26-مارس-2025
مسلسل إش إش

مسلسل إش إش (مواقع التواصل)

مع بداية الموسم الدرامي الرمضاني هذا العام، اكتست منصات التواصل الاجتماعي المصرية، ووسائل الإعلام بشتى أنواعها، المرئي والمقروء والمسموع، باحتفاء غير مسبوق بالمستوى الذي وصلت إليه المسلسلات المعروضة حاليًا، حيث العزف على أوتار الريادة والتفوق على مستوى التمثيل والإخراج والسيناريوهات بل والقضايا التي تم تناولها والتي تركز بشكل كبير عن قضايا المرأة ومشاكل ما بعد الطلاق.

لكن سرعان ما تبدل المشهد، من الاحتفاء إلى النقد، ومن التفاعل إلى المقاطعة، ومن الإشادة والثناء إلى التحفظ والجمود، وتحولت المسلسلات التي كانت قبل أيام أسطورية إلى أعمال تشوه الذوق العام، وتدمر منظومة الأخلاق والقيم، ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن المجتمع المصري وهوية المصريين.. فما السر وراء هذا الانقلاب والتحول المفاجئ؟

السر يكمن في التصريحات التي أدلى بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال مشاركته في حفل الإفطار الرمضاني السنوي للقوات المسلحة، قبل أيام، حيث وجه سهام النقد للموسم الدرامي الحالي، معتبرًا أنه لا يعبر عن المجتمع، مطالبًا بضرورة تقديم دراما إيجابية وبناءة تشكل الوعي وتبني الأمة، وتعزز القيم الأصيلة والأخلاقيات دون التركيز على المواد التي تكرس للسطحية والهزل.

السيسي لم يتوقف عند حاجز النقد وفقط، بل قطع شوطًا كبيرًا في مسار التغيير، مهما كان مكلفًا، إذ ألمح إلى ضرورة إعادة النظر في المشهد الدرامي بأكمله، حتى لو تتطلب الأمر التضحية بـ20 إلى 30 مليار جنيه، لأجل تقديم محتوى يليق بالمنظومة الأخلاقية ويرتقي بقيم المصريين، هذا في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمة اقتصادية خانقة، دفعها للاستدانة من مختلف الدول والمنظمات والصناديق الدولية، الأمر الذي يعكس رغبة ملحة في البحث عن حل سريع لـ "أزمة الدراما" كما يسميها الإعلام المصري.

السيسي لم يتوقف عند حاجز النقد وفقط، بل قطع شوطًا كبيرًا في مسار التغيير، مهما كان مكلفًا، إذ ألمح إلى ضرورة إعادة النظر في المشهد الدرامي بأكمله، حتى لو تطلب الأمر التضحية بـ20 إلى 30 مليار جنيه

وبالفعل تعاني الخارطة الدرامية المصرية هذا الموسم من توليفة كارثية، حيث العزف على وتر البلطجة والخيانات الأسرية والمخدرات، وتقديم صورة مغايرة بشكل كبير عن الواقع الفعلي، على الأقل السمت العام للمجتمع المصري، وهو ما استفز كثير من المصريين قبل أن يستفز السيسي نفسه.

ليست المرة الأولى

ليست هذه هي المرة الأولى التي يعبر فيها الرئيس المصري عن تململه من أداء الإعلام والفن بصفة عامة، وابتعادهما بشكل كبير عن المهمة الرئيسية التي توكل إليهما في تشكيل الوعي المجتمعي، ففي بداية توليه السلطة أثنى على أداء المؤسسات الإعلامية إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكيف أنه كان مساندًا له، قائلًا "عبد الناصر كان محظوظ، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه"، وهو التصريح الذي فُهم منه عدم رضاه على أداء الإعلام المصري في ذلك الوقت.

وفي أيلول/سبتمبر 2024 أعرب عن عدم رضاه عن الصورة النمطية لضباط الشرطة في الأعمال الدرامية التي عُرضت خلال السنوات الأخيرة، خاصةً ما يتعلق بالتدخين وتصدير صورة أن كل العاملين في السلك الشرطي مدخنين بشراهة، مطالبًا بإعادة النظر في تلك الصور بما يحافظ على صورة المؤسسات العامة وفي نفس الوقت لا تتعارض مع الواقع الفعلي.

وكثيرًا ما عبر السيسي عن عدم رضاه عن أداء الإعلام المصري، الرسمي والخاص، في مواجهة الإعلام الخارجي لا سيما إعلام المعارضة، وضرورة التصدي لحملات التشويه وما يُردد من خلاله من شائعات وأكاذيب على حد قوله، مهددًا بالشكوى إلى الله يوم القيامة واختصام كل المتجاهلين للمشروعات والإنجازات التي تقوم بها الدولة خلال السنوات الأخيرة.

