14-أغسطس-2018

أحمد جابر

يفتحُ أحمد جابر كتابًا ويبدأ بقراءته شأنهُ شأن أيّ قارئٍ للأدب. ولكنّه حين يُغلقه، فإنّه يفعل ذلك مدفوعًا بالغيرة؛ الغيرة التي دائمًا ما تُحرّضه على الكتابة بحسب قوله.

أحمد جابر: تكتسب اللغة من الكتب التي ينكب عليها الإنسان

أمّا كيف صار كاتبًا؟ فيُجيب قائلًا: "في البداية، كانت محاولات ناتجة عن غيرة، غيرة من هؤلاء الذين ينامون على رفوف المكتبات". هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، فإنّ لأحمد جابر دافعًا آخر مشى به نحو الكتابة، وهو ما معناهُ أنّ لكلٍّ منّا: "أوراقًا سرية حاولنا في كثير من اللحظات أن نكتب فيها عن أيامنا، أو أحلامنا، أو مشاعرنا، بغضّ النظر عن تفاوت القوة اللغوية، لكنّنا كلّنا بما أنّنا نستطيع الإمساك بالقلم، فسيقودنا هذا الأمر لنكتب، نكتب أي شيء قد يخطر في البال. فيما بعد، تحوّل المنظور إلى إدراك داخليّ بأنّني قد أقدّم أفكارًا لهذا العالم. وكنت في فترة من حياتي كثير التفاؤل، ومفعمًا بالحياة، والأمل، والحب، فحاولت أن أقول في كتاباتي إنّ هذه الحياة تستحق أن نعيشها".

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة جمال جمعة

يُنهي أحمد جابر حديثه فيُخيَّل إليّ، من مكاني خلف شاشة "الكمبيوتر"، بأنّه يأخذ نفسًا طويلًا. ولذا أنتظر قليلًا قبل أن أسألهُ عن لحظة اكتشافه للقراءة. يقول: "لا أتذكر نفسي إلا قارئًا منذ صغري، قصص المكتبة الخضراء للأطفال وقصص مكتبة الطفل، وغيرها من القصص الدينية والعلمية التي كنت أقضي معظم أوقاتي بينها. أمّا القراءة الأدبية الممنهجة فقد كانت في عام 2012، مع أدب جبران خليل جبران، غسان كنفاني، محمود درويش، حنّا مينه، وغيرهم، وصرت أقرأ في كل لحظة أستطيع فيها أن أمسك كتابًا، وأتلذذ في هذا الوقت أكثر من غيره".

[[{"fid":"102050","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"كأن شيئًا كان","field_file_image_title_text[und][0][value]":"كأن شيئًا كان"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"كأن شيئًا كان","field_file_image_title_text[und][0][value]":"كأن شيئًا كان"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"كأن شيئًا كان","title":"كأن شيئًا كان","height":298,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

كيف ولدت عند أحمد جابر الرغبة في رواية القصص والحكايات؟ وما هي خطوات الكتابة عنده؟ يصمتُ قليلًا قبل أن يُجيب: " أنا أصلًا لا أحب الكلام أو الثرثرة كثيرًا، لكنّني أتفاجأ من نفسي وقتما أمسك ورقة، أو أبدأ بالكتابة على جهازي المحمول. أما خطوات الكتابة عندي فكانت بسيطة، ثلاث خطوات: القراءة، القراءة، القراءة".

"رحلة العشرين عامًا" هو عنوان كتاب أحمد جابر الأوّل الذي دخل من خلاله فضاء الكتابة. والذي أتبعه لاحقًا بكتابٍ آخر تحت عنوان "كأنّ شيئًا كان". والكتابان ضمّا بين دفّتيهما عددًا من النصوص والخواطر البسيطة، تلك التي يقول ضيفنا إنّها ما يبدأ المرء عادةً بكتابتها فور دخوله فضاء الأدب. نسألهُ هنا عمّا دفعه إلى التوجّه إلى القصّة القصيرة بعد هذين الكاتبين. هل للأمر علاقة بتغير رؤيتك للكتابة الآن عن رؤيتك لها في بداياتك؟ وكيف تقيم تجربتك الأولى الآن؟ يقول: "النصوص أو الخواطر كما قلت سابقًا، هي ما يفلح الشخص في كتابته في البداية، لأنّها تعبير عن ذاته. حسنًا، أنا لن أتبرأ مما كتبتُ، كان من الممكن أن يكونا أفضل من ذلك، لكنّهما تجربتان ما كنت لأكون ما أنا عليه الآن لولاهما".

