27-مارس-2017

خالد جرار/ فلسطين

مؤلف "أراض للتنزه" (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2010) عوز شيلاح، كاتب إسرائيلي، كان محررًا للأخبار، بالخدمة الإلزامية، في إذاعة الجيش الإسرائيلي. وكان قبلها مراسلًا في صحيفة "كول هعير"، أي "كل البلد" الأسبوعية. من الناحية الأكاديمية فقد درس شيلاح التاريخ والكلاسيكيات في الجامعة العبرية بالقدس. لكنه ترك البلد و"الأرض" عام ١٩٩٨ ذاهبًا إلى نيويورك لدراسة الكتابة، ثم الإقامة في باريس بعدها. 

أقام الإسرائيليون متنزهات فوق القرى الفلسطينية المبادة، من أجل تزوير حقيقة المكان

من الجدير بالذكر أن الرواية كتبت باللغة الإنجليزية التي طالما أحبها الكاتب من أيدي غير المتحدثين بها، ولم يكتبها بلغته الأم، العبرية، اللغة التي لا تمثل له إلا إحدى عناصر المشروع الصهيوني الذي انتقده في كل سطر من أسطر روايته، بل اعتبرها لغة استعمارية مشحونة أيديولوجيًا وسياسيًا. تمت ترجمة الرواية على يد عبد الرحمن الشيخ.

اقرأ/ي أيضًا: شلومو ساند وديناصور الشعب اليهودي

يعرض شيلاح في الرواية عددًا من المشاهد المختلفة التي ينبش من باطنها ما تبقى من تاريخ فلسطيني مدفون. تُظهِر الرواية تفسير أو تشخيص الإنكار الإسرائيلي للحقيقة الفلسطينية المغيبة في ظل الوجود الإسرائيلي. واقعيًا، إن إقامة "أراض للتنزه" على قرى ذات حياة وماض وتاريخ بحيث تغدو متنزهات ذات حاضر مسلوخ عن ماضي، هو ما يمثل الإنكار الذي طرحه شيلاح ووضحه المترجم. 

"أراض للتنزه" رواية لا تأخذ الشكل التقليدي الذي يبدأ بالسرد المألوف من أول صفحة بنفس التكامل. فتكاملها يأتي بشكل مختلف، إذ تحتوي على قسمين، الأول محتوى على شكل شذارات قصيرة، عددها 57 شذرة، أي أمثلة على قصص قصيرة ذات رمزية عميقة، تكون واضحة أحيانًا، وتحتمل عدة تفسيرات أحيانًا أخرى. لذلك، فالقسم الثاني يحتوي على تعقيب من قبل عبد الرحمن الشيخ تحت عنوان رئيسي وهو: "فلسطين في المشهد الإسرائيلي/ عوز شيلاح في أراض للتنزه بين شذرات الحضور ورواية الغياب". بالتالي، كان هذا القسم عبارة عن عناوين فرعية عديدة كتفسير لكل شذرة من هذه الشذرات من وجهة نظر المترجم نفسه، بالاعتماد على رؤية شيلاح الخاصة التي خص بها كل رمزية. 

يعرض شيلاح مشاهدات مختلفة لمناطق إسرائيلية معدة للتنزه، على أنقاض قرى فلسطينية وحياة فلسطينية كاملة أسفلها. يكمل شيلاح بنفس الوتيرة بجميع مشاهداته ليرينا أن التاريخ عند الإسرائيلي يقف في مرحلة معينة، بتجاهُل لتاريخ المكان وأصله، ونلمس إنكاره للماضي، بل ومبررات الواقع الذي يعيش فيه حاليًا. بالتالي، يحاول شيلاح أن يبحث في ثنايا التاريخ لينبش مرارة التاريخ وعبقه المليء بأصحاب المكان. طرح لنا أيضًا أماكن عدة في منطقة القدس تحديدًا، ليضع بين أيدينا المناطق المغيّبَة والمتجاهلة في الرؤية الإسرائيلية وخطاباتها، فاستعان أحيانًا بالطرح المباشر، وأحيانًا بالاستعارات القوية التي أدت وظيفتها بالرمزيات الكامنة فيها. طرح من خلال شذراته الـ57 عددًا من المشاهدات الساخرة التي تحمل معها رمزيات تنتقد نظام الجيش الإسرائيلي. فضًلا عن استبدال بعض الأماكن كالمدرسة في دير ياسين بمستشفى للأمراض النفسية، تختص بعلاج السياح الذين تظهر عليهم اضطرابات نفسية عند زيارة القدس، المشخص باسم "متلازمة القدس"، على أراضيها المسماة بـ"غفات شاؤول" الحالية. 

