05-يناير-2022

غسان كنفاني وغادة السمان (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.


في تموز/ يوليو عام 1992، أصدرت "دار الطليعة" في العاصمة اللبنانية بيروت، الطبعة الأولى من كتاب "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"، الذي ضم بين دفتيه 12 رسالة كتبها الأديب والمناضل الفلسطيني الراحل غسان كنفاني (1936 - 1972)، إلى الكاتبة والروائية السورية غادة السمان (1942)، التي أقدمت على نشرها بعدما رأت فيها: "وثيقة أدبية وسيرة ذاتية نادرة الصدق لمبدع عربي، مع الوطن المستحيل والحب المستحيل".

أثار صدور كتاب "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" جدلًا واسعًا ومشاداتٍ كلامية وسجالاتٍ ساخنة في الأوساط الأدبية والثقافية العربية

يعود تاريخ كتابة هذه الرسائل إلى عام 1966. وهي، وبحسب ما ذكرت السمان في تقديمها للكتاب، ما تبقى من رسائل كنفاني التي احترق بعضها حينما احترق بيتها في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية. تقول: "لو لم أكن قد احتفظت بهذه الرسائل في لندن – مصادفةً – لذهبت هي أيضًا طعمةً للنيران".

اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: رسائل محمود درويش وسميح القاسم

برّرت غادة السمان نشرها هذه الرسائل التي تفيض بالحب والهوى والعذاب والشكوى والمرارة، بقولها إنها: "لم تعد ملكًا لأحد، وإنما تخص القارئ العربي كجزء من واقعه الأدبي والفكري". وأضافت: "إنها رسائل تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر مما تدخل في باب الرسائل الشخصية بعدما انقضى أكثر من ربع قرن على كتابتها، فخرجت من الخاص إلى العام باستشهاد صاحبها قبل عشرين سنة".

ولفتت صاحبة "كوابيس بيروت" إلى أن نشر رسائل غسان كنفاني هو: "فعل رفض للخضوع لزمن الغبار الذي يكاد يتكدس في الحناجر، عصر التراجع صوب أوكار التزوير والمشاعر البشرية الجائعة أبدًا إلى حرية لا تؤذي، وإذا فعلت فعلى طريقة مبضع الجرح لا خنجر قاتل الظلام".

وبالإضافة إلى ما سبق، أوردت السمان في تقديمها للكتاب أسبابًا أخرى حثّتها على نشر الرسائل، منها: "رسم شخصية "الفدائي" من الداخل (...) ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم صورة "المناضل" في صورة "السوبرمان".. ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة، وفي رسائل غسان صورة للمناضل من الداخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتم تحويله من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية".

وشددت الكاتبة السورية في تقديمها على أن رسائل غسان: "وثيقة ثرية بأدب الاعتراف الذي تفتقر إليه مكتبتنا العربية. والرسائل بهذا المعنى تسد نقصًا سبقتنا الأمم الأخرى إلى العطاء في مجاله، وتؤسس لنوعٍ جميل من الأدب ما زلنا نتهيب أمام بحاره، ومَنْ أجدر من القلب العربي الثري للخوض في لجته".

لم تفلح المبررات التي أوردتها غادة السمان في تقديمها للكتاب في إقناع شرائح واسعة من القراء والمثقفين العرب، بأهمية وضرورة الخطوة التي أقدمت عليها. فبالإضافة إلى الاحتفاء الذي رافق صدوره، أثار الكتاب جدلًا واسعًا ومشاداتٍ كلامية وسجالاتٍ ساخنة في الأوساط الأدبية والثقافية العربية، حيث انقسم قراؤه بين فئةٍ استنكرت نشر السمان للرسائل، وأخرى رحّبت بهذه الخطوة.

