03-مارس-2020

أدهم صولي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بمعهد الدوحة للدراسات العُليا، خلال المحاضرة

تناول كثيرون الفتنة بوصفها حادثة مرحلية؛ أي حدث قائم بذاته اتّخذ حيِّزًا لفترة زمنية مُحدّدة، مُنذُ النصف الثاني من حُكم عُثمان بن عفّان، إلى ما بعد وفاة علي بن أبي طالب بستّة أشهر، كما ركّزت العديد من الكتابات على أثر هذه الفتنة باعتبارها سببًا في انقسامات مُستمرّة حتّى اليوم في العالم العربي الإسلامي. لكن أحدًا لم يتناول الفتنة من أبعادٍ مفاهيمية ونظرية، ومن هُنا تنبع الحاجة إلى تناولها بعيدًا عن واقِعةٍ تاريخية أو سياسيةٍ مُحدّدة، بل بسبرِ أغوار "الفتنة" بمُختلف معانيها وتأثيراتها.

الفتنة أكثر من مُجرّد مُصطلح أو عِبارة أو حتّى مفهوم ديني، فقد أصبحت الفتنة مؤسّسة تاريخية تُمثّل المكوّن الأساسي في الثقافة العربية الإسلامية

"لماذا نخشى الفتنة؟" كان هذا عنوان السيمنار الّذي قدّمه الدكتور أدهم صولي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بمعهد الدوحة للدراسات العُليا، وبجامعة سانت أندروز، خلال استضافته يوم 26 شباط/ فبراير 2020، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد اتّخذ صولي من سؤال العنوان "البدهي والاستفزازي" على حدِّ تعبيرِه، انطلاقةً ليستعرض أهداف وأسئلة وفرضيّات وادّعاءات مشروعه البحثّي الناشئ حول "ظاهرة" الفتنة، الّذي ما زال في إطار التطوير.

اقرأ/ي أيضًا: معهد الدوحة يختتم ورشة عمل "الشعبوية وتحولات السياسة المعاصرة"

بدأ صولي الجلسةَ مُستفهِمًا ماهيّة الفتنة ولماذا يستخدمها مُختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، ولماذا نخشاها، مُعتقدًا أنّ موضوعها مُعقّد أكثر ممّا يبدو للوهلةِ الأولى، وأنّ تحديدها يتطلّب بعض التصنيف، وارتأى أنّها تُستخدم في أربعة طُرُق، الأولى هي التحذير من إشعالها، والثانية استخدامها لتبرير أو وصف أو تفسير حالة ما، والثالثة لشيطنةِ الخصم أو الآخر، أمّا رابعًا وأخيرًا استخدامها لتبريرِ فعلٍ ما. وقد أكّد صولي أنّ مشروعه البحثّي غير معنيّ بالكتابات حول الفتنة الكُبرى (مقتل عُثمان بن عفّان)، أو الفتنة الطائفية، أو بالمفهوم الديني الشرعي للفتنة، فمُعظم الكتابات تعاملت مع الفتنة كمُعطى، ولم تُحاول أن تُعالجه من منظورٍ تاريخي.

طرحَ صولي سؤالين أساسيّن: "كيف أصبحت الفتنة رُكنًا أساسيًا في الثقافة العربية الإسلامية؟" و"كيف ولماذا تؤثّر الفتنة على التفاعُلات السياسية في العالم العربي؟". وقد قدّم صولي ادّعاءين يدور بحثه حولهما، الأوّل هو أنّ الفتنة هي أكثر من مُجرّد مُصطلح أو عِبارة أو حتّى مفهوم ديني، فقد أصبحت الفتنة مؤسّسة تاريخية تُمثّل المكوّن الأساسي في الثقافة العربية الإسلامية، حتّى باتت في اللّاوعي العربي الإسلامي، وبالتالي أصبحت تُستعمل بشكلٍ دائم. أمّا الادّعاء الثاني فهو أنّ الفتنة هي مؤسّسة للضبط أو للسيطرة الاجتماعية، فهي تُسيطر على السلوك، وهي أداة لقمع المُتّهمين بإثارتها، وبالتالي فهي تُستخدم لقمع جميع مظاهر الحراك والتعدُّدية الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، وهو أمرٌ مُستهجن، كونه من المُفترض أن تكون التعدُّدية حالة طبيعية، وأن يكون الصراع مُعطى، فلماذا نتفاجأ إذًا؟

وبيّن صولي كيف سيقوم بإثباتِ أن الفتنة مكوِّنٌ في الثقافة العربية الإسلامية، حيث سيُناقِشها من ناحية أصولها التاريخية واللّغوية والدينية، فأكثر تعريفات الفتنة على سبيل المثال تأتي من أهمّ مخزون في الثقافة العربية الإسلامية، ألّا وهو القرآن الكريم، الّذي يستند عليه الفاعلين السياسيّين عبر التاريخ لتبريرِ أفعالٍ وإدانةِ الخصم أو "الآخر"، فالقرآن الكريم أتى على ذِكر الفتنة ما يقارب الستّين مرّة في سِياقات مُختلفة. وعدّد صولي مُختلف معاني الفتنة، الّتي لاحظ بأنّ أكثرها سلبيّة، بدءًا من كونها تعني الحرب، مرورًا بالصراعات الداخلية، الفساد، هيجان الدم، الشوق، الاختلاط، الامتحان أو الابتلاء، الغلوّ في التأويل، الضلال، الاضطراب الفِكري، الفوضى العارمة، وصولًا حتّى إلى وصف الإنسان بالفتنة (فتّان). ويعتقدُ صولي أنّ في هذه التعريفات ما يُشير إلى أنّ ابتعاد أو تشكيك أشخاص أو مجموعات عمّا هو مُعتبَر – اجتماعيًا وتاريخيًا أو حاضِرًا – ثقافة أو دين أو توجُّه أو اجتهاد ثابت وقائم ومُسيطر ومُهيمن، يجعلهم ضمن دائرة الفتنة.

