17-يناير-2020

تزايدت وتيرة العنف ضد الانتفاضة اللبنانية في الفترة الماضية (أنور عمرو/أ.ف.ب)

على أعتاب تشكيل حكومة "أي حاجة"، في لبنان، تزايد منسوب القمع في اليومين الماضيين، على نحو غير مسبوق. لم تشهد الانتفاضة اللبنانية عنفًا مشابهًا إلا منذ الهجوم على ساحات الاعتصام من قبل مناصرين لحزب الله وحركة أمل في منتصف أحداثها. أوقفت القوى اللبنانية أكثر من مئة شاب وشابة، كما أدخل ما لا يقل عن عشرة أشخاص إلى المستشفيات بحالات طارئة، وصل بعضها إلى فقدان الذاكرة المؤقت والارتجاج الدماغي. وإن كان هذا العنف، بالمقارنة مع عنف الأنظمة العربية (مثل سوريا) يعد خفيفًا، فذلك لا يعني أنه ليس عنفًا، وأنه غير قابل للتطور، بحسابات مختلفة.

على أعتاب تشكيل حكومة "أي حاجة"، في لبنان، تزايد منسوب القمع في اليومين الماضيين، على نحو غير مسبوق

لا يلغي هذا أن العنف طال السوريين في لبنان، من دون أن يكون لهم أي دور في الانتفاضة. حسب شهود عيان كانوا موجودين في شارع الحمرا، حيث حدثت المواجهات بين المنتفضين ضدّ المصارف وبين رجال الأمن، ونفذ الأخيرون عمليات دهم في محال تجارية بحثًا عن مواطنين سوريين. وقد أكد مشاركون أن السوريين زجوا في الأحداث، ولم يكن لهم أي علاقة بها. وطبعًا يتكفل الإعلام المحرّض ببقية المهام، ويعاد إنتاج "الغريب" كخصم أساسي لوهم كبير اسمه "الحضارة" اللبنانية، الرافضة لتكسير زجاج المصارف، وفي ذات الوقت، المؤيدة لوقوف آلاف اللبنانيين أذلاء برؤوس مطأطأة خلف كونتوارات المصارف.

اقرأ/ي أيضًا: الانتفاضة اللبنانية تستعيد زخمها.. الشعب يريد إسقاط النظام المصرفي

لتفسير هذا العنف، وارتفاع حدته، لا بد من النظر إلا الاتجاهات الأساسية في الانتفاضة، التي بدأت تواجه محاولات الفرز:

الاتجاه الأول هو الانتفاضة نفسها بما تضمه كمنتسبين شرعيين إليها وهم الغالبية فيها، منذ تاريخها الأول وحتى اليوم. وهؤلاء المنتسبين عمليًا، لا معنى لوجودهم في تنظيم منفصل أو مواز للتنظيمات الموجودة، وقوتهم الأساسية كانت في خروجهم عن الاستقطاب القديم الذي هيمن على البلاد. ارتفاع حدة القمع يعني أن الانتفاضة استعادت الوضوح بعد 14 كانون الثاني/يناير 2020، بعدما خفت هذا الوضوح نتيجة عدة عوامل، كان أبرزها استخدام التحريض المذهبي من السُلطة الطائفية، والاستجابة له من قبل كثيرين شاركوا في الانتفاضة.

أما استجابتهم لهذا التحريض فهي مفهومة. والقول إنها مفهومة لا يعني أنها مبررة، لكن توقع اكتمال درجة عالية من الوعي بسرعة قياسية هو أمر مبالغ فيه. هذا الاتجاه، استعاد تماسكه أخيرًا، ويمكن تأطيره في شعارين رئيسيين ما زالا الأقدر على جمع اللبنانيين في معركة ستكون طويلة ضدّ الوضع القائم، ستتجاوز تشكيل الحكومة أو عدمه. الشعار الأول هو رفض هيمنة الفئة المحتكرة على رأس المال، ومواجهة هذه الفئة هي المصارف، التي أسهمت بتصرفاتها المتوقعة كحامٍ لمصالح الأوليغارشية في قطع الثقة حتى مع المترددين. الشعار الثاني، وهو التعامل مع السُلطة كسُلطة، بأحزابها ومؤسساتها (الأمنية وخلافه) المشكّلة من هذه الأحزاب، وهذه الأحزاب المشكّلة من طوائف، وهي طوائف يسيطر عليها أوليغارشيوها.

الاتجاه الثاني يتمثل بحزب الله، ومن يتبع لهذا الاتجاه. والحزب يتنازل من حصته في المواقع لحلفائه دائمًا، شرط أن يبقى راعيًا أساسيًا للحلف، وأن تكون سياسة الحلف السائدة خاضعة لخياراته الإقليمية تحديدًا. بهذا المعنى، لا يوجد "حلف" أو "تحالف" أو "تفاهم"، هذه مجرد تسميات. يوجد حزب الله ومن معه. وبعد الخسائر في العراق وإيران، يبدو واضحًا أن الحزب وجد نفسه أمام ضرورتين لبنانيتين. الأولى، تشكيل حكومة، يُفضّل دائمًا أن تكون مثل الحكومات السابقة، وتؤدي وظائف الحكومات السابقة بالنسبة للحزب، أي توفير مظلة سياسية له، ما يسمح له بتقديم نفسه كحزب سياسي مشارك في حكومة "وطنية"، وصرف النظر عن أدواره الأخرى في سوريا والعراق وغيرها.

