18-أبريل-2025
تشهد الصيدليات في مصر ندرة غير مسبوقة في الأدوية (رويترز)

تشهد الصيدليات في مصر ندرة غير مسبوقة في الأدوية (رويترز)

"أكثر من 10 صيدليات في مناطق مختلفة، بين القاهرة والجيزة، بعضها صيدليات مرموقة وشهيرة،  ولم أجد العلاج المكتوب في روشتة الطبيب".. بهذه الكلمات استهل حمزة ( 44 عامًا) حديثه عن أزمة الدواء في مصر، كاشفًا أن الأمور وصلت إلى درجة بالغة الخطورة حيث العجز عن العثور على أدوية الأمراض المزمنة وهو ما يعرض حياة الملايين من المرضى للخطر.

ويضيف حمزة، الذي يعمل مهندسًا في إحدى الشركات الخاصة بالقاهرة، في حديثه لـ"ألترا صوت"، أن ندرة الأدوية في السوق المصري ليست وليدة اللحظة، فالأزمة متكررة منذ سنوات.

لافتًا إلى أنه، رغم الجهود التي تبذلها الحكومة لتوفير بعض أنواع تلك الأدوية، فإن حجم الأزمة يفوق إمكانياتها وقدراتها، في ظل ما وصفه بـ"مافيا الدواء" التي تهيمن وتتحكم في السوق.

شهدت أسعار الدواء في مصر خلال السنوات العشرة الأخيرة موجات غير مسبوقة من الزيادات

يُعد نقص الدواء أحد أهم وأخطر الأزمات التي تؤرق مضاجع المصريين خلال السنوات الأخيرة وتضع حياتهم على المحك، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة ممن يتجاوز عددهم عشرات الملايين (20 مليون مريض قلب و11 مليون مريض سكري وأكثر من 9 ملايين مريض ربو)، والذي لا يمكنهم الاستغناء عن تلقي العلاج في مواعيد محددة، وإلا فحياهم معرضة للخطر.

هذا بخلاف القفزات الجنونية في الأسعار، والتي أرهقت كاهل الموطنين بشتى مستوياتهم المعيشية، بعدما وصلت أسعار الأدوية إلى معدلات غير منطقية، ليجد المواطن المصري نفسه بين سندان الندرة ومطرقة الأسعار، ليتحول العلاج في مصر إلى رفاهية تُمنح للقادرين فقط، أما غير القادرين فيواجهون سيناريوهات صعبة للغاية، كلها أو معظمها يعجل بحياتهم ويعرض سلامتهم الصحية للتهديد.

بين الندرة والأسعار الخرافية

شهدت أسعار الدواء في مصر خلال السنوات العشرة الأخيرة موجات غير مسبوقة من الزيادات تجاوزت في بعض الأصناف حاجز الـ1000%، وسط توقعات باستمرار تلك الزيادات بين الفترة والأخرى دون وجود سقف نهائي لها يضمن لها على الأقل الثبات لفترة محددة يلتقط فيها المواطن أنفاسه.

شهدت أسعار الأدوية تحريكًا كبيرًا نهاية العام الماضي، شمل نحو 3 آلاف صنف تمثل 90% من حجم التداول في السوق المصرية (أي الأصناف الأكثر مبيعًا)، وذلك وفقًا لمخرجات اللقاء الذي عقده رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مع مسؤولي غرف صناعة الأدوية والمجالس التصديرية، في محاولة للوصول إلى نقطة توازن بشأن ملف أسعار الدواء.

وكان مسؤولو غرف صناعة الأدوية يطالبون بتحريك الأسعار بمعدلات كبيرة تتناسب وحجم القفزة التي شهدها الدولار أمام الجنيه المصري، مستندين إلى ما كانت تحصل عليه شركات الأدوية في السابق بشأن الاعتمادات الدولارية من البنوك بالسعر الرسمي الذي كان عليه العام الماضي(1 دولار = 30.85 جنيه).

لكن مع التعويم الأخير للجنيه المصري، الذي انخفضت قيمته إلى نحو 50 جنيهًا مقابل الدولار، وما ترتب على ذلك من ارتفاع في كلفة المواد الخام الداخلة في صناعة الأدوية، والتي يُستورد أغلبها من الخارج بنسبة لا تقل عن 60 %، فإن تحريك أسعار الأدوية لتعويض هذه الكلفة يُعد مسألة ضرورية لضمان استمرار تدفق الإنتاج الدوائي في مصر.

