21-مارس-2023
لوحة لـ سليمان منصور/ فلسطين

لوحة لـ سليمان منصور/ فلسطين

كانت صدفة جميلة تلكَ التي قادتني إلى قراءة كتاب فيصل دراج النقدي والذي جاء بعنوان "عبد الرحمن منيف ورواية الالتزام"، فدراج قام في كتابه القصير بتسليط الضوء على حياة منيف وتفنيد أبرز مؤلفاته الروائية التي تندرج تحت تصنيف رواية "الالتزام"، وهي الرواية التي باشر منيف كتابتها بعد انسحابه من العمل الحزبي المباشر، وتابع فيها بحسب دراج "التزامه القومي بشكل مختلف".

أخذتني قراءة الكتاب السابق نحو التفكير في أدب "الالتزام" الذي تأتي رواية الالتزام كأبرز تمثيل عليه، ودفعتني نحو التساؤل حول بدايات توليد مصطلحه في الساحة العربية، وحول صحة التهم التي توجّه إليه من أنّ مرتاديه وكتابه ليسوا أحرارًا بشكل كامل، وليسوا قادرين على الوصول بالتعبير الأدبي والكتابي إلى أقصى مستويات جمالية ممكنة.

سهيل إدريس: “أما نحنُ، فإننا ندعو من أجل تدعيم هذا الأدب وتركيزه وتوضيح اتجاهاته، إلى سلوك سبيل "الالتزام" أو "الانضواء" أو "التجنّد"، سموه ما شئتم، ذلك هو الأدب الحيّ الذي ينبع من المجتمع ويصبّ فيه"

أوصلني البحث عن إجابات حول التساؤلات السابقة إلى كتاب خالدة سعيد "يوتوبيا المدينة المثقّفة"، وفيه مقالة بعنوان "سهيل إدريس الالتزام والشهادة على العصر"، وتُورد سعيد في هذه المقالة أنّ سُهيل إدريس هو أوّل من طرح مصطلح الالتزام في الأدب والرواية، وذلك في محاضرته التي ألقاها عام 1953 تحت عنوان: "ممّ يشكو الأدب العربي الحديث؟"، ففي هذه الحاضرة قام إدريس بتوجيه نقده إلى العديد من الأدباء العرب في العصر الحديث، منتقدًا خلو أدبهم من النزوع نحو معالجة القضايا الحساسة المتعلّقة بمجتمعاتهم بشكل مباشر.

وبعد هذا الانتقاد الذي وجّهه إدريس إلى شكل الكتابة الأدبية عند العديد الأدباء العرب الحديثين، قام إدريس ببثّ دعوته للفئة الشابة والأدباء الشباب داعيًا إياهم إلى التزام شكل كتابة أدبية تستمدّ ملامحها من صميم المجتمع العربي، وتستلهم مواضيعها من قضاياه.

إدريس وجّه دعوته إلى الشباب المشتغلين في الحقل الأدبي قائلًا: “أما نحنُ، فإننا ندعو من أجل تدعيم هذا الأدب وتركيزه وتوضيح اتجاهاته، إلى سلوك سبيل "الالتزام" أو "الانضواء" أو "التجنّد"، سموه ما شئتم، ذلك هو الأدب الحيّ الذي ينبع من المجتمع ويصبّ فيه، فيكون صورة حية له، وذلك هو الأديب الذي يصهر عواطفه جميعها في بوتقة مشاعر الناس وحاجاتهم، فينفذ إلى أغوار مشكلاتهم".

فبحسب سعيد، فإنّ إدريس في محاضرته كان أوّل من استخدم مصطلح "الالتزام" في الأدب، وتطرّق إليه بشكل واضح وصريح، ولم يقف عند هذا الحدّ، بل إنّه قام ضمن إطار دعوته للشباب نحو سلوك طرقه بتفنيد أبرز التهم التي توجّه إليه، وتوضيح مدى التحامل وعدم الموضوعية في هذه التهم، حيثُ يُورد قائلًا: "هذا الأدب الذي ندعو إليه، ربّما اتهمه البعض بنقيضين: أولاهما أنه يحرم الأديب من حريته، تلك الحرية التي نعتقد أنّها أساس حياته، والثانية أنه يضحي بجماليته أو بديعيته... وهاتان تهتمان يُهمنا في هذا القسم الأخير من حديثنا أن نبرِّئ أدبنا هذا الذي ندعو إليه".

ويتابع إدريس: "إنّ الالتزام إذا فهم على حقيقته ليسَ إلا عملًا حرًا إلى أبعد حدود الحرية، حيث يتوجّه الأديب الملتزم إلى قرائه، فهو حرّ يطرح أدبه لحرية قارئه، وبعبارة أخرى إنّ أثره الأدبي نداء حرّ يتوجّه إلى حرية الآخرين".

ويُكمل: "وأما التهمة الثانية في أننا نضحي ببديعية الأدب أو جماليته حين تطلب إليه الالتزام، فمردود بأنّ هذه البديعية أو الجمالية شيء فارغ إذا لم تكن نتيجة حتمية للأثر الأدبي".

عبد الرحمن منيف: "الكلمة الصادقة كالنجمة في السماء، تُميّز ولا يُمكن أن تُحجب، وبالتالي يُمكن أن تكون دليلًا، ويُمكن أن تساعد في الوصول إلى آفاق جديدة"

إدريس ينفي في كلامه السابق عن أدب الالتزام تهمتي اللاحرية والبشاعة أو الافتقاد إلى البعد الجمالي، موضحًا بأنّ الأديب الذي يكتبه ويتطرّق فيه لقضايا الاستبداد والاستعمار وغيرها من القضايا التي تَمسّ مجتمعه، لا يُمكن أن يكون إلا أديبًا حرًّا، لما يحمله أدبه في قلبه من دعوات يَستثير فيها رغبة قرائه في الحرية والتحرّر ويستنهض عزائمهم نحو المضي نحوهما، أما جمالية هذا الأدب فستكون نتيجة حتمية لجمالية مضامينه وما يدعو إليه.

وإنّ دعوة إدريس السابقة جاءت متزامنة مع مرحلة تاريخية تميّزّت بصراعات وأحداث عربية كبرى، في مقدمتها حرب تحرير الجزائر، والحركة الناصرية، وقضية فلسطين.. وقد استجاب لها أو وجد نفسه في منطقها العديد من الأدباء العرب الذين وطنوا أقلامهم من أجل الكتابة في هذه القضايا وغيرها من قضايا الاستبداد والاستعمار التي كانت ولا زالت ترزح تحتها بلادهم العربية، وهم وإن كانوا سابقًا من أصحاب الاتجاهات اليسارية والقومية العربية الذين وجدوا في الكتابة الأدبية والروائية تعويضًا لهم عن العمل الحزبي كعبد الرحمن منيف، فإنّهم اليوم من أصحاب الأقلام الحرة الذين يؤمنون بقدرة كلمة الأدب على التأثير والتغيير وفتح آفاق جديدة، أو كما أوردَ منيف في إحدى مقابلاته: "الكلمة الصادقة كالنجمة في السماء، تُميّز ولا يُمكن أن تُحجب، وبالتالي يُمكن أن تكون دليلًا، ويُمكن أن تساعد في الوصول إلى آفاق جديدة".