08-نوفمبر-2021

(Getty Images)

ألتراصوت- فريق التحرير

تقترب الأوضاع في البوسنة والهرسك حسب المتابعين من الانزلاق إلى موجة عنف جديدة، قد تكون هي الأخطر منذ نهاية حرب البوسنة عام 1995 التي قتل فيها الآلاف وارتكبت خلالها أعمال تطهير عرقي مروعة.

حذّر المبعوث الأممي السامي إلى البوسنة، كريستيان شميت من أن اتفاقية السلام المعروفة باتفاقيات دايتون التي توسطت فيها الولايات المتحدة والموقعة في نهاية الحرب معرضةٌ لخطر الانهيار

فقد حذّر المبعوث الأممي السامي إلى البوسنة، كريستيان شميت، في وقت سابق من الأسبوع الماضي من أن اتفاقية السلام المعروفة باتفاقيات دايتون التي توسطت فيها الولايات المتحدة والموقعة في نهاية الحرب معرضةٌ لخطر الانهيار ما لم يتم اتخاذ إجراءات لمنع الانفصاليين الصرب من الدفع نحو الانفصال.

وكان ميلوراد دوديك الذي يتزعم صرب البوسنة منذ 15 عاما والعضو في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك المكون من ثلاثة أفراد، قد هدّد في الثاني والعشرين من شهر نتشرين الأول/أكتوبر بالانفصال عن بقية البلاد، وبإنشاء جيش "جمهوري صربي"، وبطرد مؤسسات فدرالية، مثل القضاء، خارج جمهورية صرب البوسنة المعروفة باسم "صربسكا"، مشدداً على أنه "لم يعد لدولة بوسنية موحدة وجود"، وأن البوسنة الحالية "دولة فاشلة" و"تجربة" غربية "لا تعمل".

زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك (Getty)

تَبرز هذه التوترات إلى السطح من جديد في ظل انتشار واسع للسلاح غير المرخص، الذي تقول التقديرات إنه يصل نحو 750 ألف قطعة، مما يُنذِر بمخاطر حرب وشيكة قد تعود بمنطقة البلقان إلى مستنقع الدم الذي غرقت فيه فترة ما بين 1992 و1995.

كما قامت جمهورية صربسكا، بذريعة مكافحة الإرهاب، بتعزيز قوتها الشرطية الخاصة في السنوات الماضية، وعلى نحوٍ يوحي بالعسكرة الجليّة لهذه القوات، وبمساعدة من روسيا، بحسب تقرير في "الفورين بوليسي". فعلى سبيل المثال اشترت وزارة الشؤون الداخلية في جمهورية صربسكا 2500 سلاح طويل الماسورة عام 2018 من شركة سلاح زاتفاس وهي شركة صربية مصنعة في كراغوييفاتس. ووفقًا لروف بتروفيتش وزير الاقتصاد السابق للبوسنة فإن هذه هي عشرة أضعاف عدد البنادق القوية التي طلبتها قوات الشرطة الوطنية في سراييفو.

اقرأ/ي أيضًا: روسيا تستثمر في تفتيت البوسنة.. إعادة إنتاج "البلقنة"

 كما افتتحت السلطات في صربسكا أيضًا مركز تدريب لهذه القوات بتكلفة بلغت ملايين الدولارات، وتم اختيار ثكنات الجيش السابقة في زالوزاني خارج بانيا لوكا لتكون موقعًا لهذه التدريبات. وقد التزمت روسيا بتزويد القوات الصربية بتدريب خاص لمكافحة الإرهاب بالفعل في المركز، والذي سيكون بمثابة مقر لوحدات مكافحة الإرهاب الجديدة ووحدات اللوجستيات وإدارة مكافحة الجريمة المنظمة، وهي مقوّمات كفيلة بجعل الشرطة الصربية قوّة موازية في حجمها وتجهيزها لقوات الأمن الوطنية في البوسنة، وكل ذلك بمساعدة روسية، والتي تتهم بأنها تحاول إعادة إنتاج "البلقنة" في تلك المنطقة. 

المبعوث الأممي السامي إلى البوسنة أبلغ مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الأسبوع الماضي لإعادة تجديد مهام القوات الأوروبية لقوة حفظ السلام "يوفور" أن تهديدات ميلوراد دوديك تلك "بمثابة انفصال غير مفعّل".

السّلام الهش في البلقان

اعتبر تحليلٌ مطوّلٌ نشره موقع " سي أن أن " أنه في بلد أدّت فيه الانقسامات العرقية بين الصرب والبوشناق والكروات إلى ارتكاب جرائم حرب حديثًا، فإن هذا المستوى من التوتر الذي أحدثته تصريحات ميلوراد دوديك "يجعل المراقبين للأوضاع قلقين للغاية"، فالمعاهدة التي أنهت الحرب التي استمرت ثلاث سنوات قسّمت الدولة وفق أسس عرقية حصل بموجبها الصرب على كيانهم المستقل إلى حد كبير، بينما يضم الاتحاد الثاني الذي يمثل نصف البلاد ويقطن فيه حوالي 3.5 مليون نسمة، كلّا  من البوشناق والكروات.

