"لقد فقدنا لاعبين مهمين للغاية هما بوكايو ساكا وغابريال جيسوس، لذا نفتقر إلى تسجيل الأهداف. نفتقر إلى لاعبين، نفتقر إلى خيارات في الخط الأمامي. الأمر واضح، نحتاج إلى بعض المساعدة لأننا كنا نعاني من نقص في الهجوم أصلًا والنقص بات أكثر عمقًا". كانت هذه تصريحات ميكيل أرتيتا مدرب آرسنال عن وضعية فريقه الهجومية، والتي طالب من خلالها بشكل واضح لعناصر هجومية إضافية.
هل قال أرسطو إن الإنسان حيوان سياسي؟، حسنًا ليس مهمًا في الحقيقة إن كنت تعرف الإجابة أم لا، ولكن الأهم أنك تعرف أن فن التموقع بين الخسارة والربح، هو ما يُكون أساسًا غريزة الإنسان، ربما هذا ما قصده أرسطو بالسياسة، وربما هي ذاتها أيضًا الغريزة السياسية التي قادت "جون سنو" في مسلسل "صراع العروش" إلى الهلاك.
ومن المؤكد أنك تعرف جيدًا قصة ذلك الطفل "اللقيط" وكيف أدار صراعاته السياسية من فتىً مهمش في "جدار الحراسة"، إلى رجلٍ يملك كل الثقة الجماهيرية والصلاحيات لحكم العرش الحديدي، ولكن بقرارٍ غريزي غريب عنه قتل شريكته "دينيريس"، ليخسر كل شيء وينفى للجدار مجددًا، وعندما طالب بالعفو، جاءته الإجابة من أنصاره مِمّن تطلب العفو؟ وقد كنت تملك جميع الصلاحيات؟ ربما تلك هي ذاتها إجابة أنصار آرسنال على أرتيتا، مِمّن تطلب بمهاجم وقد أصبحت تمتلك جميع الصلاحيات؟ وهل مطلبك في محله أصلًا؟
المنطقة الرمادية.. مرحلة الروح
"ندعم تمامًا قرار مجلس الإدارة الحالي بالتخلي عن توزيع الأرباح، مما يسمح بإعادة استثمار جميع الأموال الفائضة في النادي"، كان هذا رد رابطة مشجعي آرسنال الإنجليزي على دعوة أحد أعضاء مجلس الإدارة سنة 2007 إلى تقسيم الأرباح السنوية للفريق بين أعضاء مجلس الإدارة المستثمرين بالنادي.
تخاف جماهير آرسنال من "المنطقة السوداء" التي قد يضعهم فيها أرتيتا، والتي ينحدر نحوها الفريق بمعدلات صرف قياسية، تجاوزت السيتي وليفربول، وبكرة قدم دفاعية لا تشبه إرث النادي في شيء
تدخل جماهير آرسنال لمنع الملاك من أخذ هذه الخطوة ما كان ليكون ذا جدوى لو لا توفر الشرط السياسي، أي الإمكانية الفعلية للتأثير على القرارات داخل النادي. إذن هي لعبة تموقع أدركتها فئة من أنصار فريق شمال لندن منذ البداية، وفعلتها عمليًا على أرض الواقع من خلال ضمان تواجدها الدائم داخل مجلس الإدارة، عبر حيازة بعض الأسهم القليلة ماليًا، والكبيرة سياسيًا في عملية التصويت الداخلي للمجلس على القرارات الرياضية والاقتصادية.
"منطقة رمادية" هي التي اختارتها جماهير آرسنال بغية الدفاع عن مصالح ناديها أمام طموحات الملاك المالية المتزايدة، خاصة لو علمنا أن هبّة 2011 التي طالبت خلالها أنصار المدفعجية بالمزيد من ضخ الأموال في سوق انتقالات اللاعبين الصيفي، كانت بالأساس بمثابة رد الفعل الداعم لمطلب عثمانوف بشراء بعض نجوم الصف الأول، وهو عضو مجلس الإدارة الملياردير الروسي ذاته الذي انتفضت ضده في 2007، وهو أيضًا صاحب ثاني أعلى نسبة من الأسهم في النادي بـ30 بالمائة، والتي اشتراها بـ 120 مليون جنيه إسترليني في أغسطس/آب 2007.
