05-أغسطس-2015

عبد الكريم مجدل بيك/ سوريا

اعرفوا جيّداً

في المنزل الذي قضينا في طابقه العلوي ثلاث ليال، على حدود صربيا، مشتركين مع كلبة تشغل طابقه الأرضي وجرائها الستة، عثرتُ بين مخلفات الذين سبقونا على دفتر يوميات من تلك المجلدة بجلد كحلي، والتي كانت توزعها المؤسسات على موظفيها، مطلع كل سنة جديدة، دعاية لبرامجها وهنا يدعى: برنامج تحديث قطاع المياه – حلب، وتصورت لوهلة أنني على عتبة لعبة من الألعاب المنتهية الصلاحية التي يتفنن بها روائيونا، حين يعثر البطل مصادفة على مذكرات سجين سياسي، ليبدأ التعذيب السادي الذي لا يسلم منه أحد وصولاً إلى القارئ البائس.

يبدو أنه كان خريج كلية الرياضيات أو الاقتصاد، وأنه كردي عمل لفترة في أربيل وكان يتبع دورة في الإنجليزية تمهيداً لإقامته في أوروبا، فالدفتر يبدأ بتلخيص للمبادئ الأساسية للاحتمالات، التجربة والإمكانات والاحتمال والحدث، ثم تليه فصول من القواعد والجمل الأكثر استعمالاً في الحياة اليومية مثل:

?Do you want to change the room

ثم تتابع جداول لنتائج لعبة الورق "41" التي يبدو أنه كان يتسلى بممارستها مع أصدقائه المذكورين في الجدول: ريزان ومنان وآزاد.

في الصفحتين الأخيرتين يسجل على الهامش أرقام الموبايلات التي تعود لدول عبرها: العراق، تركيا، اليونان.. فيما المتن يتركه لما يشير إلى أنه كان يعاني اجتراراً عاطفياً لا يخلو من الإنكسارات:
– الحب أن تصغي لها مهما كان حديثاً تافهاً.
– المواقف خريفُ العلاقات.

ربما كان يعترف لنفسه أو يقتبس لكنه كان يرى نفسه بالتأكيد نبياً صغيراً يخطب في ملأ ملهوف للخلاص:
– لا تهتموا كثيراً، لا تعاتبوا أحداً، ولا تركضوا خلف أحد لتذكروهم بوجودكم.

ثم ودون أن يعرف أنه يقف وحيداً على عمود من الخراء، يكتب مختتماً متوجهاً للمعذبين أسفل جبله المقدس:
– اعرفوا جيداً: من يحب لا ينسى.

Gallo pinto

حين تلفُّ كلاوديا ساقاً على ساق وتترك شعرها غير مربوط، تبدو طويلة أكثر مما هي، وحين تضحك تبدو عيناها مدهشتين كفاية لترى كل شيء جميلاً.

يقهقه هيكتور، يقهقه بالصوت السوبرانو الشاب، لكنه يفسدها بالنبرة الغاضبة حين يتهكم على اليونانيين، سأفهم منه أن أثينا مستنقع لا يطاق، تؤكد كلارا على ذلك، لكنها تتحفظ لأنها تبدو غير ذلك، على الأقل حين تصل إليها ولأكثر من سنة. كلارا تتكلم بذكاء دون أن تجهد نفسها، تحب أرنستو ساباتو وماريو بنديتي وخوليو كورتاثار، وبينما نتذكر كتّاب الإسبانية الآخرين وأغلبهم يكون اسمه الأول خوان، وما إن ألفظ ثيسار باييخو، تردد باندهاش، ثيسار باييخو، يه، يه، وثم تقرأ بالإنكليزية مفتاح قصيدته الشهيرة:

سأموتُ في باريس حينما تكون تمطر
في يومٍ لديّ منذ الآن ذكرى عنه
سأموت في باريس ولست مستعجلاً
ربما في يوم خميس مثل هذا اليوم..

تشغّل كلاوديا موسيقى مرحة من لابتوبها الخاص، الموصول بمضخمات صوت كبيرة حين ننتهي من الـgallo pinto، الأرز بحبات الفاصولياء بجانب البيض المقلي والكاتشب الحار، الذي أعدته ريميه التي أتت متأخرة وغادرت مبكراً، ريميه تملك وجهاً مؤمناً ذا خدود كراسي، أخمّن بينما تتحدث الإسبانية من أنها بعدما تغسل وجهها مثلاً، تهدأ للحظات أمام مرآة التواليت، وتنظر للحياة تسيل على جلدها كرغوة، ثم تنتبه أنه ثمة ضيف أو صديق أو أحد من العائلة ينتظرها، فتبتسم مرة أخرى وثم تعود.

أخطئ عندما أقول إن أثينا قديمة وشهوانية وحسب، وأجازف إذا قلت أنني أحببتها أكثر من دهوك، ولا أدري تماماً ما الذي يعنيه تماماً أن أحب مدينة أخرى سوى حلب؟

بدأتُ ببيرة أمستيل مع جوان الذي سبقني إلى هنا قبل عامين، وأنتهي معه الآن في سجن صيدنايا حين أُغمي عليه، وأكاد أشم الروائح الكريهة التي تصدر عن البطن المنتفخة لنزيل مصاب بالسرطان معهم.

في الثالثة بعد منتصف الليل نقول: باي، يبقى هيكتور وحده، تقول كلارا فيما بعد أنه سيسافر إلى الأوروغواي ولن يمكث هنا أكثر من شهرين، كلاوديا سترافقنا حتى السوبر ماركت، تضحك ضحكة ًخفيفة حين تعلن أنها تشتهي أن تتناول الآيس كريم، وثم في ثوان تُغلق الباب، تحلُّ شعرها الذي ربطته حين قامت عن الكرسي، وتدخلُ معنا في قلب الأسانسور.