وهذان الكيانان مرتبطان بمؤسسات مركزية، كانت ضعيفةً في البداية لكنها تعزّزت على مر السنوات بضغط من مفوضين بارزين تابعين للأمم المتحدة.

يبدو أنه "لا توجد معاهدة سلام يمكن أن تمحو القتل والاغتصاب المنهجي والأهوال الأخرى التي عاشها الناس خلال الحرب، لكن حادثةً واحدة ظلّت باقية في الذاكرة أكثر من غيرها وهي مذبحة سريبرينيتشا التي وقعت بين 11 و22 تموز/وليو 1995، حيث قُتل الآلاف من الرجال والصبية المسلمين على يد قوات صرب البوسنة الذين أدين زعماؤهم فيما بعد بارتكاب جرائم حرب واعترف المجتمع الدولي بالمذبحة على أنها إبادة جماعية. ومع ذلك، ليس كل الصرب على استعداد لقبول هذا.

قُتل الآلاف من المسلمين في مذابح ارتكبها الصرب مطلع التسعينات (Getty)

أحد هؤلاء هو الزعيم القومي المتطرف ميلوراد دوديك الذي انزعج بشكل خاص من إدخال قانون مؤخرًا من قبل مكتب المفوض السامي يمكّن من معاقبة الأشخاص الذين ينكرون ارتكاب إبادة جماعية". فقد قال ميلوراد دوديك في وقت سابق من هذا العام عن هذ القانون: "إنه آخر مسمار يدق في نعش البوسنة"، مضيفًا أنه "ليس أمام جمهورية صربسكا خيار آخر سوى بدء حل الدولة الاتحادية".

يخشى المراقبون أنه حتى لو لم يتحرك ميلوراد دوديك نحو الانفصال، فإن أفعالَه وأقوالَه يمكن أن تزعزع الاستقرار بشكل خطير وتتسبب في العنف والهجرة القسرية والبؤس للناس العاديين.

أرمينكا هيليش، وهي سياسية بوسنية المولد وعضوة الآن في مجلس اللوردات البريطاني والمستشارة السّابقة الخاصة لوزير الخارجية البريطاني قالت إن: "المواطنين في جميع أنحاء البوسنة والهرسك - بما في ذلك كيان جمهورية صربسكا - يخشون العنف"، مضيفةً أنه "من المرجح أن يؤدي تحرك آخر نحو الانفصال إلى رد فعل، فلا توجد طريقة يمكن بها تفكيك البوسنة والهرسك بشكل سلمي."

من جانبها حذّرت هيذر ستاف، المستشارة في مشروع "رام بروجيكت" وهي منظمة متخصصة في سياسة الهجرة، أن الصراع سيؤدي إلى أزمة لاجئين ونزوح مدنيين.

وقالت في حديث لسي أن أن: "في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رأينا أشخاصا يفرون من البوسنة إلى البلدان المجاورة مثل الجبل الأسود".

أمّا ياسمين موجانوفيتش، مؤلف كتاب "الجوع والغضب: أزمة الديمقراطية في البلقان"، فقد اعتبرت أن حربًا أخرى "ستكون كارثة على الاتحاد الأوروبي، لأنها ستكون أزمة أمنية أخرى في جنوب شرق أوروبا شديد التقلب".

وأشار ياسمين إلى أنه في ظل الأزمات الأمنية الموجودة حاليا في أوكرانيا وبيلاروسيا وسوريا وأفغانستان، فإن "التدهور الكبير في أمن واستقرار البوسنة هو أمر لا يستطيع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تحمله".

وكما هو الحال في كثير من بقاع التنافس، فإن أزمة البلقان توفر فرصة لمنافسين مثل روسيا والصين، ونقلت CNN عن مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي قولَه إنهم "قلقون بشأن كيفية استغلال روسيا والصين للوضع في البلقان"، مضيفًا نحن "عالقون بين المطرقة والسندان، فسلوكنا يدفع الصرب للارتماء في أحضان روسيا، والبلقان الواقع على حدودنا لا يحتمل الانفجار".

الاتحاد الأوروبي قلق من كيفية استغلال روسيا والصين للوضع في البلقان

وكانت وكالة فرانس برس ذكرت في تقرير لها الأسبوع الماضي أن ميلوراد دوديك، يرتكز في خطواته على الدعم الذي قال هو نفسه إنه حصل عليه من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي التقاه في وقت سابق من هذه السنة في بلغراد.