ما مارسته الجماهير مع عثمانوف من معارضة وتأييد، يعكس مدى سلطتها التعديلية داخل النادي، ما مكنها خلال سنوات أن تؤسس لقاعدة عمل تضمن بها استقلالية ناديها عن كل تجاذبات أو مصالح شخصية. وبما أن لكل قاعدة استثناء، والاستثناء هنا هو بمثابة "الأب الروحي"، والذي كان أحد أطراف تشكيل هذه "المنطقة الرمادية" داخل العقلية الحمراء والبيضاء، فالمفارقة كانت أنه هو ذاته "عثمانوف" من دفعها بشدة للإصرار من الخروج منها، ولكن كيف ذلك؟ ربما هنا علينا العودة قليلًا للخلف.
ففي أيلول/ سبتمبر من عام 1996، كان نموذج السير أليكس فيرغسون مع مانشستر يونايتد يشهد أوجه، حيث كان يسير بخطى ثابتة نحو التتويج باللقب الثالث تواليًا من البريميرليج، في صورة تعبر أحسن تعبير عن ذروة النجاح التي يحققها الأنموذج الإنجليزي للإدارة الرياضية، والذي يقوم نظريًا على المدرب العام كامل الصلاحيات، ويُترجم حينها واقعيًا برجل كفيرغسون، فكان باعتباره مدير فني المسؤول على كل الجوانب المتعلقة بالدفة الفنية للفريق، بل كان المشرف الأول على كل السياسات الرياضية فريق كرة القدم، فزاوج بين رؤيته للملعب وصولًا حتى إلى الإشراف بنفسه على المفاوضات والانتدابات ومراكز تكوين اللاعبين.

ما كان لينافس سطوة اليونايتد تلك، إلا نموذج مماثل، أو لنقل رجل مماثل، هو ليس مماثل تمامًا في الحقيقة؛ كهل مراهق في عقده الخامس، نعم مراهق مازالت روحه حالمة وخيالته جامحة إذا ما تعلق الأمر بكرة القدم ومستطيله الأخضر، لعل إرادة الطفولة هي ما تزال تضيء قلب الرجل الفرنسي، بعد أن كادت تموت على مقاعد الهندسة والاقتصاد بالجامعة. هبة من القدر ألقت به في أيلول/سبتمبر 1996 في أحد القلاع المتعطشة للمجد هي ذاتها. فينغر رجل الهندسة هام في أرض آرسنال الخصبة. وحوّل سراب الخيبة إلى وقع كالحلم، وصنع من الخيال حياة لمن آمن به.
توليفة سحرية بين العقلية الاقتصادية في الإدارة والروح المغامرة في الملعب، كسرت أجنحة اليونايتد المحلية، وتوجت بثنائية الدوري والكأس في موسم 1998 كنجاح رياضي، وجيل جديد من المواهب الحالمة اقتصاديًا. معادلة أوقعت جماهير آرسنال في شرك حبال الهيام بهذا الرجل، سيما وأن الروح التي صنعها الرجل مازالت تتصاعد داخل الملعب وخارجه، في مرحلة روحية بحتة؛ إذ كانت الروح العاطفية هي المسيطرة والعامل النفسي الرئيسي للجماهير في دعمها لكل توجهات الرجل.
نهائي أوربي عام 2000، ثنائية محلية جديدة في 2002، رقصات دينيس بيركامب، وخطوات تيري هنري بعد كل هدف تهز مقاعد الهايبري، أرباح مالية ضخمة ووعودُ بملعب جديد. كل الأرواح تألفت على هذا الرجل "الرمادي" الذي أحسن لعبة التموقع بين الخسارة والربح، حتى أصبحت خسارة نجم من نجوم الفريق، هي فرصة لربح موهبة يافعة أخرى. مرحلة روحية حالمة واصلت تصاعدها حتى بلغت قمتها في دوري اللاهزيمة 2004، ونهائي موناكو من أبطال أوروبا 2006، وهي النقطة التي أحدثت تحولًا جوهريًا في مسار آرسنال.