وعليه أقرت هيئة الدواء المصرية زيادة أسعار ما يقرب من 3000 صنف دواء بنسب تتراوح بين 20 – 50 %، وإن تجاوزت بعض الأدوية هذه النسبة بكثير، لتصل إلى ما يقرب من 100 % وربما تزيد في بعض الأحيان، خاصة الأصناف المتعلقة بمستحضرات التجميل وبعض أدوية الأمراض المزمنة.

وفي الغالب تلجأ شركات الأدوية إلى تعطيش السوق بما يتسبب في أزمة ندرة للأدوية المطروحة في الصيدليات، مما يخلق طلبًا مضاعفًا عليها، وذلك تمهيدًا لطرحها بأسعار مرتفعة، في محاولة لإجبار المستهلك على تمرير تلك الزيادات، حيث بات بين خيارين أحلاهما مر، إما قبول تلك الأدوية بأسعارها الجديدة أو عدم توفيرها من الأساس ليبدأ مرحلة جديدة من المعاناة التي لا تنته.

ثلاث أسباب رئيسية تفجر الأزمة

يمكن حصر أزمة الدواء في مصر، ندرة كان أو سعرًا جنونيًا، إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

الاعتماد على الاستيراد بالعملة الصعبة، إذ إن أكثر من 90% من المواد الخام الداخلة في صناعة الدواء مستوردة من الخارج، وعليه فهي محكومة بأسعار الدولار الذي يشكّل الجزء الأكبر من الأزمة، ما يعني أن الحصة الأكبر من صناعة الدواء في مصر مرهونة أساسًا بعوامل خارجية.

ورغم الأرقام الرسمية التي تقول إن 90% من الأدوية يتم صناعتها في مصر فيما يُستورد 10% فقط، فإن الواقع الممارس علميًا يشير إلى أن الغالبية العظمى من مدخلات الصناعة قادمة من الخارج.

الثاني: التسعيرة الجبرية، إذ يخضع الدواء لسعر إجباري تضعه الحكومة للسلع الاستراتيجية التي لا يٌسمح بتركها لقوى العرض والطلب السوقية، ومن ثم فشركات الأدوية مُلزمة بالسعر الذي تحدده الدولة ولا يجوز لها الخروج عنه، وإلا ستتعرض للمسائلة، وعليه وفي حال تراجع قيمة العملة المحلية أمام الدولار قد تجد شركات الأدوية نفسها في مأزق حقيقي، بسبب صعوبة توفير السيولة الدولارية  لاستيراد الأدوية والمواد الداخلة في صناعتها من الخارج، مما ينجم عنه ندرة في المعروض.

الثالث: تعقيد منظومة صناعة الدواء في مصر، إذ تتداخل المسؤوليات بين ثلاثة أطراف رئيسية: الحكومة، وشركات الأدوية، والصيدليات. وغالبًا ما يغيب التنسيق بين هذه الأطراف، ما يدفع كلًّا منها لإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر، بينما يحاول بعضهم التحرك منفردًا في أوقات معينة لتقليل الخسائر أو تعظيم الأرباح، وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تفاقم الأزمة.

الدولار ليس المتهم الوحيد

أكثر من مرة، أرجع وزير الصحة المصري الدكتور خالد عبد الغفار أزمة "نواقص الأدوية" في السوق المصري إلى شح النقد الأجنبي وارتفاع سعر الصرف، وهو السبب ذاته الذي أشار إليه كثيرون من العاملين في قطاع الدواء، ومنهم الصيدلي مجدي عمر، الذي أوضح أن تسعير الأدوية بالجنيه المصري، الذي يشهد تراجعًا حادًا أمام الدولار غير المتوفر باستمرار، يجعل من غير المتوقع حلّ مشكلة توفر المواد الخام أو ضبط أسعار الأدوية في المدى القريب.

وأضاف عمر الذي يعمل في إحدى شركات صناعة الدواء في مصر، خلال حديثه لـ "ألترا صوت" أن القفزات التي شهدها الدولار أمام الجنيه مؤخرًا رفعت كلفة الإنتاج لنسب تتراوح بين 60 -80 %، وهي النسب التي من الصعب فرض زيادات على أسعار الأدوية بما يضاهيها في ظل التسعيرة الإجبارية المفروضة من الحكومة والتي تراعي بعض الأبعاد الاجتماعية، ومن ثم تمتنع بعض الشركات عن الإنتاج أو تقلل حجم إنتاجها وهو ما ينعكس على المعروض في الصيدليات.

