04-يونيو-2020

العيد في مصر (Getty)

مع انتشار وباء كورونا في مصر، تكشفت ظواهر فيها الكثير من القسوة بين البشر، فتجد انتشار الحكايات على وسائل التواصل الاجتماعي عن سلوكيات بشعة يمارسها البشر ضد بعضهم البعض، توحي بغياب أي نزعة أخلاقية أو إنسانية لديهم، حكايات عن مرضى كورونا بالعزل المنزلي وكيف تعامل الجيران معهم بمنتهى القسوة، وحكايات لأناس تخلوا عن كبار السن من آبائهم وأجدادهم ورفضوا المساهمة في علاجهم أو المساهمة في عزلهم أو حتى استلام جثثهم لدفنها، بل وصل الأمر إلى حد أن هناك بعض المصابين يتكتمون على إصابتهم ويتعمدون الحضور في التجمعات، والبصق والكحة في الشوارع والأماكن العامة بهدف نشر المرض، فهل هناك تفسير لكل هذه الظواهر؟

وصل الأمر ببعض المصابين بكورونا في مصر أن يتكتموا على إصابتهم ويتعمدوا الحضور في التجمعات بهدف نشر المرض

في تقديري، يتعرض وعي الإنسان المصري لحالة عصف وتجريف ذهني شديد تحت شعارات كلها تتكلم عن "الحرب"، الحرب على الإرهاب، الحرب على الأمراض، الحرب على الفقر، الحرب على الإشاعات، الحرب على الإخوان.. إلخ، وهذا الحضور شديد الوطأة لكلمة "الحرب"، بدلالاتها الرمزية في وعي المتلقي عن الاستقطاب والعنف والدماء، يعزز من قدرة البشر الواقعين تحت تأثير الخطاب على تقبل هذه الدلالات والصور، ليس هذا فقط بل ممارستها لو لزم الأمر، أضف إلى هذا كم العنف والقمع الذي تقوم بها الدولة خارج القانون، من قتل واعتقالات واختفاء قسري، ناهيك عن حماية من يمارسون العنف في العديد من المرات كما تابعنا عندما تم العفو الرئاسي عن قاتل سوزان تميم كمثال. كل هذا يمنح الخطاب العنيف شرعية أكبر على الأرض، وقبول أكبر في وعي المتلقي.

اقرأ/ي أيضًا: قانون السوق وأزمة كورونا

يضاف إلى ذلك سير الدولة بخطى حثيثة نحو تعزيز الاستقطاب الطبقي داخل المجتمع، بدعم الجنرالات ورجال الأعمال، وفرض سياسات الليبرالية الجديدة التي خلقت من العرض والطلب وقانون السوق سيفًا على رقاب المواطنين الفقراء، سواء على مستوى العمل والأجور المنخفضة، أو على مستوى القدرة الشرائية لكل السلع والخدمات، في ظل انسحاب الدولة من تقديم الدعم وخدمات الصحة والتعليم، كل هذا خلق حالة من الفقر والمظلومية وانعدام الأمان في العلاقة بين الدولة وأفراد المجتمع، زاد من حدتها انسداد قنوات التعبير والتغيير، وتغييب فرص خلق مستوى رأسي للصراع على هذه السياسات ضد الطبقات الرأسمالية الحاكمة، لدرجة وجود حكم محكمة نقض يعتبر فعل "التظاهر" نفسه مخل بالشرف! أضف إلى هذا كله تصدير النظام الأزمة إلى أسفل، فالشعب الكسول هو المسؤول عن فقره، والشعب غير الواعي هو المسؤول عن مرضه، وضرب فئات الشعب ببعضها، فالأطباء هم سبب مشاكل المستشفيات، والمعلمون هم سبب فساد منظومة التعليم، وملابس المرأة هي سبب ما يحدث لها من تحرش واغتصاب.. إلخ.

على خلفية هذا كله جاءت أزمة كورونا، مجتمع غير متزن يعيش معظمه حالة ضخمة من الفقر والمظلومية والقمع، وتسيطر عليه أفكار الحرب والدماء والإقصاء وتصدير الأزمة لأسفل، في ظل حالة من العجز عن القيام بفعل من أجل التغيير، وتغييب السلطة لكل صاحب رأي في المنفى أو المعتقلات. يكتشف أفراد هذا المجتمع أن الدولة، تقرر رفض التعامل المؤسسي مع حالات كورونا، سواء لتوفير أماكن عزل أو علاج للحالات المصابة إلا بالواسطة والرتب الاجتماعية والطبقية، كما ترفض تقديم أي بدائل لدعم المصابين وأسرهم في الحياة طوال أيام العزل وبعده، ليس هذا فقط، بل وإطلاق المستشفيات الخاصة والعسكرية عليهم، لتقدم الخدمة مقابل مبالغ باهظة تصل إلى مئات الآلاف، لتأكل ما تبقى لهم من تحويشة العمر، وكلها رسائل غاية في الوضوح لعموم الشعب، أن من يصاب ليس له مكان للعلاج بالدولة إلا بالمال أو الواسطة، وإلا فعليه أن يدبر أمره هو وأولاده.

يصدر النظام المصري الأزمة إلى أسفل دومًا، فالشعب الكسول هو المسؤول عن فقره، والشعب غير الواعي هو المسؤول عن مرضه!

هكذا تسود داخل المجتمع ثقافة القوة والمال لا ثقافة الأخلاق والعدالة، ويتم تحفيز أكبر قدر من الحيوانية من الممكن تخيله داخل البشر، وخلق حالة من "حرب الكل ضد الكل" التي تكلم عنها هوبز، ويتحول الغالبية إلى حيوانات تدافع عن صغارها المهددين بالفناء، كما تخلق قصص المظلومية حالة من الغضب والرغبة في الانتقام، وهذا يفسر قيام بعض المصابين بتعمد نشر الإصابة والبصق في بئر القبيلة الظالمة.

اقرأ/ي أيضًا: الهويات الفردية بين البيت والمقهى والكرنتينا

إن ما نراه اليوم هو غريزة البقاء في أبهى صورها في مواجهة قانون الانتخاب الطبيعي "مناعة القطيع" الذي تم فرضه من أعلى، حرب يخوضها الجميع ضد الجميع، ولكنها ليست حرب بسبب طبيعة الإنسان الأنانية وتكوينه الفاسد الشرير كما يقول هوبز، ولكنها بسبب العنف والإقصاء الطبقي الذي يتعرض له الفرد داخل المجتمع، وانسداد سبل التغيير من أسفل أمام كل صاحب مظلومية عموما، فالبشر- وفقًا لماركس- يمكن تمييزهم عن الحيوانات بالوعي، والإنسان لا يقوم بردود أفعال تجاه ما ومن حوله فقط، ولكنه يقوم باتخاذ المبادرات والقيام بأفعال تجاه ما ومن حوله والبدء في تغييرها تبعًا لإرادته، فعندما يسعى البشر لتغيير الظروف يغيرون أنفسهم أيضًا، ولو فشلوا في تغيير الظروف المنحطة والحيوانية التي يعيشونها، سوف ينعكس الانحطاط والحيوانية في سلوكياتهم ضد المجتمع وضد بعضهم البعض.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نحو عالم ما بعد كوروني

عالم ما بعد الكورونا