31-أغسطس-2020

الأسد وزوجته

يحتل الطعام في الثقافة العربية البدوية مكانة عميقة في وجدان الأفراد، مرده في ذلك الطبيعة الجغرافية المقفرة، التي فرضت على قاطنيها نوعًا من الصراع القاسي على موارد الحياة النادرة. فعلى الرغم من روابط القربى والدم التي تعلو في أهميتها على أية روابط أخرى، في تشكيل الأخويات الطبيعية المتجذرة في مؤسستي القبيلة والعشيرة، فإن الطعام استطاع مع ذلك أن يخلق لنفسه نوعًا من الأخويات الاجتماعية العابرة للقبائل. ففي كل مرة كان لغريبين، ضيف ومضيف، أن يلتقيا على طعام، فإن نوعًا من الرباط الأخوي المقدس كان ينشأ بينهما عبر طقس المناولة الاجتماعية تلك، التي غالبًا ما كانت تتجاوز في فعاليتها لحظة النشوة الاحتفالية إلى فترة تمتد على طيلة الالتزام الأخلاقي بها، على نحو يحفظ السلام الأهلي للمتحابين في الطعام.

لم يكن الهدف من صورة الأسد وهو يأكل مع جنوده أن تخدم صورته كرئيس متواضع، بقدر ما كانت تحرص على تصديره كأخ للجنود

تتشابه بنية القبيلة مع الجيش العقائدي لناحية تمحور أفراد كل من المؤسستين حول الزعيم أو القائد الملهم، كما لناحية دور الزعيم الطاغي في خلق مثل هذا التمحور. فالجنود لا يدخلون مع علاقة طوعية مع قائدهم، إلا إذا ما لمسوا فيه قدرة على تأمين مصالحهم اليومية في الطعام كما الغنيمة. الزعيم الناجح هو الزعيم الذي يحرص على رفد أنصاره المحاربين بكل أنواع الموارد، سواء كانت على شكل رواتب ثابتة أو امتيازات معنوية أو غنائم طارئة. أما ما يقال عن الحب الفطري الذي يشعر به الجنود تجاه قائدهم الملهم، فليس مرده إلا امتلاء قلوبهم بعظمته، بقدر ما يتعلق الأمر بامتلاء جيوبهم بنقوده.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد.. استحالة السياسة

على الرغم أنّ الرواتب الثابتة والامتيازات وغنائم التعفيش قد حلت منذ وقت طويل بين الأسد وجنوده، فإن رمزية المناولة التشاركية للطعام بينه وبينهم لم تنقطع يوميًا، بل غالبًا ما كان يتم العمل على ترتيبها في الأوقات التي يمكن أن تسهم في تحقيق الأثر المطلوب من تنظيمها. فالدلالة الرمزية لحفلات عشاء الرئيس مع جنوده الميامين على خطوط النار لم يكن يقصد منه  توظيفها على نحو أساسي لتخدم صورته كرئيس شعبي متواضع، بقدر ما كانت تحرص على تصديره كأخ للجنود. فالطعام الجماعي بين الرئيس وجنوده وحده القادر على إيقاظ مشاعر الرابط الأخوي، الذي يلعب فيه الخبز دورًا محوريًا في شد أواصر الجماعة، التي يحولها التناول الطقوسي أو الجماعي إلى مجموعة من الأخوة المتضامنين فيما بينهم في السراء والضراء، الأمر الذي يساهم رمزيًا في خلخلة الفروق بين الرئيس ومرؤوسيه من جهة، و ثم يعيد تحشيدها نحو الحفاظ على موقعه في تلك الأخوية كزعيم من جهة أخرى، على نحو يحفظ له حق السمع والطاعة عن بقية أعضاء الأخوية.

لم يدر في خلد المقدم معن عيسى، أحد ضباط الأسد، وهو يدلي برأيه حول قضية البطاطا والبندورة العفنة، التي دأبت قيادة الجيش إرسالها إلى جنودها وضباطها طيلة فترة الحرب، أنه سيكون عرضة للرشق بها مرة عبر قرار القيادة السياسية التي أمرت بإحالته للسجن، ومرة أخرى عبر كتبة الأفرع الأمنية، التي لم يحسبوا حسابًا لرائحة البطاطا الواخزة وهم يرشقون فيها جرأته على القيادة.

إذا كان هناك من دلالة لحملة البطاطا فهي أن الأسد لم يعد قادرًا على تأمين ما يقيم أود جنوده، ولا عاد جنوده الجوعى قادرون على إطاعته

فعليًا لم يقم العيسى بأكثر من الإدلاء بدلوه في قصة بات معروفة ومتداولة منذ سنوات. فكل ما في الأمر أن الرجل لم يعد يطيق الاستمرار في تحمل رائحة صناديقها العفنة أكثر من ذلك، الأمر الذي دفعه إلى توجيه خطاب مفتوح إلى من يهمه الأمر من مسؤولي الجيش يخبرهم فيها عن الجهة التي يجب أن توجه إليها مثل تلك النفايات العضوية، التي لا تكف عن وخز كرامة مستقبليها.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد.. عشرون عامًا

إذا كان هناك من دلالة لكلام العيسى فإنه يؤشر على درجة التفسخ التي وصلت إليها العلاقة بين أخوية الجنود المتحابين بالرئيس. فلا الرئيس قادر على تأمين ما يقيم أود جنوده، ولا جنوده الجوعى قادرون على إطاعة رئيس يتقصد أن يدير ظهره لحق الأخوة المقدس الذي يربطه بهم. ففي الجيوش العقائدية التي يتم فيها استبدال الولاء بالوطن بالولاء للقائد فإنه غالبًا ما تفقد اعتبارات الخبز والملح وجاهتها، لتحل محلها القيم الحقيقية العارية، التي طالما تهرب الجميع من الاعتراف بها؛ الارتزاق والغنيمة مقابل الخضوع والطاعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مرض القصر الجمهوري

أوهام تصريف العنف الطائفي في خطاب السلطة الأسدية