04-مارس-2018

من اقتحام مقر أمن الدولة بمدينة نصر شرق القاهرة لمنع فرم المستندات (أحمد علي/ أسوشيتد برس)

منذ سبع سنوات، في آذار/مارس 2011، وعبر ممرات ضيقة ذات تهوية سيئة، زنازين بلا نور والأبواب حديدية، يقول أحدهم "كنت هنا لستة أيام معصوب العينيين ومقيد بكلابش حديدي"، وآخر يتذكر كيف استمر لأسبوع لا يرى النور، وغيرها من الشهادات حول مقرات أمن الدولة في مصر أو كما كان يسميها العامة "سلخانات الأمن". 

​تبدّل اسم أمن الدولة في مصر إلى الأمن الوطني لكن الاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب وحتى المباني سيئة السمعة، جميعها ظلت موجودة

روايات تتشابه أغلبها مع الروايات الحديثة حول الإخفاء القسري خلال السنوات القليلة الماضية. نعم "أمن الدولة" تحول لـ"الأمن الوطني" بقرار اتخذ في 15 آذار/مارس 2011، غير أن التعذيب والاعتقال دون سند قانوني مازال مستمرًا، وإن تغيرت الوجوه والأشخاص، يظل الأسلوب والتعذيب، وحتى المباني، مشتركات.

اقرأ/ي أيضًا: الإخفاء القسري في مصر.. جريمة ممنهجة في سراديب أمن الدولة

أعدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير، تقريرًا ينعش الذاكرة، حول فرم وإتلاف مستندات أمن الدولة. ويرصد التقرير الذي اطّلع عليه "ألترا صوت" شهادات وروايات نشطاء ومتظاهرين ومصابين في القاهرة والإسكندرية، خلال اقتحام مقار أمن الدولة الذي أعقب الثورة المصرية مباشرة.

الاقتحام

كانت البداية من الإسكندرية، حيث انتشرت الشائعات حول تخلص ضباط أمن الدولة من مستندات وأوراق داخل الجهاز. حاول البعض حث الجيش -المسؤول في ذلك الوقت عن تأمين مقار أمن الدولة- على التدخل ومنع الفرم والحرق، ولكن الضباط رفضوا ذلك -وفقًا لشهادات نقلها التقرير- والتي أشار بعضها للتعاون بين مختلف القوى السياسية كمحاولة لمنع حرق المستندات. 

وتوجه المتظاهرون في الرابع من أذار/مارس 2011، إلى مقر أمن الدولة بالإسكندرية في منطقة الفراعنة، وحاصروا المبنى، وقام ضباط أمن الدولة داخل المقر بالاشتباك مع المتظاهرين عبر إلقاء زجاجات المولوتوف وإطلاق الرصاص، ورد المتظاهرون بالحجارة. وأصيب خلال الاقتحام نحو ثلاثة متظاهرين. خبر اقتحام أمن الدولة الإسكندرية بالفراعنة، أثار عدد آخر من المحافظات في مقدمتها القاهرة، وكان أبرز اقتحام حدث لمقر أمن الدولة في مدينة نصر في اليوم التالي، الخامس من أذار/مارس 2011.

ينقل التقرير روايات الشهود أمام مقر أمن الدولة في كل من اﻹسكندرية والقاهرة، وروايات بعض المعتقلين السابقين، فينقل مثلًا عن ياسر، وقد أُصيب بطلق ناري خلال اقتحام أمن الدولة بالإسكندرية، قوله: ""الناس كانوا عاملين زي كرنفال للمضطهدين والمعذبين اللي اتعذبوا في الجهاز ده، كان كل الناس بتكشف عن مظلوميتها، اللي بيحكي إيه اللي جراله، واللي بيكشف عن جسمه يورينا هما كانوا عملوا فيه إيه". تلقى ياسر رصاصة، ولم يتمكن من مشاهدة ردود فعل المعتقلين السابقين، عندما نزلوا للزنازين، وهو المشهد الذي يسرده براء، وهو شاهد عيان على اقتحام مقر أمن الدولة بمدينة نصر في القاهرة. ونقل براء ردود فعل المعتقلين السابقين حين رأوا أدوات التعذيب التي استخدمت ضدهم، وأنواع الزنازين داخل المقر، والتي يقبع بعضها تحت الأرض تمامًا، بلا منافذ للتهوية.