في وقت ظن فيه الكثيرون أن مجد الآرسنال الأوروبي قد اقترب أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع الطفرة التي شهدتها أسهم النادي عقب الإنجازات الأخيرة، مما أغرى الأسواق الأمريكية والروسية للاستثمار في النادي عبر ستان كرونكي وعثمانوف، علاوة على الانتقال إلى ملعب الإمارات الذي يتميز بجاذبية أكبر بالنسبة للمستثمرين مقارنة بسلفه الهايبري، لكن إرادة فينغر "الرمادية" هي ما حالت دون ذلك، أصر رجل الاقتصاد أن تظل الأولوية المالية قبل الرياضية للنادي، أن يظل آرسنال فريق بيع لا شراء، فلم يعوض كل النجوم التي خرجت 2006، ولم يستطع المحافظة على مواهب الفريق الشابة، حتى حقق الفترة بين 2006 و2013 ربحًا قدره 40 مليون جنيه إسترليني من الانتقالات، متفوقًا على أي نادٍ آخر في الدوري، ولكن غابت الألقاب، و حتى إن حافظ الفرنسي على الحد الأدنى الرياضي من الكرة الجميلة والتأهيل المستمر لأوروبا، فإن الجماهير سئمت هذه "المنطقة الرمادية"، وخرجت لتطالب برحيله متهمة إياه بمساعدة مالكي النادي في زيادة ثرواتهم.
المنطقة البيضاء.. مرحلة العقل
" آرسنال يظل أهم من أن يمتلكه شخص واحد"
تزامنت نهاية مرحلة فينغر مع الآرسنال في 2018، مع حدثين بارزين في محيط النادي، الأول من خارج النادي والمتمثل في بداية حقبة جديدة بالبريميرليج أو ما يطلق عليها بحقبة كلوب وغوارديولا، والتي غيرت معايير المنافسة المحلية، ووضعت بقية الأندية الكبرى الأخرى محل انتقاد ومسألة متواصلة من قبل جماهيرها، الأمر الذي استحث القائمين على شؤون تلك الأندية للمسارعة في البحث عن بدائل إدارية ورياضية، تمكنهم من تقليص الفجوة المحلية مع السيتي وليفربول، وتعيد إقامة ضلعهم المفقود بسداسي المنافسة الأول.
تزامنت نهاية مرحلة فينغر مع آرسنال مع ثنائية كلوب وغوارديولا من جهة، والتغييرات الإدارية الكبيرة في آرسنال من جهة أخرى
أما الحدث الثاني والأهم، فجرّنا للعودة لتصريحات رابطة مشجعي الآرسنال الواردة بداية الفقرة، حيث استطاع الملياردير الأميركي ستان كرونكي شراء كل أسهم النادي اللندني في صفقة قدرت قيمتها بحوالي 2.3 مليار دولار، بعد موافقة منافسه الروسي وصاحب حصة الأقلية أليشر عثمانوف على الـ30 بالمائة التي يمتلكها. قرار انتفضت ضده الجماهير الحمراء والبيضاء باعتبار مصادرة دورها في مجلس الإدارة من كرونكي الذي أصبح يمتلك كل الصلاحيات الإدارية والاقتصادية داخل الفريق.
مخاوف كرونكي من الجماهير من ناحية، ومخاوفه الشخصية في أن يقع في المنطقة ذاتها التي وقعت فيها عائلة الجليزر بعد خروج فيرغسون من اليونايتد، عجلت بجملة من القرارات الإدارية تحمل في طياتها رسائل مطمئنة للأنصار. تعيين الثلاثي فيناي فينكاتيشام وإيدو غاسبار وبير ميرتساكر في المراكز الإدارية الحساسة لفريق كرة القدم، كان محملًا بالنزعة التشاركية في العمل التي أراد كرونكي أن يظهرها.
لعل أبرز رجل هنا هو البرازيلي غاسبار إيدو، الذي كان يطمئن الجماهير هو الأخر ويقول "كل ما يخص كرة القدم يجب أن يمر عليّ أولًا". إيدو الذي تعرفه جماهير آرسنال كلاعب سابق بالنادي في حقبته الذهبية سنة 2005، وبعد أن نجح بشكل كبير في حسن إدارة المنتخب البرازيلي ونجومه مع الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، كان أول من استنجد به كرونكي كقائد جديد لسفينة النادي الفنية كمدير تقني، يتقن جيدًا الحفر في مشاعر عشاق المدفعجية، كيف لا وهو من خبر ولاءهم الكبير لمن يحافظ لهم على إرث ناديهم.