تشكيل لجان ودراسات.. الحل السهل والتقليدي

ما إن انتهى السيسي من حديثه ومطالباته بإعادة تقييم المشهد الدرامي حتى سارعت العديد من الجهات والمؤسسات، الرسمية والمجتمعية، التي تعاملت مع هذا التململ كتعليمات واجبة التنفيذ، لتبدأ على الفور في ترجمتها إلى إجراءات وقرارات عاجلة:

- الحكومة المصرية وعلى لسان رئيسها مصطفى مدبولي، أعلنت عن تشكيل مجموعة عمل متخصصة لوضع صياغة ورؤية مستقبلية واضحة للإعلام والدراما المصرية، تضم كل الجهات المعنية بملف الإعلام والدراما في مصر، وهي وزارة الثقافة، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للإعلام، وكذلك الشركات المعنية بعملية الإنتاج ومنها الشركة المتحدة، بالإضافة إلى نخبة من المتخصصين في هذا المجال، وكذلك أساتذة الجامعات والكتاب والمؤلفين والمخرجين والمتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس؛ حتى يتسنى وضع تصور علمي وموضوعي لمستقبل الدراما المصرية.

- أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز، وهو الجهة المنوط بها الإشراف على المنظومة الإعلامية في مصر، قرارًا بإعادة تشكيل لجنة الدراما، لتكون برئاسة الكاتبة والناقدة الفنية ماجدة موريس، كما قرر إضافة المخرج  أحمد صقر لعضوية اللجنة، مع الإبقاء على التشكيل السابق كما هو، وتختص تلك اللجنة بمتابعة ودراسة ورصد الأعمال الدرامية التي تعرض في وسائل الإعلام، وإعداد تقرير بهذه الدراسة، وفحص المخالفات التي يجري رصدها، والتحقق من ثبوتها واقتراح القرار المناسب لها، ومتابعة الالتزام بتطبيق المعايير والأعراف المكتوبة "الأكواد" الصادرة عن المجلس بقرار رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 62 لسنة 2019.

- حزب "الجبهة الوطنية"، الذي يعتبره البعض الظهير السياسي للنظام،  كلف أمانة الثقافة والتراث والفنون بالحزب، بضرورة إعداد دراسة حول أوضاع الدراما في مصر، وما آلت إليه، فيما أشار رئيس الحزب أن الدراما حتى الآن لم تعكس التطورات التي جرت في الدولة المصرية من القضاء على العشوائيات والمناطق الخطرة، وتوفير حياة كريمة لسكانها كأحد مكتسبات الجمهورية الجديدة.

السؤال هنا: أين تكمن أزمة الدراما؟

فُهم من كلام السيسي كما فسره مقربون بأن أزمة الدراما تتمحور في تحويلها إلى تجارة واستثمار وأن الحل هو عودة الدولة مرة أخرى للمشهد وتدخلها في صناعة الدراما من خلال ضخ عشرات المليارات لتحسين المسار، غير أن هذا الفهم يجافي الواقع بشكل كبير، بل يناقضه في كثير من  محطاته.

المتابع للخارطة الإعلامية والدرامية المصرية خلال السنوات الأخيرة يجد أنها ما خرجت أصلًا عن سيطرة الدولة وإشرافها بشكل شبه نهائي، من خلال الشركات التابعة للأجهزة السيادية، بدءً من "إعلام المصريين" وصولًا إلى "المتحدة للخدمات الإعلامية"، بما يعني أن الدراما لم تخرج من الأساس من تحت عباءة الدولة ليُطالب اليوم بإعادتها إليها.

ومن ثم تنحصر أزمة الدراما المصرية في مجملها في مشكلتين أساسيتين:

الأولى: الاحتكار.. حيث هيمنت "المتحدة للخدمات الإعلامية" على المشهد الإعلامي والفني بصورة شبه كاملة، لتتحول صناعة الإنتاج الدرامي من مهمة العشرات من الروافد الإنتاجية والفكرية المتعددة التي تثري الساحة برؤى وأفكار مختلفة، إلى مهمة كيان واحد، يتحدث بلسان واحد ويفكر بعقلية واحدة، ويسيطر عليه هوى واحد.

هذا الاحتكار أجبر شركات إنتاج كثيرة على تجميد نشاطها، ومن ثم ضُرب الإبداع في مقتل، فيما قُتلت التنافسية بشكل جذري، بل وصل مداه إلى رسم خارطة جديدة للفنانين والمخرجين، فالمحظيين هم من سينالون شرف التعاون والعمل، أما المغضوب عليهم فلا مكان لهم، وهو ما ساهم مع مرور الوقت في تفريغ الساحة من الكثير من رموزها الفنية على مدار سنوات، فيما تصدر المسرح أسماء عليها الكثير من علامات الاستفهام بشأن المحتوى الذي تقدمه وتأثيره الشديد في تسطيح الوعي وتجهيل العقل الجمعي، وهي السلبيات التي اعتراض عليها الرئيس مؤخرًا.

الثانية: الرقابة.. من موبقات الدراما المصرية أن القائمين عليها ملكيين أكثر من الملك نفسه، بمعنى أنهم وبدافع ذاتي صرف يفرضون رقابة مشددة على المحتوى المقدم خشية الخروج عن النص، متوهمين أنهم بذلك يحصنون الدراما من أي أفكار خارجة أو مشوهة تؤثر على المزاج العام المصري ومن ثم تكوينه العقلي والنفسي.