على من يقع اللوم؟

يُحمّل بعض المتابعين مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع في البلقان للطرف الغربي ممثلا في الاتحاد الأوروبي أساسا، وفي هذا الصّدد نقلت سي أن أن عن مؤلفة كتاب "الجوع والغضب: أزمة الديمقراطية في البلقان" ياسمين موجانوفيتش قولها "إنه في حين أن صربيا وروسيا الجارتان هما الطرفين الأساسيين المهندسين الأساسيين لهذه الأزمة، إلا أنه يُعتقد أن رفض المجتمع الدولي - ولا سيما دول الناتو - العمل بشكل حاسم على القضاء على هذا الأمر في السنوات القليلة الماضيةشجّع دوديك وأنصاره على التمادي في تصرفاتهم"، وأضافت موجانوفيتش قائلة إن أداء الاتحاد الأوروبي مخيب للآمال للغاية بسبب الخلافات الداخلية بين أعضائه"، وردًا على سؤال وجّهته "سي أن أن" لمسؤول في حلف شمال الأطلسي حول ماذا سيفعل الحلف اكتفى المسؤول الأوروبي بالقول: "نحث روسيا على لعب دور بناء في البلقان، مع أننا نرى أن روسيا تقوم بانتظام بعمل العكس". مضيفًا أن "الناتو يعمل على تعزيز الاستقرار والأمن والتعاون في المنطقة، وأي تدخل خارجي في العملية الديمقراطية المحلية غير مقبول . "

المسؤول الكبير في الاتحاد الأوروبي أشار لسي أن أن "بأن هناك إرادة سياسية لبعض الدول الأعضاء للقيام بشيء أكثر جوهرية، لكن ذلك من الصعوبة بمكان في اتحاد يضم 27 دولة، دون تقديم بعض التنازلات الرئيسية لدول داخل الكتلة في قضايا أخرى".

بالنسبة لمجلس الأمن الدولي فإنه لا يمكنه العمل بدون روسيا، التي ماطلت في التصويت للإبقاء على قوات حفظ السلام في البوسنة والهرسك، وربطت موافقتها بشطب اسم الممثل السامي من نص القرار.

ومع ذلك، فإن هناك سبب للأمل، حسب ياسمين موجانوفيتش، فبإمكان الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تقوم منفردة بسن عقوبات أحادية الجانب" ضد دوديك ورفاقه، وهو ما يعتقد أنه سيكون له بعض التأثير، في المقابل تشدد أطراف أخرى على أن الخيار الدبلوماسي الذي لم ينجح في التسعينيات وأدى لمقتل أكثر من 100 ألف وتشريد أكثر من 1.1 مليون لاجئ، لا يُعتقد أن ينجح الآن، ويقتضي المقام المزيد من العقوبات والتعامل مع التحركات الانفصالية على أنها "تحد أمني" أوروبي.

على الصعيد الأمريكي وجّهت واشنطن في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، تحذيرا إلى ميلوراد دوديك، إثر إصراره على التهديد بالانفصال، وأكدت "تمسكها الراسخ" بوحدة البوسنة والهرسك.

وذكرت السفارة الأميركية في سراييفو في تغريدة أن مساعد وزير الخارجية الأميركي قال لدوديك "إن التهديد بالانفصال والتراجع في إصلاح مؤسسات الدولة يتعارضان مع اتفاقية دايتون للسلام".

وكان دوديك قد التقى مع المبعوث الأميركي لدول غرب البلقان، غابرييل إسكوبار، بعد ثلاثة أيام من إعلانه تشكيل جيش صرب البوسنة خلال "أشهر قليلة". 

أما على الصعيد التركي، فقد قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن تركيا ستقف "سدًا منيعًا" يحول دون تكرار مآسٍ إثنية في البوسنة والهرسك كتلك التي شهدتها البلاد مطلع تسعينات القرن العشرين. 

على الصعيد التركي، فقد قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن تركيا ستقف "سدًا منيعًا" يحول دون تكرار مآسٍ إثنية في البوسنة والهرسك

وقد أتت تصريحات أردوغان في كلمة ألقاها خلال لقائه ممثلي منظمات مدنية للبوشناق في تركيا، يوم أمس الأحد، 7 تشرين الثاني/نوفمبر، ذكّر خلالها بالدور الذي تؤديه تركيا في دعم استقرار البوسنة والهرسك وتعزيز البنية الثقافية والإثنية المتعددة فيها "دون تمييز بين مكوناته". وأشار أردوغان إلى أن بلاده "منذ اتفاقية دايتون وحتى اليوم هي الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة كما في الماضي في البوسنة والهرسك". 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مذبحة القرن 21.. الغوطة الشرقية تحت وطأة أعنف الهجمات الدموية من النظام السوري

روسيا تستثمر في تفتيت البوسنة.. إعادة إنتاج "البلقنة"