17-أغسطس-2022
لوحة لـ رومار بيردن/ بريطانيا

لوحة لـ رومار بيردن/ بريطانيا

على فراش النقاهة بعد عملية جراحية مؤلمة، وسط نوم مضطرب وصحو ضبابي، داهمتني مشاعر حادة غير مألوفة. صوت احتجاج دوى في صدري، عنفني لأني كنت طوال هذه السنوات رهينة عقلي المغرور المليء بالوساوس والعصي على الرضى. 

وبسبب الألم والخوف من الألم كنت مستعدًًا للإصغاء، فملأني شعور بأنه لا يمكن.. لا يمكن أن نكون هكذا: مجرد ريشة في مهب الريح، إذ يجب أن يكون هناك معنى ما، مغزى ما.. يجب أن يكون هناك شيء غير هذا الجسد سريع العطب.. لا بد من وجود وجه آخر للوجع، خلاصة حكيمة تبرر الدرس الرهيب، مكافأة سخية تذيب ذكرى الطعنات التي فتكت باللحم والعظم. ومن يدري؟! فربما تكون كل هذه التقلصات والتشنجات والوخزات مجرد مقدمات ضرورية لنتائج بهية ساطعة. ربما هي مقايضة صنعتها يد القدر الرحيمة: أن أتألم لكي أفهم. أن يدفع جسدي الثمن لتكسب روحي، أن أكابد مخاضًًا عسيرًًا لكنه يفضي في النهاية إلى فردوس المعنى المفقود، فأستكين وأطمئن..

لا يمكن أن نكون هكذا: مجرد ريشة في مهب الريح، إذ يجب أن يكون هناك معنى ما، مغزى ما.. يجب أن يكون هناك شيء غير هذا الجسد سريع العطب.. لا بد من وجود وجه آخر للوجع، خلاصة حكيمة تبرر الدرس الرهيب

وهذا ما أعرفه وما أخشاه: أسبوعان، ثلاثة أسابيع.. ويستعيد عقلي المتشكك الموسوس شيئًًا من تسلطه، فيرجع ليعيث في كياني قلقًًا، مطيحًًا بهذه الاستنتاجات الأثيرية الحلوة والهشة. وعلى الأرجح سيعود صوت شكسبير ليملأ رأسي، مرددًًا كلماته التي تقطر أسى: "الحياة.. إنها حكاية مملة، يرويها معتوه، ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء"!!

*

 

قال: "قراءة الكتب العلمية واجب ثقيل بالنسبة لي. ليس لأنها عسيرة على عقلي الذي صاغه تعليم وثقافة أدبيين، وليس لنقص في فضولي إزاء هذا العالم المترع بالألغاز.

الحقيقة أنني أراها باردة، صقيعية، وقاسية.. وهي تجرحني دومًًا، وتتركني كل مرة محبطًًا مسلوب الحماس والإقدام.

ولقد اعتدت القراءة، لا بحثًًا عن الفهم وحسب، بل وعن العزاء كذلك، عن السلوى، وعن الإحساس بأنني لست شيئًًا عرضيًًا مهملًًا، أو مادة جاءت بها صدفة وتذهب بها صدفة.

أشعر بأنني أنطوي على عالم شاسع يضطرم بنيران مستعرة وأمواج مياه خرافية، مسكون بالملائكة والشياطين، الأحلام الشفافة النورانية والكوابيس السوداء. عالم ملغز، بألف وجه وألف لون وألف حال.. فكيف أصدق كتب العلم التي تقول لي إن كل هذا ما هو إلا نتاج كهرباء وكيمياء وتوصيلات عصبية تشغلني كما الآلة.. مجرد آلة.

تجيد كتب العلم توصيفي، تحصيني ذرة ذرة، وتدرس طرائق تشغيلي، تشخص أعطالي، وتنجح أحيانًًا في إصلاحها.. لكنها لا تقول شيئًًا عن المعنى، عن الهدف، عن الجدوى.. تقول "ماذا" ولا تأتي أبدًًا على ذكر "لماذا".

يقول أحد هذه الكتب، مثلًًا، "ما نحن إلا آلات لنقل الجينات".. أي أننا مجرد عبيد للبيولوجيا، للتطور، للانتخاب الطبيعي، تنحصر مهمتنا في أن نحافظ على بقاء النوع، ثم نتبخر هكذا بلا أي مجد أو بطولة.. فأي هدف للحياة هذا؟!". 

 قلت: "وإذا كانت هذه هي الحقيقة؟".

ميلان كونديرا: "إن الحياة الإنسانية بوصفها كذلك هي هزيمة. والشيء الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة هذه الهزيمة الحتمية التي تسمى الحياة هو محاولة الفهم، وهنا سبب وجود فن الرواية"

قال: "لحسن الحظ يوجد كتب أخرى تقول شيئًًا مختلفًًا، كثير من كتب الأدب وكثير من كتب الفلسفة، تلك الكتب التي ترى تحت هذا السطح الهش محيطًًا فسيحًًا بأعماق سحيقة، وهي لا تكف عن الغوص للعثور على أصداف ولآلئ ووحوش ضارية وعجائب من كل صنف ولون.. دون أن تستنفدني أبدًًا، ودون أن تقول إنها أحصتني وفرغت مني.. وبعد كل رحلة، بعد كل غوص، تعدني بمزيد من المخبوءات والأسرار".

قلت: "وأين العزاء في ذلك؟".

قال: "إنها تبقيني لغزًًا. وأن أكون لغزًًا خير ألف مرة من أكون آلة".

*

ميلان كونديرا (كتاب الستارة): "إن الحياة الإنسانية بوصفها كذلك هي هزيمة. والشيء الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة هذه الهزيمة الحتمية التي تسمى الحياة هو محاولة الفهم، وهنا سبب وجود فن الرواية".