يُضيف: "هناك لحظات في حياتنا أسمّيها "هدايا"، وهذا ما حصل عندما خطر في بالي ولأوّل مرة أن أكتب قصة، أحببت هذا الأمر، أو "وجدت نفسي في كتابة القصة"، فصرت أكرّس معظم وقتي لقراءة القصص، قرأت تشيخوف، ألبرتو مورافيا، ماريو بيندينتي، وغيرهم في الأدب المترجم، وهنا عادت الغيرة مجددًا، لكن هذه المرّة ليست منهم، بل على الأدب العربيّ في الساحة الأدبية، والفلسطينيّ خاصّة، إذ من الملاحظ أنّ هناك ميلًا نحو كتابة الشعر والرواية وعزوفًا عن كتابة القصة، وإذ إنّني وجدت نفسي قادرًا على تقديم محتوى جيّد نوعًا ما في إطار القصة، أكملت طريقي في هذا الاتجاه".

أُذكِّر أحمد جابر بصدور مجموعته القصصية الأولى "السيد أزرق في السينما" قبل بضعة أيام من الآن. أطلب منه الحديث عنها لنتعرّف إليها قليلًا، فيقول: "هي "كوكتيل" من القصص المختلفة في عوالمها وشخصياتها التي تميل لأن تكون غريبة الأطوار أكثر منها سطحية مكشوفة، وإذا أردت تقديمها فأقول: إن السيد أزرق قد خرج من قاعة السينما ليقصّ علينا ما رأى. في هذه المجموعة حاولت أن أركّز على الحدث والحركة ما أمكنني لأجعل القارئ جزءًا من الحكاية بتخيّله أمامه كأنها "فيلم في سينما"، وكانت البدايات مباشرة ومتنوعة في قلب القصّة دون تمهيد مطوّل، والنهايات مباغتة في غالبها".

لا يكتفي أحمد جابر عند هذا الحد. يأخذ نفسًا قبل أن يضيف قائلًا: "من الأمور المثيرة للاهتمام أن النص الأدبي قابل لاستقبال الآراء من أي كان، فنرى اختلافًا في الأذواق الأدبية، والآراء النقدية، وتفاوتًا في وجهات النظر، وما يعجب البعض قد لا يعجب الآخرين، وما لا يعجب البعض سيراه الآخرون كتابًا أو نصًا فائق الروعة. لهذا بعد نشر الكتاب، سأترك للسيد أزرق المجال ليحكي، وأنا أقف مع الجمهور مستمعًا لقدرته في السرد والوصف، لكنني أثق تمامًا به".

[[{"fid":"102051","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"السيد أزرق في السينما","field_file_image_title_text[und][0][value]":"السيد أزرق في السينما"},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"السيد أزرق في السينما","field_file_image_title_text[und][0][value]":"السيد أزرق في السينما"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"السيد أزرق في السينما","title":"السيد أزرق في السينما","height":340,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

كيف يكتب أحمد جابر قصّته؟ من أن أين تأتي القصّة عندهُ، واللغة أيضًا؟ "اللغة تكتسب من الكتب التي يقرؤها الشخص". يُجيب، ويُضيف: "كلّما قضى وقتًا أطول معها، اكتسب لغة ومفردات وأساليب أكثر. بالنسبة لقصصي، فلا أعلم تمامًا كيف تجيء، وكيف تخطر في البال، معظمها يتوارد إلى ذهني أثناء المشي في الطرقات، من مراقبة الأشخاص والأشياء حولي، من جملة قالها أحدهم دون قصد، أحبّ التقاط الإشارات وما لا ينتبه إليه عامّة الناس".

