21-يناير-2016

قد يصح القول أن جُل ما يمارسه البشر كنتاج لتجاربهم ما هو إلا وثائق أدبية تدلل على شروط عيشهم (Getty)

المسرح والشعر والرواية والقصة، وماذا بعد؟ ما الذي تتضمنه هذه الأجناس الأدبية غير ما يود قوله الإنسان! ثمة أمور كثيرة وغاية في الأهمية تمر بحياة الإنسان ولم يكن لها حاضنة أدبية منذ نشأة الأدب وظهوره وتصدره مكانة مرموقة في حياة الشعوب، وهذه الأجناس لا يمكن اعتبارها حاضنة لذاك المضمون الذي ظل قابعًا بحياة كل إنسان سواء، كان كاتبًا أو غير ذلك، وربما يقول قائل: يستطيع الإنسان إفراغ ما لديه بجنس أدبي من هذه الأجناس.

ثمة أمور كثيرة، وغاية في الأهمية، تمر بحياة الإنسان ولم يكن لها حاضنة أدبية منذ نشأة الأدب وظهوره 

في حقيقة الأمر، هناك أدب دقيق ليس بالإمكان سكبه في رواية أو شعر أو مسرح أو قصة، ولكن يمكن فعل هذا كمرور أو تلميح أو إبرة في كومة قش، وحينها سيبقى غريبًا ودون هوية خاصة به، وسيظل دون ملامح كملامح بقية الأجناس.

أدب المفتاح أدب قد يبدو تافهًا، لكنه يحمل جرعة كبيرة وحساسة مما يمر بالدماغ دون المساس به، ودون تهذيبه ومنحه صبغيات ومواد حافظة، يبقى كما هو وكما دار بالدماغ، وهذا الأدب يحدث على مدار اليوم في حياة كل فرد، ويبقى داخل الفرد ولم يكن هناك مناسبة للحديث عنه بين الأفراد، وقد يبدو ضربًا من الجنون إنْ تحدث المرء عنه أو به، هي تلك التفاصيل التي تدور في دماغ أي أحد، أو تلك الأشياء التي تحدث بالأشياء والأدوات التي نستعملها وقد لا نستعملها.

إن الشرود، وسوء الفهم، والكآبة، والمنامات، والنوايا السيئة، والأسرار الدفينة، والأحداث التي قد تحدث على هامش أمور واضحة المعالم وذات فعل يخضع للتسمية (كالطهو أو العمل أو غسل الصحون أو قطف الثمار... إلخ) والنسيان ومن ثم التذكّر، والغصة أثناء الطعام، كل هذه الأشياء وغيرها تؤكد أنّ ثمة أدبًا اسمه أدب المفتاح في حياة المرء، ولم يأخذ حاضنة للتعبير عنه، ويموت في مكانه، ولا يمكن الاحتفاظ به لكثافة إنتاجه المستمر في الدماغ، وليس من شأنه التراكم، يتبخّر ويندثر لأنه يمر دون الإفصاح عنه.

التسمية

حين يأتي شخص ليفتح باب بيته، ويلاحظ أنّ هناك خللًا ما، فإنه يحاول تحريك المفتاح بطريقة دقيقة تكاد تكون يده بمثابة ذروة الإحساس الناتج بدماغه عن حركة المفتاح داخل مدخل المفتاح.

سماته

هو تلك الأشياء التي لا يمكن التحدث بها مع الآخرين، وذلك بسبب الغموض الذي قد يبدو عليها، وعدم الجدوى منها، وغرابة موضوعها أمام طبيعة الأحاديث التي اعتاد الناس على التحدث بها علنًا أو سرًا، بينما أدب المفتاح يتم تداوله بين المرء وذاته وبشكل لحظوي مثل دقات لقلب ومثل سيالة عصبية. فمثلًا، قد يدور حديث بين شخصين عن زيارة أحدهما لصديق ما، ويتحدثان عن الشخص وصفاته، وعن منزله الجميل، ولكن لن يتحدث المتكلم عن الشرود الذي انتابه لحظة التحدث عن السياسة أو السياحة أو الرياضة أو غير ذلك، والحرج الذي انتابه حين شعر بالنعاس أو حين فكر بالذهاب للحمام كي يتخلص من هذا العبء الذي داهمه أثناء ذاك الحديث، ولن يتحدث عن ذاك الكوب الذي أعجبه، ولن يتحدث عن البخار الذي شاهده من فم الإبريق أثناء سكب الشاي، وكل ما في الأمر أنه سيقول: كانت سهرة جميلة، أو إنه صديق جيد.

ثمة أدب لم يأخذ حاضنة للتعبير عنه، يموت في مكانه، ولا يمكن الاحتفاظ به لكثافة إنتاجه المستمر في الدماغ

وكذلك الأمر حين يتحدث شخص ما عن مأكولات مطعم ما، فكل ما يمكن أنْ يقوله لحظة عودته من المطعم: لقد عدتُ وجلبتُ وجبة الشاورما مثلًا، ولكن من الصعب أنْ يتحدث كيف فتح له صاحب المطعم الكيس، أو كيف ارتطم كتفه بكتف أحد الزبائن وقدم له الاعتذار، مع أنّ فتح الكيس واعتذار الزبون كانا بأهمية الحديث عن سمعة مأكولات المطعم. وكذلك الأمر حين يتحدث شخص عن عطل أصاب حاسوبه، بينما لا يتحدث عن تلك القداحة التي حاول معها محاولات عديدة كي يشعل سيجارته منه.

وكذلك الأمر ما يدور في ذهن السائق وهو يقود الباص أو السيارة، وبجانبه شخص ما يحدثه عن أمر قد يبدو مهمًا، لكن تفكير السائق يكون في الغبار الذي على المرآة، وربما يذهب أبعد من ذلك، نحو التفكير في التوقف لشراء القهوة الجاهزة ومسح المرآة. 

مستقبله

سيأتي يوم من الأيام ويدخل شخص ما على بيته أو أصدقائه أو زملائه في العمل ويقول لهم: "في ليلة الأمس، وبينما كنتُ أتهيّأ للنوم، لم أعرف على أية جهة أنام، وحين شعرتُ بالكرى لا أعرف كيف نظرتُ للحقيبة التي فوق الخزانة، وتذكرتُ لحظة شرائها، ولمحت زجاجة العطر الفارغة التي بجانب الحقيبة، كانت تغطي شيئًا ضئيلًا من زاوية الحقيبة".

وسيأتي يوم من الأيام ويكتب شخص ما: "أمسكت الكأس بثلاثة أصابع، الإبهام والسبابة والوسطى، وتركتُ إصبع الخنصر والبنصر مفتوحين مثل إشارة النصر. حدث ذلك حين كنتُ حزينًا على فراقك، حين كنتُ أكتب قصيدة حب كاذبة".

اقرأ/ي أيضًا:

زمن السيداف.. حفر في الرمال المتحركة

أوبير حداد.. ماذا لو عشنا في جسد غريب؟