أرشيف إدمون الخوري الفوتوغرافي: عدسة تقاوم محو الذاكرة
15 يونيو 2025
في قلب بيروت، المدينة التي تعرف كيف تنهض من الرماد، يفتتح "متحف سرسق" أبوابه هذا الشهر لعرضٍ استثنائي، يعيدنا إلى قلب أحداث الحرب الأهلية اللبنانية. تحت عنوان لا يحمله المعرض رسميًّا ولكنَّه يتردد في أروقة المكان: "بيروت كما رأتها عدسة إدمون الخوري". يستضيف المتحف معرضًا فوتوغرافيًّا، يخلِّد الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية؛ من خلال أرشيف نادر لمصور ظلّت بصمته شاهدًا على الحرب هو إدمون الخوري.
من القصر الرئاسي إلى خطوط التماس: عدسة واحدة لرؤيتين
لم تكن عدسته مُنحَازة، بل موثّقة، مسجّلةً اللحظات المهمة، الحياة والموت، في آنٍ واحد
لخمسة عشر عامًا، حمل إدمون الخوري كاميراته بين عالمين يختصران لبنان ما بين 1976 و1990، كمصور رسمي للقصر الجمهوري اللبناني ومصور لوكالة "دالتي ونهرا"، يتنقّل بين المواكب الرئاسية وخطوط التماس، بين القاعات المذهّبة وأزقة بيروت الشرقية والغربية المشتعلة. لم تكن عدسته مُنحَازة، بل موثّقة، مسجّلةً اللحظات المهمة، الحياة والموت، في آنٍ واحد. فقد عايش "الخوري" مرحلة من أكثر المراحل تعقيدًا في تاريخ لبنان الحديث، حين تحوّلت العاصمة إلى مربّعات أمنية، وفُرضت الحواجز بالمتاريس، وتصارعت الجهات المسلحة في الشوارع.
بدأت الحرب الأهلية اللبنانية رسميَّا في 13 نيسان/أبريل 1975، مع حادثة بوسطة عين الرمانة، لكنها في الواقع كانت تتويجًا لصراعات اجتماعية، طائفية، وسياسية متراكمة. سُرعان ما تمدّد الصراع بين الأحزاب اليمينية واليسارية، المسيحية والإسلامية، الفلسطينية واللبنانية، لتتشظى جغرافيا العاصمة. وسط هذا المشهد المتشظي، عمل إدمون الخوري على توثيق الواقع كما هو: التقط صورًا من مناطق متضادة، دون أن يقع في فخ السردية الواحدة، بل جعل من الكاميرا أداة تأريخ. وها هو المعرض، الذي يستمرّ حتى يوم السبت 21 حزيران/يونيو الجاري، يقدّم أكثر من مجرد صور أرشيفية؛ هو نافذة مفتوحة على الماضي، تجعل الزائر عابرًا لحدود الزمن، ليجد نفسه في شوارع مدمرة، أو على رصيف في أزقة بيروت الغربية، أو أمام برج المرّ؛ ذلك المبنى المهجور الذي تحوّل إلى رمز لحصار العاصمة، ولوجه الحرب الصامت الذي ما زال يطلّ على الحاضر من بين الركام.
عدسة تحترم المأساة ولا تستغلّها
لا يختزل المعرض الحرب الأهلية اللبنانية في كونها مجرد مادة بصرية أو مشهدية للاستعراض، بل على العكس، يتخذ من أرشيف المصور إدمون الخوري وسيلة للتأمل العميق في أثر الحرب على البشر. في هذا المعرض، تغيب النبرة الخطابية، وتحل مكانها مقاربة دقيقة، إنسانية، وهادئة. يسكن الصور صمتٌ ثقيلٌ، هو ليس صمت الموت، بل صمت الاحترام أمام مأساة الحرب. وجوه النساء وعيون الأطفال المتسعة على مستقبل مجهول، أجساد المقاتلين في لحظة استراحة، وشوارع مدمّرة تحولت إلى آثار حيّة، كلّها مشاهد لا تُروى بالكلمات، لكنها تفيض بما لا يُقال.
لم يكن الخوري مصورًا للحرب بقدر ما كان شاهدًا على أثرها في البشر. اختار أن يصوّر الناس لا الأحداث، الوجوه لا الاشتباكات. ولذلك، لا نجد في أرشيفه توثيقًا خطيًا لمسار المعارك أو تسلسلًا زمنيًّا للوقائع، صوره لا تؤرشف الزمن فقط، بل تنبض به، بما يحمله من تمزق وانتظار. إنها صور ظنّ البعض أنها طُويت مع صفحات الحرب، لكنها تعود هنا، في متحف سرسق، لا لتعيد سرد الماضي، بل لتفرض أسئلة الحاضر: هل انتهت الحرب فعلًا؟ أم أننا نعيش مجرد هدنة موقتة؟
بهذه العدسة التي ترفض المتاجرة بالألم، يحوّل المعرض أرشيفًا شخصيًّا إلى ذاكرةٍ جماعية، ويمنح للمأساة وجهًا بشريًّا لا يُمكن تجاهل ملاحمه.