هل لديك آباء في القصّة القصيرة، أو الأدب بشكلٍ عام؟ يعلّق ضيفنا: "أحبّ الكثيرين من الكتّاب، وإن بدأت بتعداد أسمائهم فلن أتوقف، كل كاتب قرأت له كان لديه شيئًا مميزًا أضافه لي. لكن أستطيع القول في ساحة القصص فإنني صرخت من الدهشة بعد قراءة صوت البحر لألبرتو مورافيا وعشيقات الماضي البعيد لماريو بيندينتي".

من يعرف أحمد جابر، يعرف أنّ لديه حكايةً ما مع الأسماء والعناوين؛ عناوين كتبه وقصصه، وأسماء شخصياته. قلتُ له: أحمد، ما هي حكايتك مع الأسماء والعناوين؟ يجيب: "لا أحبّ تفسير العناوين، أو حتّى الدخول في تفاسير بعض الملابسات في القصص، أحبّ ترك المجال للقارئ ليشكّل رؤيته الخاصّة، ومنحه الحرية الكاملة لتفسير العناوين أو ما وراء القصص حسبما يريد، هذا يخلق قصصًا أخرى في مخيّلات القراء، وربّما تكون أفضل مما أريد روايته. لكن من زاوية ضيقة، فاللون الأزرق هو لون البرود والتردد والخوف والوحدة والعزلة، وشخصيات القصص هكذا في غالبها".

أحمد جابر: "شعرت أن مهنّد يونس يقول لي: أنا وصلت قبلك إلى نهاية أخرى، أنا قصّة قصيرة أصلًا"

أعرفُ جيدًا ولع وشغف صاحب "كأنّ شيئًا كان" بحكاية القصص وروايتها. أسألهُ إن كان هذا الأمر قد يقوده يومًا إلى فضاء الرواية، فيقول: "كما قلت سابقًا: وجدت نفسي في القصة القصيرة، ولا أفكر حاليًا في كتابة الرواية، ربّما، ربّما فيما بعد، لكنني أشعر أنني أنجح في إيصال ما أريد من أفكار بشكل كامل في القصص. والرواية العربية في نضوج مستمر، وهذا الكم المتزايد سيؤدي إلى تنافس بين الكتّاب لتقديم أفضل ما لديهم، ومحاولة منهم لتسليط الضوء على مجاهيل الحياة اليومية، مما يجعل القراء (وليس الجمهور) يغربلون هؤلاء الكتّاب حتى لا يضيع وقتهم في قراءة الروايات العادية".

اقرأ/ي أيضًا: الطاهر وطّار.. نحو قراءة أخرى لكاتبٍ اختلف عليه الجزائريون

في نهاية حوارنا معهُ، أسألهُ عن شعوره لحظة فوزه بجائزة "القطّان للكاتب الشاب، 2017" عن مجموعته السيد أزرق في السينما. لا سيما وأنّ لهُ تجارب سابقة مع الجائزة، إذ ترشّح لها مرّتين، وتمكّن من حصدها في المرّة الثالثة. يأخذ نفسًا، ويقول: "من البديهيّ الشعور بنشوة النجاح، بأن تنال المجموعة استحسان ذائقة لجنة التحكيم، وما زادني فرحًا هو محبّة الأصدقاء جانبي، وفرحهم لي، كنت دائمًا أتخيل نفسي واقفاً على المنصة فائزًا، وفي تلك اللحظة كان حلمًا وتحقق. من ناحية أخرى كان لديّ شعور داخليّ خاص بي، هذا الفوز كان ضمن منافسة غريبة جدًا، منافسة مع شخص ميّت، وهو الصديق الذي لم أتعرف إليه إلا بعد موته، الكاتب مهند يونس، الذي انتحر بعد فترة من تسليمه مخطوطته للمسابقة، وهذا جعل من الأمر تنافسيًا بشكل غريب، إذ كنّا اثنين في مواجهة بعضنا، وكل منّا في عالم مختلف تمامًا، وقد شعرت أن مهنّد يقول لي أيها المنافس: أنا وصلت قبلك إلى نهاية أخرى، أنا قصّة قصيرة أصلًا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رحيل ف. س. نيبول.. أدب في خدمة الاستعمار

العصاب الثقافي.. لماذا نخاف من التحليل النفسي؟