06-يونيو-2022
راجنار بيرسون

لوحة لـ راجنار بيرسون/ السويد

1

يُقال في معنى كلمة "الشغف" بأنّها "أقصى الحبّ"، وكلّما فكّرتُ في هذا المعنى للكلمة يَرد إلى ذهني فورًا فعلُ الكتابة كفعلٍ تربطني به علاقة شغف، فأنا أحبّ الكتابة، وحبّي لها يأتي في درجة قصوى. يُشبه إقبالي عليها الإقبال على فعلِ حبٍّ خالص، أذكر أنني أخبرتُ إحدى الصديقات مرة بأنّ شعور النشوة الذي يعتريني عندما أنهي نصًّا جديدًا يُشبه تمامًا شعور النشوة الذي تَشعرُ به النساء عادة عندَ بلوغهنّ مرحلة الذروة في العلاقة الجنسية.

في زمنٍ ما مستقبليٍّ –ربّما- سيفتتح روائيٌّ ما روايته بعبارة مطابقة تمامًا للعبارة التي افتتح بها جوزيه ساراماغو روايته "انقطاعات الموت"، سيبدأ ذلك الروائي روايته بعبارة "في اليوم التالي لم يمت أحد"

نعم، إنّ اكتشاف الشغف بالفعل لا يكون إلا باكتشاف التأثير الناجم عن ممارسة هذا الفعل، وإنّ ازدياد درجة النشوة المتولّدة من ممارسة الفعل يأتي ليشي دائمًا بالشغف؛ هذا الشعور الذي يحكي عن الحبّ الأقصى الذي يُصيبُ القلب في أعماقه ويجعل الإنسان يشعر بالتعلّق الشديد اتجاه الشيء أو الشخص أو الفعل الذي يُحبّه، إنّه ذلك الشعور الذي تأتي عبارة "اتبَع شغفك" لتُخبرَ عنه وكأنّه شيخ من نوع ما، وكأنّ الإنسان المأخوذ بشغفه هو مريد بشكل أو بآخر، عليه لكيْ يَبلغ شيخه/ شغفه أن يَدخلَ طقسًا عِشقيًا خاصًا، يستكشفُ من خلاله تفضيلاته الذاتية، ثمّ ما أن يَعثر على واحدة منها حتى يمدّ لها يدَ قلبه لتلامسها، ويقول: وما الشغفُ سوى كلّ ما ولجَ القلبَ فمسّ شِغافه!

2

هناك فيلمان يأتيان ليستعرضا حالات شغف لأشخاص بأفعال وهوايات معينة، وتكون نهاية هذه الحالات نهاية لا متوقعة، فشغفهم بتلك الأفعال والهوايات يصل بهم إلى درجة ارتكاب الجرائم والأفعال الخارجة عن القانون.

الفيلم الأول هو فيلم "The Motive" (2017)، ويأتي الفيلم ليستعرض حالة شغف معينة لرجل مولع بالكتابة، يُمضي الرجل فترات طويلة من حياته وهو يتلقّى دورات تُعلّمه فنون الكتابة الأدبية والإبداعية، يبدو الرجل مأخوذًا كلّيًا بعالم الكتابة والتأليف، حتى أنّه يمشي في الشوارع على غير هداية، باحثًا عن تفاصيل ومشهديات وأحداث جيدة للكتابة. وفي كلّ مرّة يعرضُ فيها نصًا يكتبه على مدربه ويُبدي المدرّب استياؤه وعدم رضاه عن مستوى النصّ يدخل الرجل في حالة يائسة بالكلّية، حتى انّ إحدى مشاهد الفيلم تُظهره واقفًا على طاولة الكتابة بشكل عارٍ رافعًا خصيتيه إلى أعلى في محاولة لاستدعاء الإلهام، وعاملًا بنصيحة مدربه الذي قال له: "إن واجهتك عقبة في الكتابة، افعل ما فعله همنغواي، اكتب عاريًا، واضعًا خصيتيك على الطاولة".

يصف محمود درويش في مقطع من قصيدة له مرحلة النضج التي يصل إليها الإنسان في العبارات التالية: "في مرحلة ما من هشاشةٍ نُسَمَّيها نضجًا، لا نكون متفائلين ولا متشائمين، أَقلعنا عن الشغف والحنين"

 يُقرّر الرجل بعد تفكير عميق أن يكتب روايته مستلهمًا أحداثها من أحداث حقيقية تجري في المبنى السكني الذي يعيش فيه، وينوي أن يعنونها باسم "ركيزة الحياة"، يَعتقد الرجل أنّ بإمكانه التحكّم في مسار أبطال روايته، الذين هم ليسوا سوى سكان المبنى الذي يعيش فيه، كما يشاء، ويَقوم بتزويد عامل بسيط من جيرانه بمعلومات جاره العجوز الثري، وذلك لدفعه حتى يقتله ويسطو على ماله، تجري الأحداث كما رتبها الرجل في رأسه تمامًا، إلا أنّ تفصيل بسيط يحدث يُغيّر مسار روايته وحياته بالكامل، فالعامل يقوم بقتل العجوز بأداة يستعيرها منه وتكون عليها بصماته، ويكون هذا التفصيل البسيط الذي لم يُخطّط له في سيناريو روايته كفيلًا بأن يُدخله السجن، ويكون دخوله ثمنًا يدفعه لشغفه ولإصراره عليه ولحاقه به حتى النهاية.  