تميزت لغة الكاتب بالسردية خلال الشذرات التي وضعها بين أيدينا، استخدم أسلوب المخاطبة فكان يمثل لنا أحيانًا الحكواتي الذي يسرد قصصًا قصيرة ذات رموز عميقة في شذرات بسيطة. استخدم ضمير المتكلم "أنا ونحن" في طرحه، ووضع القارئ في خانة الصديق الذي يُجلسهُ إلى جانبه ويطرح عليه قصة معينة. اتسمت الرواية بالرمزيات والاستعارات في كل ما جاء فيها من طرح، أحيانًا تكون غير قريبة إلى الفهم، إلا من خلال التعقيب الذي أورده المترجم. فنجد أن الرواية تتكامل باحتوائه على الـ 57 شذرة، والتعقيب الذي فسّرها بـ50 صفحة. 

لم يقتصر مترجم "أراض للتنزه" بالترجمة التقنية، بل لعب دورًا معادلًا لدور المؤلف

لم يطرح شيلاح فقط أفكارًا مختلفة حول المناطق التي تم احتلالها والاستيطان فيها، لاستحضار الماضي المغيب في الرواية الإسرائيلية. بل طرح أيضًا معلومات عديدة، حول السياسات الإسرائيلية في نظام الجيش، أو القضاء " العادل" الذي رقّى القضاة الثلاثة الذين أظهروا نزاهة القضاء الإسرائيلي، بإعادة النظر في القضية التي برّأت المتهم بجرائم النازية بعد عدة سنوات من الحكم عليه بالإعدام! فضلًا عن السياسات الإسرائيلية المختصة بالإعلام والبروباغاندا، التي تحسن صورة إسرائيل في الخارج، أو كيفية استغلال أحداث معينة كالحرائق في غابة القدس مثلًا، وضابط الجيش الذي أصبح متعهد بناء فيما بعد "إن هذه الأشجار أتمت مهمتها، وقد حان الآن أوان مستثمري الأملاك.

اقرأ/ي أيضًا: "أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار

الرواية عبارة عن مشاهدات تعيد لنا تاريخ مناطق موزعة على هذه الشذرات المختلفة، بأسمائها الأصلية، ومتى تم تطهيرها عرقيًا، والمعالم التي تحولت فيها إلى أشكال أخرى تخدم المستعمر، مثل قرية بيت شيمش التي أقيمت على أراضي قرية دير أبان، بعد تطهيرها عرقيًا في تشرين الأول/أكتوبر 1948. 

يرى المترجم، الذي أخذ مكانًا مهمًا في ربع الرواية، بعد تفسيره لعدد من الشذرات، أن الكاتب أبدع في إظهار النكران الإسرائيلي لحقيقة الماضي الفلسطيني، والواقع الإسرئيلي الحالي، فمثلًا قدّم شيلاح قصة تحمل خلالها تجربة من قام بها أستاذ لطلبة علم النفس، بطلب تخيل مدينة تل أبيب، عارية ومجردة من كل ما عليها حاليًا، وكانت النتيجة أن الطلاب تخيلو فراغًا كبيرًا، مساحات رملية فارغة، شجيرات، أنهارًا تصب في البحر، أحيانًا أنقاضًا، لكن لم يتخيل أي منهم "بشرًا"! وهذا تأكيد على فكرة النكران، أو الإلغاء، بالإضافة إلى شذرات أُخر تصب في نفس المقصد، والتي تعبر وبشده عن واقع السياسات الاستعمارية والمجتمع الإسرائيلي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مصائر.. رواية بأجوبة مستعملة

سلمان ناطور في سفره الطويل