أهداف كرونكي التي عقدها مع الأنصار تمثلت بالمحافظة على إرث فينغر، في اللعب الجميل شريطة خلق فريق تنافسي قادر على التتويج، والخروج من المنطقة الرمادية لأخرى أكثر نصاعة بلون الألقاب، معادلة ثنائية لم يكن الإسباني أوناي إيمري قادرًا عليها بعد خلافته لفينغر، لذلك سرعان ما تدخل إيدو، وجلب رجلًا أخر يعرف إرث الفريق جيدًا، وهو أيضًا لاعب وسط سابق بالفريق.

المميز في خيار إيدو على ميكيل أرتيتا هو الثقة الكبيرة التي قدمها للباسكي، حيث جعله مديرًا فنيًا وليس مدرب فقط مثل ما كان الحال مع إيمري، صلاحيات كبيرة شرحها إيدو علنًا "ترقية أرتيتا تعني أنه سيكون شريكا رئيسيا له في اختيارات اللاعبين الذين تعاقد معهم النادي، أو ينهي عقودهم أو يرسلهم في إعارات".
احتل الثنائي المركز الثامن في الدوري الإنجليزي الممتاز في أول موسم كامل لهما معًا، ولكن من بين الوافدين الثمانية كان هناك ثلاثة لاعبين لا يزالون أجزاء رئيسية من التشكيلة الأساسية الآن، غابرييل وتوماس بارتي ومارتن أوديجارد، وبعد موسم، كان بن وايت وآرون رامسديل أهم التعاقدات حيث فشل آرسنال بفارق ضئيل في التأهل لدوري أبطال أوروبا، حيث جلس بشكل مؤلم بنقطتين خلف منافسه المحلي توتنهام هوتسبير في المركز الرابع.
في موسم 2023 نجح أرتيتا في انتداب غابرييل خيسوس وزينتشينكو وإعادة صليبا من الإعارة، بذلك أكمل القطع الناقصة في منظومته الفكرية باقتدار، حيث خلق فريق جيد في الاستحواذ، أو في الضغط العكسي واللعب التموضعي أو الكرات الثابتة، بشكل 3-2-2-3، قائم أساسًا على استغلال كل ممرات الملعب الأفقي والتحرك التموضعي المستمر وفقًا للمرات العمودية، خاصة أنصاف المساحات، بلاعبين مثل أوديغارد وتشاكا، واستدعاء ضغط الخصوم، من ثم خلق وضعيات وأنماط لمبادئه الهجومية كتفوق للمركزية والعددية والنوعية وغيرها، وتوفير التغطيات الوقائية اللازمة في حالة فقدان الكرة، وانتشار يساعد على الضغط العكسي الموجه والحاد والسريع.
تمكن أرتيتا بهذه المنظومة الهجومية الفتاكة أن يتصدر جدول الدوري لفترات طويلة من المنافسة، بل أخذ الصراع حتى الجولة الخامسة قبل النهاية، لكن خسارة تلك المباراة أمام السيتي بملعب الاتحاد وبرباعية مذلة، كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الثورة في شمال لندن على مستوى أفكار الرجل الهجومية وعلى علاقته بصديقه إيدو، فبعد عام واحد فقط، استقال إيدو من منصبه كمدير رياضي فاتحًا الباب أمام نفوذ أرتيتا بصلاحيات كبرى، في لحظة عبرت عنها الصحافة الإنجليزية نهاية صراع بين الرجلين على الصلاحيات، فحسب ميغيل ديلاني محرر أندبندت، فإن إيدو الذي أعطى أرتيتا صلاحيات كبرى، خرج بسبب تزايد صلاحيات ونفوذ أرتيتا نفسه داخل النادي.
المنطقة السوداء.. مرحلة الغريزة
"بالنسبة إلى أي فريق، أعتقد أنه عند النظر إلى تاريخه، عندما يكون ناجحًا جدًا، فإن السجل الدفاعي يكون حاسمًا، لقد استقبلنا ثلاثة أهداف فقط، وكان لدينا أقل نسبة أهداف متوقعة، هذا رائع ويشكل قاعدة قوية ". كانت هذه تصريحات أرتيتا عن فترته الأخيرة في آرسنال.