الصراع مستمر

الشهادات تدعم ما أشار له التقرير إلى أن سقوط جهاز أمن الدولة يُعد "نصرًا رمزيًا" للثورة، فالجهاز كان له سياسة ممنهجة في التعذيب البدني والنفسي في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وكان كشف قضايا التعذيب وفضح ممارساته عاملًا مؤثرًا في الحراك السياسي. ولفت التقرير الانتباه إلى الصراع القائم بين المشاركين في الثورة من جهة والنظام الحالي تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي من جهة أخرى، حول نتائج ما حدث في كانون الثاني/يناير 2011. 

المشاركون في الثورة يرون أن القمع مستمر وجميع قيادات الداخلية بُرّئت، حتى أن جميع المتهمين في قضية فرم المستندات وكان عددهم 41 متهمًا، حصلوا على البراءة، إذن لا حساب حقيقي لتبقى ممارسات المسؤولين والضباط في جهاز أمن الدولة بلا رادع من القانون. 

في المقابل هناك ما يعرف بالقضية 250، وهي إحدى القضايا التي اعتاد الإعلام المقرب من الجهات الأمنية وبعض الضباط السابقين، تهديد النشطاء بها، وخاصة من شارك في اقتحام مقرات أمن الدولة. وقد أشار التقرير إلى أنّ أغلب المشاركين في الاقتحامات، يخشون الاعتقال على ذمة القضية.

ويسعى النظام  بكل السبل للتأكيد على أن 25 كانون الثاني/يناير هو عيد الشرطة، في محاولة لطمس تاريخ الاحتجاجات وتصويرها كمؤامرة. ووصل الأمر برأس السلطة  -الرئيس المصري- للقول: "الكلام اللي اتعمل من سبع تمن سنين (الثورة) مش هيتكرر تاني في مصر". 

الصراع بين مؤيدي الثورة والنظام الحالي يتشابك مع قضية اقتحام أمن الدولة بشكل واضح وكبير، خاصة مع الأوضاع الحالية التي يتصاعد فيها الحديث عن التعذيب والإخفاء القسري. ويشير التقرير إلى أنه بالرغم من مرور نحو سبع سنوات على اقتحام أمن الدولة، فإن سياسات عدم الشفافية لا زالت موجودة، بالإضافة للسماح للأجهزة الأمنية بالعمل خارج إطار القانون.

 الصراع بين مؤيدي الثورة وبين نظام السيسي يتشابك مع قضية اقتحام أمن الدولة، خاصة مع تصاعد الحديث عن التعذيب والإخفاء القسري

وحاولت الدولة عبر عدة محاور التشكيك في نوايا المشاركين في الثورة، وبالضرورة المقتحمين لمقرات أمن الدولة لمنع حرقها، وزعم في المقابل أن غرضهم كان "تسريب أسرار الدولة". كما لا زالت وسائل إعلام موالية للنظام، تصف المتظاهرين في ذلك اليوم بـ"البلطجية". ونقل التقرير شهادات تنفي أن يكون هناك مستندات هامة وجدها المتظاهرون بعد الاقتحامات، إذ كان أغلبها تخص متابعة الضباط للعلاقات الشخصية للسياسيين ورجال الأعمال!

اقرأ/ي أيضًا: "أشياء لا تصدق".. تقارير جديدة تفضح جرائم التعذيب لدى أجهزة الأمن المصرية

أين المستندات؟

إذًا أين المستندات إن لم يجد المقتحمون أي مستند هام؟ شدد التقرير على ضرورة الكشف عن الأرشيف الأمني لجهاز أمن الدولة، في إطار "السعي لتحقيق عدالة تاريخية وانتقالية بعد الثورة المصرية". 

ويحاول التقرير البحث في مصير الأرشيف والتاريخ القمعي لجهاز أمن الدولة في مصر بكافة مسمياته، وأهميته كحامل تفاصيل الانتهاكات الممنهجة لحقوق اﻹنسان خلال عقود حكم حسني مبارك، في محاولة للبحث عن الحقيقة كخطوة للحفاظ على الذاكرة، وتحقيق العدالة اﻹنتقالية، ولمنع تكرار تلك الانتهاكات ثانية أو بالأحرى لتتوقف اﻵن وفورًا.

وتساءل التقرير عن أين ذهب أرشيف "سري للغاية"؟ مع العلم بأن مستندات أمن الدولة تختلف أهميتها بدءًا من "ضعيف" ثم "سري" ثم "سري جدًا" ثم "سري للغاية". ويجيب عن هذا السؤال أقوال كبار الضباط في التحقيقات، مثل أقوال اللواء حسن عبدالرحمن رئيس جهاز أمن الدولة الأسبق، والذي قال في التحقيقات: "أرشيف سري للغاية ما زال في حوزة أمن الدولة ومحفوظ في الأرشيف المركزي لأن خروجه وتسريبه كان سيمثل مساس بالأمن"، وذلك ضمن سياق تأكيده على إصدار أوامر للمقارات الفرعية بالتخلص من الأوراق الهامة منذ شباط/فبراير 2011 أي قبل شهر من الاقتحام.