بروڤة

أخمّن مرة أخرى هذا اليوم وأنا أفكّر كم السينما تبدو قبيحة في الخلف.

قبل الظهيرة بساعتين بدأ الصراخ من البناء المنخفض الطويل الذي نطلّ عليه من الطابق الثالث، وحين رأيتُ مكبرات الصوت الضخمة المعلقة عبر السقف المتحرك المفتوح جزيئاً عرفتُ فيها الصالة التي نمرّ من أمامها في الشارع المتقاطع مع حيث نسكن في شارع فيكتوريا، وفيما كنتُ أنتبهُ إلى الأصوات الثلاثة تصرخ، والتي تعود ربما إلى حارس السينما وعشيقة وقد ضبطتهما زوجته، جاء المصلّح وبدأ يفحص الأنابيب في المطبخ، ثم قال إنه ينبغي أن نتصل بمالك البيت.

أفراد الشلة كانوا على القناعة أن طريق المطار سينغلق خلال أسبوعين، كانوا عائدين من عند تاجر يعمل بالشحن، قال أحدهم: إنه تابوت، فيما ردّ آخر بأن الصندوق يُحتمل والمسافة ليست أكثر من ثمانية عشر ساعة، ثم أخذوا إسفنجة من تلك التي ننام عليها وقارنوها بدابو المازوت الذي سيختبئون فيه حتى إيطاليا، فالأبعاد تقريباً هي نفسها متران طولاً وسبعون سنتيماً بالعرض، أما الارتفاع أربعون سنتيماً، أعلى من الأنف بأصابع، وقام أحدهم وجلب علبة الشطرنج، ورفعها عمودياً عند رأس الإسفنجة، لنتخيل الدابو تماماً، ثم أخذوا يتمددون على الجنب وكأنهم في الشاحنة التي ستدخلهم في الباخرة سراً.

يخاطبني المصلّح باليونانية وكأنني أفهم عليه تماماً، خمنّت وتوصل هو إلى ذلك بالفحص أن انثقاباً حدث في أنبوبة داخلية، لذلك بدأ الطرق، ثم توقف وقال اتصل بكوتراس، اتصلت بكوتراس وناولته الموبايل وبدأ يخاطبه بـ: تاسو، تركت الموبايل معه، وعبرتُ الصالة لأنظر إلى السقف الرطب للبناء المنخفض الذي مقابلنا، كان كالحاً وقديماً ومتشققاً يحجب ولا يحجب تماماً ثلاثة أصوات عالية، خلفي الأصوات التي أعرفها، وأمامي كان صراخاً يهدأ ويعود بعد عشرين دقيقة وبالإيقاع نفسه، كان صراخاً مدوزناً ويتقنه شكسبير لكنّ الممثلون يفلتونه في البروفات، أخمّن إذاً وأنتظر، أنتظر من سيردد باليونانية بعد قليل: يداي من لونك، لكن يخجلني أن أحمل قلباً أبيض جداً.

والريحُ بريّة

ونظرت لأرى اسمي الذي هو اسمه، لكني لم أر وجهي بل وجهه دون مطر يهطل عليه، ثم مشينا حتى فم الكامب، توقف وفتح فمه ثم قال: أنظر، نظرت، كان الفم مظلماً، أنظر، رأيت لساناً يهبط ويعلو، رأيت أسناناً بيضاء، أنظر، نظرت حتى رأيت نجمة تلمع.

قال: لقد رأيتُ الموت،
كانت يدكَ في الماء، يدي كانت في الدم.

كان قد حلق باكراً بشفرة جاهزة، وكان يربط شعره برباط بني نظيف، ويضع حلقاً فضياً في أذنه اليمنى، لكنه كان يتذمر من النباح الذي ظل ينبعث طوال الليل من صالة قريبة، حيث تجمع الكلاب في أقفاص كبيرة استعداداً لمعرض أوروبي سيقام بعد أسبوع.

كنا في المساحة الافتراضية التي هيئت كمطعم في ثلث المهجع الطويل، الذي يضم أربعمائة سرير وطاولتي بينبون وكنبات وثلاث طاولات صفت عليها أوراق اللعب وألف قطعة puzzle، تماماً كما في دوغفيل لارس فون تراير. مد يده إلى شطيرة مرتديلا وأخذ يلوكها مما بدا فمه أشبه بمؤخرة دجاجة تنغلق وهي تبيض، وظل يتجاهلني وهو يبلع وثم وهو يدلق عصير الزقوم وراءها.

قلت: هل تعرف نينا سيمون؟
قال: توهم ما شئت.

كنت أتكلم عما تفعله الأغاني، وعن الخريف والحرب، الحرب، الحرب، وعن أحد ما سينجو لأنه كان نائماً، وعن امرأة في الثلاثين تتطوع لمساعدة اللاجئين، سوداء لكنها هولندية ولدت هنا لعائلة هربت منذ خمسين سنة مضت، وبسبب الحرب أيضاً، كانت مرحة وهي توزع وجبات الطعام في مطعم الكامب، تنظر إلي كثيراً وتترنم بموسيقى جاز، لكنها اليوم صباحاً كانت قد…

قاطعني بوضع كفه الغليظة على فمي وقال:
لا تستعمل التواليت حين يكون القطار في المحطة.
وأردف:
حين أعود سأسمع ترجمتها منك إن كنت رجلاً.