بعد خروج إيدو أصبح قسم كرة القدم بالكامل يدور حول ميكيل أرتيتا وبصلاحيات كاملة من قبل الإدارة، تقابلها ثقة مكتملة أيضًا من قبل الجماهير كسبها لما قدمه من كرة هجومية جميلة حافظ من خلالها على هوية النادي، هذه الأخيرة التي لم تفارق ذهن الرجل الإسباني في إدارته لملف الانتدابات حتى اللحظة الأخيرة له مع رفيقه إيدو في الإدارة الرياضية.
بعد خروج إيدو من آرسنال أصبح قسم كرة القدم بالكامل يدور حول ميكيل أرتيتا وبصلاحيات كاملة من قبل الإدارة، تقابلها ثقة مكتملة أيضًا من قبل الجماهير كسبها لما قدمه من كرة هجومية جميلة حافظ من خلالها على هوية النادي
"هل أبدو رجلًا يمكن الوثوق به؟.. ربما نعم.. حسنًا جميل.. لكن مهلًا.. يبدو أنها مسؤولية كبرى، أليس كذلك؟ هل هو فرح أكثر من اللازم عند الانتصارات إذن؟ نعم فأنا مسؤول ويُنتظر مني الكثير.. انتظر هو حزن أكثر من اللازم أيضًا؟ نعم فأنا مسؤول على كل شيء، فإما أن أفوز بكل شيء، أو أخسر كل شئ، ولكن أين الحقيقة؟ الخجل ربما هي الحقيقة الوحيدة هنا، يا إلهي كيف شوهتني المسؤولية لهذا الحد". كانت هذه ليست مجرد أسئلة، بل صورًا من هنا وهناك سرقناها من مكان وقوف أرتيتا على حافة ميدان مباريات الآرسنال، ومن كرسي تبريراته أمام الصحفيين داخل كل مؤتمر يعقد قبل المباريات أو بعدها.
ما سرقناه أيضًا من الرجل، وربما أهمها تفسيرًا لوضعيته الحالية، هي التصريحات عن الجانب الدفاعي، فمن الواضح أن خسارة الدوري بتلك الطريقة الفاضحة دفاعيًا من ناحية، وحجم الصلاحيات أو المسؤوليات الجديدة، قد أحاطت بالرجل هالة من الواقعية الإنسانية؛ هي غريزة البقاء بل هي ميكافيلية اعتنقها أرتيتا، حتى وإن كان ذلك على حساب قيم النادي وروحه التي وحدت وساوت بين الإدارة والجماهير في شخص أرتيتا نفسه، هل انقلب عليهم؟ لا ربما انقلب على نفسه؟
" الغاية تبرر الوسيلة"، نظرية ميكافيلي في الواقعية السياسية، ولكن.. أيعقل أن يُترك المرء لاختيار أية وسيلة يرديها دون أن يضع لها معاييرًا تحفظ المجتمع من الدمار والتفكك، فتصبح الحياة مليئة بالفوضى بعيدة كل البعد النظام الذي يحفظ التوزان، لا نعلم ربما هذا هو الجانب الذي تبناه أرتيتا في آرسنال، فالغاية هي التتويج والوسيلة ليست من شأنكم. وبعد أن كانت الوسيلة هجومية بحتة، وما ينقص إلا لاعب وسط مبدع على اليسار ومهاجم، تغيرت الأمور فجأة وأصبح الدفاع خير وسيلة للبقاء. صفقات كاي هافرتز وديفيد رايا والتوقيع القياسي والأعلى في تاريخ النادي بقيمة 100 مليون جنيه إسترليني مع ديكلان رايس هم القطع الأخيرة في اللغز بالنسبة لأرتيتا. تلك الصفقات كلفت خزينة النادي 211 مليون إسترليني، لكنها لم تحفظ معايير النادي الاقتصادية في الإنفاق، ولم تحفظ منظومة فريقه من التفكك، أصبحت مليئة بالفوضى بعيدة كل البعد عن التوازن.
