتبته مرة، استحضرتُ فيه حقيقة إحساسي بذلك الطفل الذي يسكن في داخلي، وأشعرُ به يخرج مع كلّ سؤال معرفي جديد ينطق به لساني، قلتُ في متن ذلك النصّ: "لو كنتُ قاضية لحاكمتُ الأهل والمجتمع والمدرسة والمحيط على شروعهم في القتل العمد للفيلسوف الصغير الذي كان كامنًا فيّ في مرحلة الطفولة، كم من الطعنات وجهوها إليه لما كنتُ أسألهم عن الله والكون والوجود، أولى الطعنات كانت طعنة الحرام، والثانية طعنة العيب وغيرها وغيرها. فيلسوفي الصغير الذي جوبه بكلّ هذه الطعنات ظلّ ماكثًا في العناية المركزة فترةً طويلة حتى أتى ذلك اليوم الذي أفاق فيه إثر معجزة إلهية تمثّلت في دهشة تساؤلية راودتني وأنا أراقب حركة التموّجات التي تظهر على الماء ثمّ تختفي أثناء لعبي بالقوارب الورقية، تساءلتُ يومها: أيعقلُ أنّ هناك جوفٌ ما في الماء يبتلع كلّ هذه التموّجات؟ وإلى الآن كلّما شاهدتُ القوارب الورقية أتذكّر فيلسوفي الصغير الذي أنقذَتُه معجزة وكبرَ معي وما زال يسأل، غير أنني أتحسّر على كلّ الفلاسفة الصغار الذين لم يكبروا مع أصحابهم وتمّ قتلهم بصمت وعلى مهلٍ وروية".

هناك ثلاث مناطق يختلف البشر في تعريفاتهم وتتعدد منطلقاتهم المعرفية حولها وهي: الإله، والإنسان، والعالَم، وهذه المناطق الثلاثة تتقاطع مع ثلاث مناطق أخرى هي الأشخاص والأفكار والأشياء

إنني في النصّ السابق أقرّ بأنّ ذلك الطفل السائل الذي يسكن داخلي كان مهدّدًا بأن لا يكبر معي، وكان يُمكن أن يتمّ قتله بطعنات مجتمعية كثيرة وجهّت إليه، وكانت تطلب منه أن يسكت ويخرس ويلتزم الصمت، وأعترف بأنّ تمكنّه من النجاة من كلّ تلك الطعنات هي بمثابة معجزة بالنسبة لي، وذلك مقابل الكثير من الأشخاص الآخرين الذين تمكّنت تلك الطعنات من النيل من أطفالهم السائلين وفلاسفتهم الصغار داخلهم، وتمّ قتلهم فيهم على المدى الطويل.

مؤخرًا أتيحت لي فرصة قراءة كتاب جميل لمعاذ بني عامر بعنوان: "الإنسان الفيلسوف: عن أسئلة الأطفال وإجابات الحكماء"، وجاء الفصل الأول منه تحت عنوان: "الطفل بما هو أقلّ من فيلسوف"، وقد جعلتني قراءة هذا الفصل، أفكّر في أنّ نصّي السابق الذي كتبته منذ وقت طويل، هو نصّ يحمل في مضامينه أبعادًا أخرى، فيها ما هو أكثر من ذاتي وخاصّ.

إنّ بني عامر يقوم في فصله بتوضيح أنّ أسئلة الأطفال تدور في أغلب الأحيان في مناطق التعريفات المختلف عليها بين مجتمعات العالم المتعددة، وبحسب بني عامر فإنّ هناك ثلاث مناطق يختلف البشر في تعريفاتهم وتتعدد منطلقاتهم المعرفية حولها وهي: الإله، والإنسان، والعالَم، وهذه المناطق الثلاثة تتقاطع مع ثلاث مناطق أخرى هي الأشخاص والأفكار والأشياء.

