09-يونيو-2022
الروائي والمترجم الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (ألترا صوت)

الروائي والمترجم الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (ألترا صوت)

هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.


لم يكن جبرا إبراهيم جبرا (1929 – 1994) شخصية عابرة في المشهد الثقافي العربي. فبالإضافة إلى تجربته الروائية الفريدة، والمرجعية، في لغتها وأسلوبها وتقنياتها السردية، برز الأديب الفلسطيني الراحل بوصفه مثقفًا موسوعيًا، وصاحب مشروع ثقافي ضخم توزّع على الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، والفن التشكيلي، والسيرة الذاتية، والنقد الأدبي والفني، إضافةً إلى الترجمة، مما جعل منه علامة فارقة في المشهد الثقافي العربي، وأحد أعلام الثقافة العربية في النصف الثاني من القرن الفائت.

ساهم جبرا في تزويد المكتبة العربية بعناوين أدبية وفكرية مميزة، لكن إسهامه الأكبر في هذا المجال يبقى في ترجمته لأعمال شكسبير المسرحية

يُعرف جبرا إبراهيم جبرا في الأوساط الثقافية العربية بوصفه روائيًا أكثر منه فنانًا تشكيليًا، أو ناقدًا أدبيًا وفنيًا. لكنه يُعرف أيضًا، وبالقدر ذاته تقريبًا، بوصفه مترجمًا فذًا عبّرت ترجماته عن اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية والأدب الإنجليزي، الذي ترجم منه عناوين مميزة تنوعت بين الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، والمسرح، إضافةً إلى النقد الأدبي والفني وغيره.

مارس الأديب الفلسطيني الراحل الترجمة في مرحلة مبكرة من حياته، حيث يذكر في مقدمة كتابه "احتفال بالحياة" الذي صدر باللغة الإنجليزية عام 1988، أنه ترجم في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره بعض قصائد شكسبير، ودرايدن، وشيللي، وكيتس، وبايرون. وذلك إلى جانب بعض القصص القصيرة لأوسكار وايلد، وجورج مور، وإميل زولا، وغي دي موباسان، وجيكوف. ثم أنجز في التاسعة عشرة "حياة تشيللي" لأندريه موروا.

يقول مؤلف "الغرف الأخرى" في المقدمة ذاتها، إن هذه الترجمات منحته الفرصة لاختبار: "الإمكانيات الأسلوبية للغة العربية". ويشير، في السياق نفسه، إلى أن ممارسة الترجمة ارتبطت عنده برغبته في التعمق بالثقافة الأجنبية لا ليكون خبيرًا بها، وإنما لكي يرى: "ما يمكن نقله إلى الثقافة العربية من مصادر أخرى لجعل الثقافة العربية أكثر غنى، وأقوى طاقة على التعبير، وأشد قدرة على التحول إلى قوة دافعة نحو تغيير حركي (دايناميكي) في مجتمعنا".

مع ذلك، لم يكن جبرا يطمح إلى أن يكون مترجمًا، إذ يقول في حوار أجراه معه أحمد مصطفى عنتر، ونُشر في العدد 112 من مجلة "الدوحة" الصادر في نيسان/ أبريل 1985: "قد تندهش عندما أقول أنا في الواقع لا أحب الترجمة. لا أعشقها كطريقة للتعبير عن نفسي. هناك أناس اشتهروا كمترجمين كبار. أنا لم أطمح إلى هذا الدور لأنني طمحت أن أكون كاتبًا مبدعًا. لكنني منذ بدأت الكتابة ترجمت أيضًا".

ويضيف مؤلف "السفينة": "في فترة معينة الترجمة تكون ضرورية. الترجمة الجيدة تيسّر لنا فهم إنجازات الآخرين، وبذلك نستطيع الإفادة من تجربتهم أولًا، ونضع تجربتنا نحن إزاء تجربتهم ثانيًا (...) وقد كنت أترجم أحيانًا لكي أثبت أن الترجمة يمكنها أيضًا أن تكون قريبة من الإبداع في أشكالها وخدمتها للفكر وللأشكال الأدبية التي يمكن أن نستفيد منها".