أقبية وسراديب أمن الدولة أثناء اقتحام المتظاهرين لها (أحمد علي/ أسوشيتد برس)
أقبية وسراديب أمن الدولة أثناء اقتحام المتظاهرين لها (أحمد علي/ أسوشيتد برس) 

وقد أكد على ذلك اللواء هشام عبد الفتاح أبو غيدة، رئيس جهاز أمن الدولة السابق، المعين في الثاني من أذار/مارس 2011، أمام النيابة العامة، إذ قال إن حسن عبدالرحمن أصدر أوامره بالتخلص من الأوراق والملفات قبل شهر من الاقتحام تقريبًا.

وأكد السيد اللواء خالد ثروت وكيل الإدارة العامة في مباحث أمن الدولة، باعتباره أقدم الضباط بالإدارة العامة لمباحث أمن الدولة بالقاهرة في ذلك الحين في الخامس من آذار/مارس 2011؛ أن أربع سيارات نقل كبيرة تابعة لمديرية أمن القاهرة، قامت بنقل الأرشيف السري للغاية من مقر جهاز أمن الدولة، وعقب ذلك اُقتحم المقر، ثم تم استلامه بمعرفة القوات المسلحة.

وفي السادس من آذار/مارس 2011، وعقب دخول النيابة للمقر للتحقيق، تم تسليم ما تبقى من أوراق للقوات المسلحة، وتحديدًا للعميد في المخابرات الحربية محمود يونس، واستلم المستندات والأوراق واﻵلات والأدوات وأجهزة الحاسب اﻵلي الموجودة بمقر مدينة نصر، وتم تسليم كافة ما تم التحفظ عليه سواء في المقر أو المضبوط وبحوزة النيابة العامة إلى اللجنة العسكرية المختصة بالقوات المسلحة.

دور الجيش

علاقة الجيش بالاقتحامات ما زالت ملتبسة، ولم يعلن التقرير بشكل مباشر هل كان الجيش متورطًا أم لا، ولكن التقرير أورد عدة نقاط هامة عبر صفحاته، من بينها أن الجيش كان مسؤولًا عن تأمين مقرات أمن الدولة من الخارج، وعندما علم بعض المتظاهرين بحرق الأوراق توجه بعضهم لمقر أمن الدولة في الفراعنة بالإسكندرية، وطالبوا الجيش بالتدخل، فرفض الضابط المسؤول، وطلب منهم التوجه لمقر القيادة الشمالية للجيش، ولم يستجب أحد لطلبهم فقاموا بالدعوة للتظاهر.

نقل التقرير بعض الشهادات التي تشير لتسليم المتظاهرين للمستندات التي نجحوا في إنقاذها من الحرق والإتلاف، إلى قوات الجيش والنيابة العامة التي حضرت في نهاية اليوم، وهم يهتفون: "أمانة.. أمانة"، و"الشعب خلاص أسقط النظام"، وذلك بعد أن تلقوا وعودًا بفتح التحقيق في تاريخ انتهاكات أمن الدولة وكذلك في وقائع الحرق والإتلاف. ولا يعلم أحد أين تلك الملفات والمستندات. 

علاقة الجيش باقتحامات أمن الدولة غامضة، خاصةً وأن قوات الجيش اختفت وقت الاقتحامات مع أنها كانت مسؤولة عن حماية المباني الحكومية

النقطة الأهم عمليات الحرق، والتي تمت خلال تأمين الجيش للمقرات، وتشير الشهادات إلى أن أحد سيارات القمامة غادرت مبنى أمن الدولة بمدينة نصر كانت تحمل أوراقًا تم إتلافها، ولكن الجيش نفى أن يكون هناك أي حركة بالداخل. واختفت قوات الجيش خلال عملية اقتحام المتظاهرين لمقر الإسكندرية، ولم تمنع ضباط الشرطة داخل المقر من الاشتباك مع المتظاهرين، تلك الاشتباكات التي وفقًا للتقرير، انتهت بثلاث إصابات بالرصاص، وفي القاهرة اختفت أيضًا قوات الجيش وفقًا للشهادات، ثم عادت وظهرت بعد ساعتين، واكتفى المجلس العسكري بتسلم المستندات وطالب بعدم نشر أي منها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النظام المصري.. العيب في كل تجلياته

بعد فوزه بجائزة العفو الدولية.. النديم لـ"ألترا صوت": التعذيب في مصر انتقامي