ماذا بعد لميكيل أرتيتا؟ على عكس موسم 2022/23 حيث كان آرسنال مذهلًا في نهجه المتحمّس لمباريات كرة القدم، كان رجال ميكيل أرتيتا هذه المرة حذرين، وفازوا بالمباريات بشق الأنفس ويمكنك أن تشعر بهالة من الخجل في ملعب الإمارات خلال المباريات. إذ بدا المدرب حذرًا للغاية في حثّ لاعبيه على الهجوم بشراسة، مفضلًا بدلًا من ذلك الحفاظ على هيكلية دفاعية ومهاجمة الخصم بحذر. ونتيجةً لذلك، لم يكن معدل تسجيل المدفعجية مقنعًا. ففي أول 20 مباراة، سجل آرسنال 35 هدفًا فقط، رغم أن متوسط أهدافه المتوقعة كان أعلى بكثير من الأهداف الفعلية. ولعلّ هذا التراجع في الأداء أمام المرمى كان السبب الرئيسي لتراجع آرسنال في سباق اللقب مجددًا.

ميكافيلية أرتيتا الدفاعية نجحت في تحسين الأرقام الدفاعية حسب راسل مارتن، مدرب ساوثهامبتون السابق ومحلل سكاي سبورت، والذي قال: "أعتقد أن ما حققه أرتيتا مذهل من الناحية العقلية، فهم قادرون على الدفاع رجلًا لرجل في جميع أنحاء الملعب، وقد استقطبوا لاعبين أقوياء دفاعيًا. لذا أصبحوا عمليين، وأصبحوا الأفضل دفاعيًا، والأرقام تؤكد ذلك من خلال الأهداف المتوقعة ضدهم "، حيث خرج الفريق بـ18 شباك نظيفة، وأقوى دفاع في الدوري بـ29 هدف من 0.76 هدف لكل مباراة، كما أنه أقل فريق تلقى فرصًا ضده بمعدل 0.89 هدف متوقع ضده لكل 90 دقيقة، كما قلل نسبة الأهداف التي تلقاها موسم 2023 من تحولات ضده إلى الربع. وكدليل على ذلك أنه مباراته مع السيتي على ملعب الاتحاد انتهت أصفار ولم تكن هي السبب في خسارته للقب مجددًا.
صلابة دفاعية أفقدت الفريق إبداعه الهجومي حسب راسل: "ثم، بالطبع، ستخسر شيئًا ما. عندما تقرر سنعتمد على هذا المنهج، ربما ستفقد بعضًا من إبداعك أو ستقلل من اعتمادك عليه عند التعاقد مع اللاعبين بطاقات بدنية بحتة. لذا قد يتعين عليهم الآن التخلي عن شيء ما للعودة إلى الاتجاه الآخر الهجومي، وفتح آفاق جديدة، لأنهم ربما فقدوا بعضًا من ذلك الإبداع الهجومي بعد أن أصبحوا صعبي الهزيمة "، فبحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2023، كان آرسنال قد خسر أربع مباريات في الدوري، اثنتان منها أمام نيوكاسل وأستون فيلا بنتيجة 1-0، وانتهت مباراة نيوكاسل تحديدًا بتسديدة واحدة فقط على المرمى من آرسنال.

يُعزى هذا النهج الحذر إلى تغيير في تشكيلة آرسنال، خاصة في ديناميكية الفريق بالجانب الأيسر، دخول كل من رايس وهافريتز قتل إبداع الفريق الهجومي من اللعب المفتوح، وقلة حلوله بعد أن أصبحت الخصائص البدنية تطغى على الفنية في عناصر الوسط، فلم يتمكن رايس إلا من خلق 44 فرصة في جميع المسابقات، ولكن 20 منها فقط من اللعب المفتوح، بمعدل 5 تمريرات حاسمة متوقعة كانت منها 1.6 فقط من اللعب المفتوح الباقي من كرات ثابتة، وهذا الرقم يجعله في المركز 88 من بين لاعبي الدوري الممتاز.