يُعرف جبرا بوصفه مترجمًا فذًا عبّرت ترجماته عن اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية والأدب الإنجليزي الذي ترجم منه عناوين مميزة

ساهم جبرا إبراهيم جبرا في تزويد المكتبة العربية بعناوين أدبية وفكرية مميزة، ووضع بين يدي القراء العرب مجموعة واسعة من الأعمال لكتّاب لم يسبق أن تُرجمت أعمالهم إلى اللغة العربية، بينما لم يصدر لبعضهم الآخر أي عمل غير الذي ترجمه.

لكن إسهامه الأكبر في هذا المجال يبقى في ترجمته لأعمال شكسبير المسرحية، إضافةً إلى بعض قصائده، ومنها: "العاصفة" و"هاملت"، و"عطيل"، و"الملك لير"، و"مكبث"، و"الليلة الثانية عشرة"، و"السونيتات". ويقول جبرا، في هذا السياق، إن ما دفعه إلى ترجمة شكسبير، على كثرة ما تُرجم، هو نقل: "الزخم الموجود في الأصل إلى لغة قادرة وبإحكام حيث لا يقل العمل المترجَم ولا يختلف عن الأصل إلا بقدر ما في اللغتين من خلاف في أسرار كل لغة". إذ رأى أن: "الأعمال الأدبية في اللغات الأخرى تتمتع بشحنة ما يغفل الذين يترجمونها عن نقلها اهتمامًا بالفكر فقط. يعطون العرض دون الجوهر".

وإلى جانب مسرحياته وأشعاره، ترجم صاحب "الفن والحلم والفعل" بعض المؤلفات النقدية التي تناولت منجز شكسبير نقدًا وتحليلًا ودراسة، ومنها: "شكسبير والإنسان المستوحد: دراسة في الاغتراب" لجانيت ديلون، و"شكسبير معاصرنا" ليان كوت، و"ما الذي يحدث في هاملت؟" لجون دوفر ولسون.

لم تقتصر ترجمات جبرا على أعمال شكسبير، إذ نقل إلى العربية مجموعة واسعة من الأعمال الأدبية والنقدية، لعل أهمها رواية "الصخب والعنف" للروائي الأمريكي وليام فوكنر، الذي يُعتبر جبرا أول من قدّمه إلى العالم العربي. إضافةً إلى: "حكايات من لافونتين"، و"الأسطورة والرمز: مبادءئ نقدية وتطبيقات" لمجموعة مؤلفين، و"ألبير كامو" لجرمين بري، و"ما قبل الفلسفة: الإنسان في مغامراته الفكرية الأولى" لمجموعة مؤلفين، و"أدونيس أو تموز" لجيمس فريزر، و"آفاق الفن" لألكسندر إليوت، و"أيلول بلا مطر وقصص أخرى من الأدب الإنجليزي والأمريكي المعاصر"، و"ديلان تومس: مجموعة مقالات نقدية".

مارس جبرا إبراهيم جبرا الترجمة ليثبت أنها يمكن أن تكون أيضًا قريبة من الإبداع في أشكالها وخدمتها للفكر وللأشكال الأدبية

إلى جانب: "الأديب وصناعته: دراسات في الأدب والنقد" لمجموعة مؤلفين، و"الحياة في الدراما" لإريك بنتلي، و"قلعة آكسل: دراسة في الأدب الذي ظهر بين عامي 1870 – 1930" لإدمون ولسون، و"برج بابل" لأندريه بارو، و"ثلاثة قرون من الأدب" لمجموعة مؤلفين، ناهيك عن "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت.

وفي جميع ترجماته التي اتفق القراء والنقاد على فرادتها، بدا المثقف الفلسطيني الراحل حريصًا على وضع مقدّمات وافية حول العمل المترجَم تتضمن، غالبًا، تحليلات وتفسيرات وشروحات تساعد القارئ في فهمه.