والثاني، هو تمتين العلاقة مع قواعده التي تضعضعت بعد شعورها بأنها تركت وحيدة في مواجهة الفقر، عبر محاولة الحزب في الانتساب إلى الانتفاضة، من بوابة الحرب على المصارف، مع الإبقاء على التحالفات والصيغ والحسابات الإقليمية نفسها. تم استنفاذ الخطاب المذهبي الذي تلا اغتيال سليماني. صحيح أن بيئة الحزب تلقت الخطاب بإيجابية، وانكفأت على نفسها في مشهد يذكّر ببدايات مشاركة الحزب بالتدخل في سوريا، لكن المتابعين يلمسون تململًا واضحًا من حضور إيران الكثيف في خطابات أمين عام الحزب، على حساب مصالحهم الداخلية. محاولة الاشتراك في الانتفاضة من دون المس بالتحالفات الداخلية الرئيسية هو لترميم العلاقة مع القواعد الشعبية المتململة.

الاتجاه الثالث يتمثل ببقايا 14 آذار. رهط من الليبراليين الذين اعتادوا لوقتٍ طويل الترويج للسياسات الاقتصادية – الحريرية، والانتفاع من مصالح خارجية. وهؤلاء الذين ليس لديهم تصور حقيقي، على ما يبدو، عن حجم الكارثة الاقتصادية، والعلاقة بين الاقتصاد والسياسية. وليس غريبًا أن يكون معظم هؤلاء يتبنى مواقف داعمة للتطبيع مع الاحتلال ويعلن تذمره من أي خطاب معادي للهيمنة الغربية.  

ويتمثل هذا التيار بأشخاص شاركوا في الانتفاضة لأسبابهم الخاصة، وأبرزها قناعتهم بأن حزب الله هو الذي يحكم البلد، وهم يشاركون ضدّ هذا الحكم. وإن كان للحزب دور أساسي في إدارة البلاد حاليًا، فإن ذلك لا يلغي، أن دور الحريرية مركزي وحاسم في تثبيت دعائم النظام الاقتصادي الذي أنتج وينتج كمًا هائلًا من اللامساواة بين اللبنانيين. وقد أثبتت تحالفات هذا الفريق مع الحزب، في الانتخابات النيابية تارةً، وفي النقابات تارةً أخرى، وجود "خطاب" مشترك للفريقين، ينتهي في مسربين يصبان في مصلحة الطرفين، مسرب سياسي وآخر اقتصادي. الخلاف بين هذا الفريق والحزب، يبدو حادًا وعميقًا، لكنه ليس خلافًا، بقدر ما أنه مجموعة تجاذبات تشتد أحيانًا، وفي أحيان أخرى تكاد تتبخر. تجمعها تصورات اقتصادية مشتركة، مرصعة بالأفكار العبقرية عن الخصخصة النيوليبرالية وبيع الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: مصارف تحكم لبنان.. الجريمة دون عقاب

الاتجاه الرابع يتمثل باليسار. ليس خافيًا على أحد أن اليسار في العالم غارق في المعاناة، وأن اليسار العربي تقريبًا مترهل. وليس خفيًا على متابع المشهد اللبناني، أن اليسار اللبناني ليس بعيدًا عن هذه الصورة. لكن بمعزل عن قراءة تشكيلاته الرئيسية وأدوارها في الانتفاضة وفي السياسية، ايجابيًا أو سلبيًا، يبدو أن الأفكار اليسارية ما زالت مادة قادرة على المشاركة في الاستقطاب، عندما يكون هذا الاستقطاب أفقيًا، وتحت سقوف تحددها الجماعات المشاركة، من دون أن يلغي ذلك إفلات أفراد كثيرين من قيود الجماعة الطائفية، وتبنى أفكار يسارية واضحة، عن الصراع الطبقي ورفض هيمنة رأس المال.

يسعى حزب الله إلى تمتين العلاقة مع قواعده التي تضعضعت بعد شعورها بأنها تركت وحيدة في مواجهة الفقر، عبر محاولة الحزب الانتساب إلى الانتفاضة

انطلاقاً من هذا العرض، يمكن القول إن العنف الأمني تفسير لما هو ليس بحاجةٍ إلى تفسير: الرسائل السياسية المتبادلة بين أفرقاء يتجاذبون مرحليًا، وأشخاص يدخلون الانتفاضة أو ينسحبون منها بناءً على هذه الرسائل. لكن هذا التفسير ليس واضحًا بما يكفي، ورغم كل شيء، هناك من بات يرى الأمور بصورة أكثر وضوحًا. العنف الأمني يشتد عند الهجوم على المصارف، والعنف السياسي واللُحمة فيما بينهم تشتد دفاعًا عن المصارف.