حفيد يسترجع الذاكرة ويعيد أرشفتها
قرر حفيد المصور إدمون الخوري، أنطوان معلوف، أن يعود إلى تلك اللحظات التي التقطها جده بعدسته، وأن يمنحها حياةً جديدة
لم يبدأ هذا المعرض من جدران مكتبة المتحف أو من خطط المنسقين فقط، بل وُلد في قلب العائلة، وسط "النيغاتيف" والصور، حيث قرر حفيد المصور إدمون الخوري، أنطوان معلوف، أن يعود إلى تلك اللحظات التي التقطها جده بعدسته، وأن يمنحها حياةً جديدة. بين يديه، كانت تتراكم مئات الصور، أشرطة فيلمية، وأوراق محمّلة بذكريات لم تُروَ، في محاولة منه لإعادة ترتيب الحكاية التي لم تجد طريقها من قبل إلى النور.
ما فعله هذا الشاب لم يكن مجرد ترتيب صور قديمة، بل كان أشبه بمحادثةٍ طويلةٍ مع الماضي، ورغبة حقيقية في عدم تركه يضيع وأعطاه مكانًا يستحقه في الحاضر. فبين عامي 1976 و1990، كان جده يلتقط مشاهد من حياة الناس خلال سنوات الحرب: في البيوت، في الأزقة، في لحظات الخوف والانتظار. تلك الصور بقيت صامتة في العتمة، إلى أن قرر حفيده أن يمنحها فرصة جديدة للكلام.
هذا الجهد الشخصي يحمل معنى واسعًا. ففي بلد – كثيرًا – ما نسي أهله أن يسألوا عن تفاصيل ماضيهم، وفي ظل غياب أي محاولة لتقديم رواية عن ما جرى خلال الحرب، تأتي هذه المبادرة كفعلٍ بسيط لكنَّه عميق: تذكير، وإصرار على أن لا تُمحى الذكرى، وألّا تُختصر بالخطابات. الصور هنا لا تحكي فقط عن الألم، بل تقول إن هناك من قرر أن يتذكر، وأن يجعل الآخرين يتذكرون أيضًا، لا لتكرار المأساة بل ليفهموا ما جرى.
أطياف الحرب كلها حاضرة: لا إقصاء لأحد
ما يقدّمه المعرض ليس سردًا لحكاية فئة بعينها، بل مرآة تعكس تعدد التجارب وتشابك المصائر
من أبرز ما يميّز هذا المعرض أنه لا يختار جهةً على حساب أخرى، ولا يروّج لرؤيةٍ واحدةٍ للحرب، بل يفتح المجال أمام صورة أكثر شمولًا، تقرّ بتعقيد ما جرى. في الصور، نرى وجوهًا من مختلف الجهات والمناطق، رجالاً مسلحين ومدنيين، شبانًا أنهكتهم المعارك، ونساءً ينتظرن على الأرصفة، أطفالًا في الأزقة. لا غلبة لصوتٍ على آخر، ولا تغييب لوجهة نظر معينة، بل محاولة صادقة، لالتقاط صورة وطن كان يتفتت آنذاك.
ما يقدّمه المعرض ليس سردًا لحكاية فئة بعينها، بل مرآة تعكس تعدد التجارب وتشابك المصائر. تظهر المواقع التي كانت مسارح للمواجهة، وتظهر تفاصيل المدن كما كانت، قبل أن تتغيّر معالمها وتُعاد صياغتها. الشوارع، الجسور، المباني التي تحوّلت إلى خطوط تماس، تعود في الصور كمساحات تقاسمتها الأطراف المختلفة.
بهذا التوجّه، يوثّق إدمون الخوري الحرب على أنها نظرة تبتعد عن التبسيط، وتقاوم السرديات المنحازة، وتعيد التأكيد على أن ما جرى لم يكن حكاية طرف ضد آخر، بل فصلًا مؤلمًا من سيرة بلد بكامله.