الفيلم الثاني هو الفيلم الإيراني "Close Up" (1990) الذي يأتي ليستعرض قصة حقيقية لرجل مولَع وشغوف بالسينما، يصل به حبّه لها وشغفه بها إلى درجة قيامه بانتحال شخصية مُخرج شهير، وإقناع أصحاب إحدى المنازل بأنّه ينوي اتخاذ منزلهم كموقع تصويري لفيلمه، وينوي جعلهم يُمثّلون فيه، حيثُ يَمكث في منزلهم بناءً على هذا الادعاء، وبعد أن يُكشف أمره يتمّ اعتقاله، وتُجرى له محاكمة يَستعرضها الفيلم ناقلًا إياها في أجزائها الحقيقية كما حدثت في الواقع.

وواحد من الحوارات اللافتة من حوارات المحاكمة هو حوار يجري بين القاضي والرجل المتّهم بالانتحال حول حقيقة دعوته لأفراد المنزل بالتوجّه لحضور فيلم من إخراجه في السينما، يسأل القاضي الرجل إذا ما كانت نواياه بدعوته تلك هو السطو على منزلهم وهم غائبون عنه، فيُجيب الرجل: "أردت لهم أن يُشاهدوا الفيلم ليزدادوا شغفًا بالسينما"، حيثُ تأتي إجابته وكأنّه يُريد لحالة شغفه بالسينما ومعاينته لحالة النشوة التي تُصيبه أثناء مشاهدتها أن تنتقل من مساحات الاحتكار في ذاتيته إلى مساحات الإشاعة في ذات الآخرين، وكأنّ حالة شغفه تلك هي دائنه الذي لما أقرضه النشوة كان لزامًا عليه أن يردّ لها دينها بأن يجعلها نشوة معممة، تَسوده وتسود الآخرين بشكل تغدو فيه نشوة مؤمّمة عابرة لحدود التخصيص!   

3

في زمنٍ ما مستقبليٍّ –ربّما- سيفتتح روائيٌّ ما روايته بعبارة مطابقة تمامًا للعبارة التي افتتح بها جوزيه ساراماغو روايته "انقطاعات الموت"، سيبدأ ذلك الروائي روايته بعبارة "في اليوم التالي لم يمت أحد"، سيتحدّث الروائي عن عالمٍ مًتخيّل يسيرُ فيه الناس بأعين منطفئة وحركات آلية كالروبوتات، عالمٍ لم يعدّ فيه مكانٌ لاستشعار النشوة التي تولّدها حالات الشغف، إنّه عالم ديستوبي لا مكان فيه لأي ممارَسة يكون الحبّ منطلقها، إنّه عالم الممارسات الغائية البحتة، حيثُ يمارَس فيه الفِعل لغايات الواجب أو الالتزام أو طلب المال أو غيرها، وهو عالمٌ مليءٌ بأشكال افتقاد لشعوريات يُدركِ الناس افتقادهم لها لكنّهم لا يعرفونها، لا يتذكرونها، يتحسسون قلوبهم كلّ حينٍ وكأنّ في داخلهم رغبة قصوى بالشعور بشيءٍ ما لا يعرفونه. سيسرد ذلك الروائي حياة هؤلاء الناس الذين كانت لحظة انطفاء الشغف في قلوبهم هي اللحظة الذي قرّر فيها الموت التنازل عن مهمته المقدسة في قبضِ الأرواح، مقرًّا ومعترفًا بأنّ قراره ذاك جاء نتيجة خوفٍ اعتراه من أشخاصٍ أقبَلَ عليهم، فلمَح نفسه في عيونهم المنطفئة، وكأنّه يسكنها ويقيمُ فيها منذ الأزل!

 4

يصف محمود درويش في مقطع من قصيدة له مرحلة النضج التي يصل إليها الإنسان في العبارات التالية: "في مرحلة ما من هشاشةٍ نُسَمَّيها نضجًا، لا نكون متفائلين ولا متشائمين، أَقلعنا عن الشغف والحنين"، كلّما استذكرتُ هذا المقطع يخطر على بالي مقطع من أغنية أخرى تقولُ في كلماتها: "بكرة الشعر بشيب والشغف هادا هيطير"، أسألُ نفسي حينها: هل هناك علاقة حتمية بين التقدّم في العمرِ وفقدان الشغف؟ وهل على النضجِ أن يُورّثنا عيونًا منطفئة، وقلوبًا لا تشعر بالنشوة؟ وكيف يُمكن لحالة الشغف أن تستمرّ حتى مع النضج أو التقدّم في السنّ؟ تُباغتني عندها عبارة تقول: "من يحفظ رأس الطفلُ فيه يحفظ رأسه"، فأحوّرها لأغراض الإجابة وأقول: ربّما، من يحفظ عمرَ الطفلَ فيه، يحفظ شغفه.