22-أغسطس-2020

ميا كوتو سنة 2014 في العاصمة البرتغالية لشبونة (هوراشيو فيلالوبوس/Getty)

تأخر وصول أعمال ميا كوتو (1955) إلى اللغة العربيّة سنواتٍ طويلة مقارنةً بغيره من الكتّاب الأفارقة. لكنّها في النهاية وصلت مُحمّلة بحكاياتٍ فتحت للقارئ العربيّ أبوابًا جديدة على بيئة لطالما كان التعرّف عليها واكتشاف عوالمها أمرًا مُغريًا بسبب تاريخها وتركيبتها وتنوّعها اللغويّ والثقافيّ أيضًا، عدا عن أنّ مصيرها يبدو متقاطعًا مع مصير بعض الدول العربية، على الأقلّ لجهة اعتبارهما عالمًا ثالثًا يتقدّم إلى الخلف بفعل ظروفه وتحوّلاته المأساوية.

تنشغل أعمال ميا كوتو بتفكيك وتشريح آلية العنف الذي تفرزه الحروب وتزرعه داخل من ينخرط فيها

الكاتب والروائي الموزمبيقيّ الذي تعود أصوله إلى البرتغال، احتلّ موقعًا بارزًا في المشهد الأدبيّ الإفريقيّ والعالمي أهّله ليكون واحدًا من أشهر الكتّاب الأفارقة البيض الناطقين باللغة البرتغالية، وكاتبًا عالميًا نُقلت أعماله إلى أكثر من 20 لغة تعرّف قرّائها على بيئة مُهملة أضاء عتمتها عملًا وراء آخر بهدف الوصول إلى عوالمها الموازية أو المخفيّة، وهي عوالم مُتخيّلة بطبيعة الحال، لا وجود لها إلّا داخل مخيّلة السكّان المحليّين الذين نقلوها إلى الآخرين من خلال الحكايات والأقاويل التي تنطوي على سحر جاهد ميا كوتو لنقله دون إضافاتٍ تُفسد جاذبيته وخصوصيته.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت".. ذكريات ويوميات ومراسلات

العودة إلى تحليل الأرضية الصلبة التي شُيِّدت عليها غالبية أعمال كوتو، تُفيد في اكتشاف العامل الذي اتّكئ عليه أثناء بنائه لعمارته السردية، وهو الموروث المحلّي/ الشعبيّ العجيب والغريب والمُريب الذي عايشه وخبره بصفته موزمبيقيًّا ينتمي إلى هذه البيئة التي يتناولها في أعماله انطلاقًا من جهة نظر عكسية، وهي وجهة نظر الآخر، طالما أنّ "الآخر" في الثقافة العربية والإفريقية هو الإنسان الغربيّ. 

لا يمكن القول إن ميا كوتو غربيًا/ أوروبيًّا تمامًا، ولكنّه في المقابل ليس إفريقيًّا خالصًا أيضًا، ولهذا السبب اختار لنفسه موقعًا يكون فيه داخل المسافة الفاصلة هوياتيًا، بكل إكراهات التباعد والتقارب وفقًا لطبيعة النصّ المكتوب ومدى اتّصاله بتلك التناقضات التي يعيش داخلها بفعل هذه الهويّات المُتداخلة التي تجعل من عملية الكتابة عنده، في جانبٍ منها، وسيلة لتجاوز الحدود القائمة داخل كلّ هويّة، بثقافاتها ولغاتها وعاداتها المُختلفة، بالإضافة إلى أنّها عملية مُحاكمة لأزمنةٍ عنونتها الحروب المُتتالية. 

للحرب حضور ثابت تقريبًا في غالبية أعماله، يُعاينها ويُطارد آثارها في روايته "مدوزن الصمت" (دار دال، 2017) بلغة تهكّمية سوداوية متّسقة مع اشتغاله على تفكيك وتشريح آلية العنف الذي تفرزه الحروب وتزرعه داخل من ينخرط فيها، تمامًا كما هو حال أحد ابطاله العمل الذي يتخلّص من العنف الذي تسرّب إليه أثناء الحرب من خلال ممارسته ضدّ الآخرين، بشرًا وحيوانات.

أمّا في ثاني أعماله المنقولة إلى العربية "اعترافات شرسة" (دار الآداب، 2019) ترجمة مارك جمال؛ تحضر الحرب بشكلٍ مُغاير، إذ إنّها لا تدور هذه المرّة بين البشر، وإنّما بينهم وبين مجموعة أسود مفترسة تبثّ الرعب داخل قرية صغيرة يتضاءل عدد سكّانها في كلّ هجمة لهذه الحيوانات القادمة وفقًا لتوقّعات سكّان القريّة، من العالم الآخر الخفيّ.

في روايته الصادرة حديثًا "أرض تسير نائمة"، بالترجمة العربية عن (دار الآداب) ترجمة مارك جمال، وهي أولى رواياته، يُقدّم ميا كوتو حكاية قائمة على عملية مزج بين الوثيقة والفنّ، يروي من خلالها أحوال موزمبيق خلال الحرب الأهلية التي تلت حرب الاستقلال، والظروف التي أفرزت واقعًا جديدًا عناوينه العريضة الهجرة والمنفى وأوجاعها التي يضطّر الفرد لاختبارها مرغمًا في سبيل الخلاص من الكارثة القائمة والبحث عن مكانٍ جديد لا يهمّ ما إذا كان محكومًا بالاستبداد أو لا. إذ يكفي أن يكون بإمكان المرء في المكان المستجد ممارسة الحياة الضائعة والمسلوبة على يد الحروب التي تُحيل الوطن مجرّد كابوس مؤرّق للذين فشلت الحروب في تغيير تصوّراتهم حول الخيال والواقع، على غرار أبطال الرواية الذين يسلكون طريقًا مهجورًا بحثًا عن النجاة، فيصادفون في طريقهم كراسات وردت فيها وقائع رحلة باتّجاه فئة من المقاتلين الذين حملوا على عاتقهم مهمة قتال صنّاع الحروب.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضوء موجود في ظلام زمن الحرب