أهمية المعرض اليوم: الذاكرة في مواجهة المحو
في بلد لا تملك ذاكرته مؤسسات تحميها، حيث الأرشيف يُفقد أو يُهمّش، ويُستبدل بالروايات المتضاربة، فإن معرضًا كهذا هو عمل مقاومة ضد المحو
في بلد اعتاد أن يطوي صفحاته دون أن يقرأها حتى النهاية، حيث يُعاد سرد التاريخ وتغييب حقائقه مع كل تبدّل في موازين القوى، يكتسب هذا المعرض أهميته القصوى؛ فهو لا يعرض مشاهد من الماضي فحسب، بل يضعنا وجهًا لوجه أمام ماضٍ ما زال حيًا في تفاصيل الحاضر. هذه الصور التي التُقطت في لحظات عادية خلال أكثر السنوات استثنائية في تاريخ لبنان، لم تُصنع لترف المعارض أو لزينة الجدران، بل وُلدت في قلب المعركة اليومية للحياة، ورافقت أنفاسَ الناس في زمن الاضطراب. لكنها اليوم، في صيف 2025، تعود لتأخذ مكانها كأرشيف حيّ، لا يجمّل شيئًا ولا يخفي شيئًا، بل يقدّم الحقيقة كما هي، بوضوحها الموجع.
في هذا الوقت بالذات، يصبح التذكير بالماضي مسألة ضرورة، لا ترفًا ثقافيًا، فالحرب الأهلية التي لم تُدرس في كتبنا المدرسية، تطلّ من هذا المعرض لتقول إن ما ظننّاه انتهى، ربما لم ينتهِ بعد. في صور إدمون الخوري، نرى البيوت التي هُدمت، نرى الخوف والانتظار، لكن نرى أيضًا إصرارًا خفيًّا على الاستمرار. وهذا ما يجعل المعرض أكثر من مجرد عرضٍ أرشيفي: إنه فرصة نادرة لننظر خلفنا لا لكي نبكي على الأطلال، بل لنتذكر ماذا يمكن أن يحدث إذا استسلمنا للنسيان.
في بلد لا تملك ذاكرته مؤسسات تحميها، حيث الأرشيف يُفقد أو يُهمّش، ويُستبدل بالروايات المتضاربة، فإن معرضًا كهذا هو عمل مقاومة ضد المحو: هو مرآة لما كان، وإنذار بما قد يكون.
ما بعد المعرض: خطوة أولى نحو أرشفة شاملة
رغم ما يحمله من ثقل بصري وتاريخي، لا يُقدَّم هذا المعرض كمجرد استعادة لصور الماضي، بل كنظرة أولية على مجموعة واسعة من أعمال إدمون الخوري، تسبق عملية أرشفة وتوثيق شاملة ستبدأ في الأشهر المقبلة. يعتزم متحف سرسق العمل بشكل وثيق مع مؤرخين وخبراء وطلاب جامعيين، لفهرسة هذه المجموعة الغنية، وتأطيرها ضمن سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، في محاولة لتسليط الضوء على إرث غني من تراث التصوير الفوتوغرافي في لبنان، ظلّ طويلاً في الظلِّ. هذا الجهد لا يكتفي بإحياء الماضي، بل يؤسس لمنهجية مستدامة في حفظ الصورة بوصفها وثيقة وذاكرة وهوية.
عندما تصبح الصورة مرآة للهوية
تدفعه إلى التفكير والتأمل، وإلى طرح الأسئلة التي غالبًا ما تُهمَل في خضم الانشغال بالحاضر: كيف وصلنا إلى هنا؟
قد يخرج الزائر من هذا المعرض مثقلًا بكآبة الصورة، فالمشاهد التي يمرّ بها لا توحي بالطمأنينة؛ لكن وسط هذا الثقل البصري ينشأ شعور أكثر أهمية: شعور بالوضوح، فالصور - رغم قسوتها - لا تغرق المشاهد في الحزن السلبي، بل تدفعه إلى ما هو أبعد من الانفعال العاطفي. تدفعه إلى التفكير والتأمل، وإلى طرح الأسئلة التي غالبًا ما تُهمَل في خضم الانشغال بالحاضر: كيف وصلنا إلى هنا؟ ماذا نعرف فعلًا عمّا جرى؟ وماذا تبقّى من تلك المرحلة في تفاصيل حياتنا اليومية، في كلامنا، في خوفنا، في علاقاتنا؟
هذه الصور لا تفرض إجابات، بل تفتح المجال لتعدد القراءات، وتترك كل زائر في مواجهة فردية مع تاريخه. البعض قد يرى فيها بوحًا متأخرًا، والبعض الآخر يراها مرآة لماضٍ حاول أن ينساه، لكن الجميع سيخرج منها بتساؤلات لا يمكن تجاهلها. وهذا هو جوهر المعرض: أنه لا يقدّم الحرب كقصة منتهية، بل كجذر لا يزال يمتدّ في الحاضر.
في هذا المعنى، لا يمكن اعتبار معرض إدمون الخوري في متحف سرسق مجرد تحية إلى مصوّر لم يُنصفه التقدير في حياته، بل هو نداء صريح إلى كل لبناني: أن يتوقف، ولو لبرهة، لينظر في وجه تاريخه دون تهيّب أو إنكار، لا ليحاكمه أو يمجّده، بل ببساطة ليفهمه. لأن الفهم، في زمن الخوف والنسيان، هو الخطوة الأولى نحو المستقبل.