كتاب الإنسان الفيلسوف عن أسئلة

فبحسب بني عامر، فإنّ أسئلة الأطفال تدور دائمًا في هذه المناطق الستة، حيثً يختلف التعامل معها من مجتمع لآخر، ما بين مجتمع يتعامل معها بمنطق الدهشة ويَعمل على تنميتها لتكبر مع أصحابها، ومجتمع آخر يتعامل معها بمنطق الحرج والخجل ويعمل على قتلها في نفوس أصحابها ليكبروا وقد فقدوا قدرتهم على الإتيان بها من جديد.

وعن ذلك يُورد بني عامر: "ففي المجتمعات التي طوّرت مرجعياتها الفكرية وجعلتها مُتحرّكة على الدوام في التعامل مع تلك المفاهيم سيجد أفرادها دهشة وغبطة في أسئلة الأطفال، فهي جزء من الدفقة المُتحركة لتلك المرجعيات. وفي المجتمعات التي ثبتّت مرجعياتها الفكرية في التعامل مع تلك المفاهيم وحوّطتها بجُملةٍ من العقوبات الشديدة سيجد أفرادها حرجًا شديدًا من أسئلة الأطفال".

لبعربي

إنّ بني عامر يقرّ في فقرته السابقة، بأنّ تقبّل أسئلة الأطفال وكيفية التعاطي معها في مجتمع ما هو أمر يأتي مقترنًا بسياقات الانفتاح والحرية في ذلك المجتمع، فالمجتمع المنفتح الذي تسوده ثقافة التعدد واحترام الرأي الآخر والحرية الفكرية والابتعاد عن التابوهات السياسية والدينية والجنسية سيتقبّل تلك الأسئلة ويندهش بها ومعها، والمجتمع المنغلق الذي تسوده ثقافة الرأي الواحد وتغيب عنه أجواء الحرية الفكرية وتحضر فيه التابوهات السياسية والدينية والجنسية سيرفضها ويُقصيها ويَقمع الألسنة عن النطق بها من جديد.

إن تقبّل أسئلة الأطفال والتعامل معها بالدهشة أو الحرج هي مسألة تؤثّر وتتأثّر بشكل وطبيعة المجال العام السائد في المجتمع، فسيادة ثقافة التعدّد والحرية في المجال العام ستؤدي إلى مزيد المرونة في التعاطي مع أسئلة الأطفال

وبحسبه، فإن تقبّل أسئلة الأطفال والتعامل معها بالدهشة أو الحرج هي مسألة تؤثّر وتتأثّر بشكل وطبيعة المجال العام السائد في المجتمع، فسيادة ثقافة التعدّد والحرية في المجال العام ستؤدي إلى مزيد المرونة في التعاطي مع أسئلة الأطفال، وزيادة المرونة في التعاطي مع أسئلة الأطفال، سيقود نحو تقوية المجال العام عبر تطعيمه بمزيد من الحرية وتدريبه على ثقافة الانفتاح والتعددية، ولو كان ذلك مع الأطفال بادئ ذي بدء.

يُورد بني عامر -في الإطار السابق- "فالطفل إذ يسأل على المستوى الفردي ويجد ترحيبًا لسؤاله في المجال الذي تتحرّك فيه ذاته المُتسائلة، فذلك دافع قوي له لكي يستمر في طرح أسئلته، ونقلها -بمزيدٍ من الدربة والتجريب- من حالة اللاوعي واللازمانية إلى حالتي الوعي والزمانية. والمجتمع الذي يتقبّل سؤال الطفل بشكلٍ جماعي، بحيث يتفاعل معه ويندهش به، فإنه يُقوّي -هو الآخر- مجاله العام، ويحوّله إلى حاضنة كبيرة للإبداع".

إنّ تقبّل السؤال الطفولي يحضر في طرح بني عامر بصفته واحدًا من اللبنات الأساسية في بناء مجال عام صحي قائم على التعددية والحرية في أي مجتمع، وكأنّ السؤال الطفولي الذي لا يتعدى وزنه وزن الذبابة، له تأثير كبير المجتمع الذي يتكوِّن فيه، وهو تأثير يَكون -في كثير من الأحيان- بوزن الفيل.