ذهب آخرون إلى أن الدولار ليس السبب الوحيد في أزمة الدواء في مصر، من بينهم أستاذ الصيدلة بجامعة جون هوبكنز، الدكتور محمد درويش، الذي أوضح أن هناك أسبابًا أخرى لا تقل أهمية ساهمت في تفاقم الأزمة، أبرزها عدم قدرة الإنتاج المحلي على تلبية احتياجات السوق.

ونوّه درويش، في تصريحات صحفية، إلى أنه رغم ارتفاع عدد مصانع الأدوية المرخصة في مصر من 130 مصنعًا تضم 500 خط إنتاج في عام 2014، إلى 191 مصنعًا تمتلك 799 خط إنتاج حاليًا، أي بنسبة نمو 37% في عدد المصانع، و60% في خطوط الإنتاج، بحسب بيانات هيئة الدواء المصرية، فإن هذا التطور لا يكفي لتغطية احتياجات السوق المحلي، وهو ما تعكسه الأزمة الراهنة على الأرض.

فيما أرجعت نقيب صيادلة الجيزة، نجوى هاشم، جزءًا من الأزمة إلى طبيعة عمليات توزيع الأدوية في مختلف أنحاء مصر، مشيرة في  تصريحاتها لـشبكة "بي بي سي" إلى أن الشركات المنتجة توزع الدواء على المخازن الكبرى وليس الصيدليات، والتي بدورها تحتكر عملية التوزيع بشكل شبه كامل، وتبحث عن مصادر أخرى لزيادة العائد الربحي من خلال البيع عبر وسائل خاصة بها مثل صفحات الإنترنت، أو عبر السوق السوداء، وذلك في ظل غياب رقابة الدولة.

العلاج للقادرين فقط

تسليع العلاج في مصر بالشكل الحالي ينقل الدواء من خانة الضروريات إلى خانة الرفاهيات، ومن كونه حقًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه إلى امتياز يقتصر على القادرين فقط. وفي المقابل، يجد غير القادرين من أبناء الطبقات محدودة الدخل أنفسهم في مأزقٍ كبير، لا يتعلق بطعامهم أو شرابهم فحسب، بل بسلامتهم الصحية، وبحياتهم.

وهناك ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها أمام الشريحة التي تمثل السواد الأعظم من المصريين، فيما يتعلق بتوفير الدواء في ظل الظروف الحالية:

السيناريو الأول: شراء العلاج بأي ثمن كان، وتحمل مشقة البحث عنه وتوفيره رغم ندرته، وهو ما سيكلف صاحبه أثمانًا باهظة لا تتناسب وقدراته المادية المحدودة في ظل هذا التضخم المرعب، وهنا قد يضطر بسببها إلى الاقتراض أو تقليص نفقاته الحياتية بما يوفر كلفة الدواء، الأمر الذي يزيد في النهاية من الأعباء الواقعة عليه.

السيناريو الثاني: البحث عن بدائل أقل كلفة وأرخص سعرًا، وهناك نوعان من البدائل كشفت عنهما العديد من التقارير الصحفية مؤخرًا، الأول ذلك المتعلق بالبديل الأقل في الجودة ونسبة تركيز المواد الفعالة، وهو ما لا يتحقق معه الهدف من تناول هذا الدواء حيث الشفاء العاجل والسريع،

أما الثاني فهو الأخطر، حيث اللجوء إلى الأدوية منتهية الصلاحية والتي تُباع على بعض الأرصفة في الأسواق الشعبية العامة مثل سوق السيدة عائشة وغيرها، والتي هي ارخص سعرًا بطبيعة الحال، وذلك رغم الجهود الحكومية المبذولة لملاحقة هذا النوع من التجارة المسمومة.

السيناريو الثالث: عدم شراء العلاج، والارتضاء بالأمر الواقع، وهي المغامرة التي قد تكلف المريض حياته، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، والذي لا تستقيم حياتهم دون تلك الأدوية التي يجب تناولها بانتظام وفي أوقات دورية معروفة لا يمكن مغايرتها.

وهكذا تتواصل معاناة المواطن المصري يومًا بعد الأخر، إذ تجاوز الأمر حاجز الضروريات من مأكل ومشرب ومسكن، إلى ضرورة الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها ممثلة في العلاج والدواء والخدمة الصحية، في ظل ضبابية تخيم على المشهد وتضع المستقبل في غياهب القلق، حيث عجز السياسات الداخلية من جانب،  والتحديات التي تفرضها المستجدات الإقليمية والدولية من جانب أخر.