ومن هنا فُرضت قيود صارمة على اللوحة الدرامية المصرية خلال الآونة الأخيرة، حتى لو كان بدافع وطني، فتخلت الدراما عن ثراءها المعهود، وتحولت إلى مسخ متشابه حد التطابق، الالتزام بمسارات محددة دون غيرها، وتجريم وتحريم أي مساحات للإبداع، لتفقد حضورها وتبتعد كثيرًا عن منصات الريادة والتتويج، وتسمح لتجارب أخرى ناشئة أن تسحب البساط من تحت أقدامها.

فرض الوصاية ليس الحل

بعد حديث الرئيس وماراثون الهرولة نحو تشكيل اللجان وإعداد الدراسات والأبحاث لتقييم المشهد، تتصاعد المخاوف من تفاقم الأزمة لا حلها، من تعميقها لا تطهيرها، فالصورة الذهنية لمثل تلك التحركات تذهب باتجاه فرض المزيد من القيود، حيث خضوع كافة الأعمال للرقابة تحت زعم دراسة مدى حفاظها على القيم والأخلاق وعكسها لصورة المجتمع المصري من عدمه.

القيود ذاتها ستُفرض ابتداء على الفكرة والقضية المطروحة للنقاش، ثم تمتد إلى السيناريو المكتوب والتدخل في بعض تفاصيله، مرورًا بأداء الممثلين والإخراج، وصولا إلى خروج العمل ومدى ملائمته للمطلوب، أي باختصار نوع من فرض الوصاية بشكل عملي على الأفكار ووسائل التعبير عنها.

تثبت كافة التجارب في مختلف البلدان أن الحرية هي المتغير المستقل نحو الإبداع والنهوض والرخاء الفني، وأن أي مسارات أخرى مهما كانت قوية لا تتضمن فتح المجال للتنافسية الإيجابية

المخاوف تتصاعد هنا من الإصرار على توجيه العمل بما يتماشى مع الصورة الذهنية والرسالة المطلوبة التي يحاول القائمين على صناعة الدراما توصيلها، وهو ما يعني أن يتحول العمل الدرامي إلى نشرة علاقات عامة موجهة أو رسالة سياسية أو فكرية أيديولوجية في عباءة درامية، وفي الغالب فإن مثل تلك النظريات لا تحقق أي مردود إيجابي.

العمل الدرامي في فلسفته يستند على الحرية، غير المنفلتة بطبيعة الحال، حرية اختيار الفكرة ومنح المؤلف الأريحية والمساحة الكافية للإبداع، كذلك منح شيك على بياض لطاقم العمل، فنانين ومخرجين، لإخراج أفضل ما لديهم دون شروط أو قيود أو سقف يحدد جغرافية إبداعهم، حتى يخرج العمل في شكله النهائي مؤثر وله حضور وقادر على إحداث التغيير، إذ أن أي تدخل في أي من مراحل العمل ستفقده جزءً من تأثيره.

وهنا تساؤل مهم: هل يقبل المتلقي (الجمهور) بمثل تلك الأعمال الموجهة؟ هل يتفاعل معها؟ هل يستجيب للرسائل التي تتضمنها مهما كانت إيجابية؟.. لاشك أن مثل تلك الأعمال لن تجد صداها المتوقع، خاصةً في ظل الوعي النسبي لدى شريحة ليست بالقليلة من الجمهور، حتى من ينطلي عليهم هذا التوجه سيكون التأثير إما محدودا أو مؤقتًا، فالتوجيه عمره قصير كونه لا يخاطب العقل ولا يحترمه.

المؤلف محمد سليمان عبد المالك، الذي يعرض له هذا الموسم مسلسلا "شباب امرأة" و"شهادة معاملة أطفال"، يرى أن حديث السيسي كان مقصودًا به "اللجوء إلى أهل الاختصاص من علماء اجتماع"، وأن الاستعانة بهؤلاء العلماء المتخصصين ليس بها "رقابة أو وصاية بقدر ما فيها محاولة فهم سوسيولوجي للمحتوى الدرامي الذي يستهلكه الجمهور"، مشددًا على أنه "لن يتغير أي شيء إذا استمر الوضع على ما هو عليه بتلخيص الموضوع في لجان وتوصيات ورقابة".

تثبت كافة التجارب في مختلف البلدان أن الحرية هي المتغير المستقل نحو الإبداع والنهوض والرخاء الفني، وأن أي مسارات أخرى مهما كانت قوية لا تتضمن فتح المجال للتنافسية الإيجابية والتشاركية البناءة وغلق الباب أمام أي محاولة للهيمنة والاحتكار، لن تؤت ثمارها، فالترهيب وفرض الوصاية - حتمًا ومع مرور الوقت - سيكتبان السطر الأخير في حياة الدراما المصرية.