اعتبرت الفئة الأولى أن نشر رسائل غسان كنفاني وطرحها على العام، هو انتهاكٌ لخصوصيته وتشويهٌ لصورته النضالية أيضًا، لا سيما أن الرسائل نُشرت بعد وفاته ودون إذنه. في حين ذهب البعض في استنكاره أبعد من ذلك، ورأى أن ما دفع غادة السمان إلى نشر الرسائل، هو رغبتها في الحفاظ على مكانتها في المشهد الثقافي والأدبي العربي من خلال ربط اسمها بقامة أدبية وثقافية ونضالية من طراز غسان كنفاني.

في المقابل، أيدت الفئة الثانية ما أقدمت عليه غادة السمان، ودافعت عنها بصفتها خطوة جريئة ساهمت في الإضاءة على جوانب مخفية من شخصية وحياة الأديب والمناضل الفلسطيني الراحل، وكشفت أيضًا عن جوانب غالبًا ما طالها الطمس والتعتيم لصالح الصفات والألقاب الكثيرة التي أُحيط بها بعد استشهاده.

شغل هذا السجال الصفحات الثقافية لكبريات الصحف والمجلات العربية، التي نشرت عددًا هائلًا من الآراء النقدية حول الكتاب. فبينما رأى الناقد الفلسطيني إحسان عباس أن الكتاب في شكله الحالي، ودون تضمين السمان لرسائلها إلى كنفاني، يمثّل: "نصف الحقيقة والذي يكون أحيانًا أشد تضليلًا من الكذب"، اعتبر الكاتب اللبناني أحمد بزون أن: "في الرسائل ما يمكن أن يقبل ككلام خاص فيه شيء من المساومة مع العشيقة، على الزوجة، لكن لا يمكن القبول به ككلام للنشر، ولا يمكن أن يكون الأديب الراحل، بالتالي، قد أذن بنشره".

الكاتب والروائي اللبناني الياس خوري كان له رأيه في هذا السجال أيضًا، حيث كتب في ملحق جريدة "النهار" البيروتية يقول: "رسائل كنفاني تكشف سلطة العشق، لكنها لا تكشف كل الحقيقة. فالحقيقة ناقصة. غادة السمان تقول إن رسائلها الجوابية لكنفاني ليست في حوزتها، ونحن لا نملك سوى تصديقها، لكنها لا تستطيع أيضًا أن تدعي أن ذاكرتها ليس بحوزتها أيضًا، فالإشارات التوضيحية التي كتبتها في أسفل الرسائل تدل على أنها ما تزال تذكر أدق التفاصيل".

تقول غادة السمان إنها أقدمت على نشر رسائل غسان كنفاني بعدما رأت فيها وثيقة ثرية بأدب الاعتراف الذي تفتقر إليه مكتبتنا العربية

من جهته، اعتبر الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار أن: "ما أقدمت عليه غادة السمان عبر نشرها الرسائل، لا يخلو من الجرأة، مهما كانت الدوافع إليه. هذا فضلًا عن الجانب الآخر الذي ربما لم تفطن له غادة السمان وهو إسهامها في نشر أول نص غرامي باللغة العربية، دون تدخل أو حذف أو مراعاة أو تورية". وعلى العكس تمامًا من الآراء السابقة، رأى حسب الله يحيى أن غادة السمان، وعبر نشرها لهذه الرسائل، قدّمت غسان كنفاني بوصفه: "عاشقًا مهزوزًا، ضعيفًا، يعاني من أمراض السكري، النقرس، الضغط العالي والواطئ.. لقد شوّهت غادة صورة غسان.. فهل يمكن أن نعد هذا "الذل" من الأدب؟".

اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".. نقد الهزيمة العربية

استمر سجال الكتّاب والمثقفين العرب حول ما أقدمت عليه غادة السمان لسنواتٍ طويلة، الأمر الذي جعل منه واحدًا من أهم السجالات الثقافية في تسعينيات القرن الفائت، لا سيما وأن عدد المشاركين فيه، من كلا الطرفين، قد بلغ نحو 200 كاتب وكاتبة من مختلف الدول العربية.