في الوقت الذي استطاع أرتيتا إيجاد حل لهذا العقم الهجومي في الموسم الماضي خلال التوقف الشتوي، بعد إدخال هافريتز لمركز قلب الهجوم، كان آرسنال قد خسر 4 مباريات بالفعل. وحقيقة أن الفريق خسر مرة واحدة في المباريات الـ 18 التالية لهذا التعديل في التشكيل، مسجلًا 56 هدفًا ومستقبلًا 7 أهداف، كافية لاستنتاج أن فشل آرسنال في الفوز باللقب يعود إلى أدائهم الهجومي الضعيف، الذي جعلهم يخسرون مباريات كان من المفترض أن يفوزوا بها بهجوم أكثر فعالية.
هذا الموسم، وبعد الاكتفاء مجددًا بصفقة دفاعية يتيمة متمثلة في الإيطالي كالفيوري، ازدادت مشاكل الفريق الهجومية على المستوى الفردي، حيث اكتفى هافرتيز هداف الفريق بتسجيل 9 أهداف فقط، على عكس موسم 2023، حين استطاع أربعة لاعبين من الفريق أن يتجاوزوا عتبة ال10 أهداف، ولكن حسب جيمي كاراغر فإن مشاكل هجوم الفريق هي أنهم لا يخلقون فرصًا كافية. هذه هي أكبر مشكلة يواجهها حاليًا، والدليل أن الفريق سجل 20 هدفًا أكثر من إجمالي أهدافه المتوقعة بالموسمين الماضيين. سجل منذ بداية الموسم الماضي 143 هدفًا من أصل 122.5 فرصة هداف متوقع.
وإن عكست هذه الأرقام شيئًا فهي تعكس مدى جودة الفريق في الإنهاء فهو الأفضل في الدوري حتى مقارنة مع ليفربول 155 هدف من 155.4 هدف متوقعًا، ولكن تضع علامات استفهام كبيرة على منظومة أرتيتا الهجومية، حيث تصنع المدفعجية فرصًا تعادل كريستال بالاس، صاحب المركز الحادي عشر، وبفارق ضئيل عن برينتفورد، صاحب المركز الثاني عشر، وخلف كل من نيوكاسل وتوتنهام وبورنموث وتشيلسي وليفربول بمجموع أهداف متوقعة أقل.
يتمتع مهاجمو آرسنال بالقدرة على استغلال الفرص، لكنهم لا يحصلون عليها بما يكفي في بداية الموسم، أما الآن فقد أصبحت المشاكل بالنسبة لأرتيتا كبيرة جدًا هجوميًا، بعد إصابة كل من هافريتز وساكا ومارتينلي وأيضًا خيسوس صاحب الغياب المطول، ولم يبق للباسكي سوى لياندرو تروسارد، ورحيم ستيرلينغ، وإيثان نوانيري، كخيارات هجومية بالفريق الأول. ثلاثة خيارات بأرقام هجومية ضعيفة للغاية في الثلث الأخير، حيث لم يستطع تروسارد أن يتجاوز 4 أهداف الموسم الماضي من 0.29 هدف متوقع لكل 90 دقيقة من مجمل 2.3 تسديدة و1.93 فرصة استطاع تحقيقها في المباراة، بينما يملك سترلينغ 0.38 هدف متوقعًا في ال90د دقيقة و نوانيري 0.30 هدف متوقع من 1.7 تسديدة على المرمى.
الآن، و بعد أن خسر سباق الدوري بشكل مبكر، وخرج من كل المسابقات المحلية، وتنتظره مواجهة مصيرية في ربع نهائي أبطال أوربا أمام ريال مدريد، خرج أرتيتا بتصريحاته التي أوردناها في أول التقرير ليوضح حاجة الفريق الملحة لمهاجم هداف، وإن أجابه كاراغير بأن مشاكل الفريق في طريقة بناءه وليست في لاعب بعينه، فإن إجابة الجماهير كانت أكثر حدة، حيث ردت عليه السؤال بسؤال، "من تطالب وقد امتلكت جميع الصلاحيات الفنية والاقتصادية، وصرفك الأعلى في تاريخ النادي بأكثر من 450 مليون جنيه إسترليني في خمس سنوات دون الإتيان بمهاجم واحد"، والأهم بالنسبة لبعض الجماهير هو الخوف من "المنطقة السوداء" التي ينحدر إليها النادي بمعدلات صرف قياسية، تجاوزت السيتي وليفربول، وبكرة قدم دفاعية لا تشبه إرث النادي في شيء.