وادّعى صولي بحذر أنّه قبل ظهور الإسلام، كانت الفتنة إلى حدٍّ بعيد تُشير إلى فتنة الرجال أو فتنة النساء، كما نجِد مثلًا في الشعرِ الجاهلي. أمّا بعد ظهور الإسلام، بدأ المفهوم يأخذ بُعدًا آخر، فلحدث الفتنة الكُبرى أهمية في تطوّر هذا المفهوم. ويفترض صولي أنّ الفتنة الكُبرى أحدثت صدمةً تاريخيةً، فعلى مُستوى التنظير، هذه الحادثة ليست مُجرّد فتنة، بل هي صدمة تاريخية، وهي تاريخية بحُكمِ إعادة إنتاجها عبر التاريخ وصولًا إلى الحاضر. والصدمة ليست شيئًا موضوعيًا حقيقيًا، حيث يقتبس صولي من عالِمِ النفس الاجتماعي نيل سميلسير قوله: "الصدمات تُصنع، وهي ليست موجودة بالفِطرة"، وهي مُركّبة تاريخيًا من خلال ما يُسمّيه بعض المُنظّرين حول الصدمات "السردية العامّة"، الّتي تُعيد الحديث عن الفتنة حتّى تُصبح في اللّاوعي، بل وتأتي مجموعات من المُثقّفين، والمؤرّخين، والأحزاب، والمؤسّسات الدينية، والأنظمة السياسية ليُعيدوا إنتاج هذا المفهوم، ولكُلٍّ أسبابه التاريخية والدينية والأخلاقية والسياسية، ويُعيدوا رسم وبلورة التاريخ عبر هذا المفهوم. إنّ هذه البلورة التاريخية هي ما يبحثها صولي، على المُستويّين الفِكري والعقائدي، ليُثبِت أنّ الفتنة أصبحت "مؤسّسة تاريخية".

تحوّلت الفتنة في الإسلام إلى إطارٍ نظري وفكري وسياسي وديني لضربِ أيّ نوع من أنواع الحِراك الاجتماعي

عنى صولي بـ "مؤسّسة"؛ القِيَم، لأنّ أيّ مؤسّسة تُبنى على قِيَمٍ مُعيّنة. والفتنة عند صولي ليست قيمة، لكنّها مُهمّة لتحديد قيمة أُخرى ذات أهمية في التاريخ العربي الإسلامي، وهي قيمة الوِحدة، فمع بناء الدولة الإسلامية والجماعة، تظهر الوِحدة كمسألة أساسية. عندها، بدأت المفاهيم القرآنية تأخذ معنى تاريخي وقِيَمي وسياسي وأخلاقي. وبالتالي، يُصبح أيّ مُهدِّد لقيمة أو هدف الوِحدة فتنة، وأيّ مُعارض لها هو فتّان. يُجادِل صولي إذًا أنّه لا يُمكن فهم موضوع الفتنة دون فهم قيمة الوِحدة، وهي قيمة أساسية في بناء هذه المؤسّسة التاريخية، الّتي تفترض وجود قوانين مُعيّنة، حيث إنّ المُعارضين الّذين يطمحون للثورة على الحُكم يجب أوّلًا أن يُكفّروا الحاكم بالاجتهاد، وإلّا اتُّهِموا بخلقِ فتنة. هُنا تتّخذ الفتنة بُعدًا فقهيًا/ شرعيًا. لقد أبدى صولي رغبته في فهم هذه المؤسّسة التاريخية، وتأثيرها على التفاعُلات السياسية، فادّعى أنّ موضوع الفتنة لم تتبنّاه الحركات الإسلامية فقط، بل تبنّاه كذلك العلمانيون العرب بالحديث حول الوِحدة والقومية العربية، اللتان أتت بعدهما أنظمةٌ رفعت شِعارات الوِحدة الوطنية، واتّهمت بالفتنة من يُشكّك بهذه الوِحدة.

اقرأ/ي أيضًا: انطلاق أعمال مؤتمر "ميليشيات وجيوش" في المركز العربي

ونظرًا لبحثه في حقل سوسيولوجي تاريخي، فإنّ صولي يبحث في مفهوم مُتغيّر تتبنّاه القوى السياسية والاجتماعية، وتُحقّق أهدافًا مُعيّنةً من خلاله، فالفتنة ليست وفق منظوره مفهومًا ثابتًا. وبدراسته للقرنين العشرين والواحد والعشرين، يعتزم صولي الحديث عن تأثير الفتنة الأساسي، بأنّها تضبطُ الحِراك والتعبير السياسي والثقافي، فالفتنة أصبحت وسيلًة لقمعِ الآخر، دون تحديد المقصود بالفتنة بالضبط، وأنها تحوّلت بذلك إلى إطارٍ نظري وفكري وسياسي وديني لضربِ أيّ نوع من أنواع الحِراك الاجتماعي. واستنتجَ صولي في ختامِ حديثه أنّ الخوف على الوِحدة والخوف من الفتنة، تسبّبا بالتآكُل الاجتماعي والسياسي، والقمع لأيِّ إطار يستوعب التنوُّع السياسي والفِكري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة في الكوليج دو فرانس.. مساهمة عربية في الانتقال الديمقراطي

تاريخية الوعي الإسلامي ومساراته